خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا كَانَ عَلَىٰ رَبِّكَ حَتْماً مَّقْضِيّاً
٧١
-مريم

روح المعاني

{ وَإِن مّنكُمْ } التفات إلى خطاب الإنسان سواء أريد منه العموم أو خصوص الكفرة لإظهار مزيد الاعتناء بمضمون الكلام. وقيل: هو خطاب للناس وابتداء كلام منه عز وجل بعدما أتم الغرض من الأول فلا التفات أصلاً. ولعله الأسبق إلى الذهن لكن قيل يؤيد الأول قراءة ابن عباس وعكرمة وجماعة { وإن منهم } أي وما منكم أحد { إِلاَّ وَارِدُهَا } أي داخلها كما ذهب إلى ذلك جمع كثير من سلف المفسرين وأهل السنة، وعلى ذلك قول تعالى: { إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنتُمْ لَهَا وَارِدُونَ } [الأنبياء: 98]. وقوله تعالى في فرعون: { { يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ ٱلْقِيَـٰمَةِ فَأَوْرَدَهُمُ ٱلنَّارَ وَبِئْسَ ٱلْوِرْدُ ٱلْمَوْرُودُ } [هود: 98]. واحتج ابن عباس بما ذكر على ابن الأزرق حين أنكر عليه تفسير الورود بالدخول وهو جار على تقدير عموم الخطاب أيضاً فيدخلها المؤمن إلا أنها لا تضره على ما قيل، فقد أخرج أحمد والحكيم الترمذي وابن المنذر والحاكم وصححه وجماعة عن أبـي سمية قال: اختلفنا في الورود فقال بعضنا: لا يدخلها مؤمن. وقال آخر: يدخلونها جميعاً ثم ينجي الله تعالى الذين اتقوا فلقيت جابر بن عبد الله رضي الله تعالى / عنه فذكرت له فقال: وأهوى بإصبعيه إلى أذنيه صمتا إن لم أكن سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا يبق بر ولا فاجر إلا دخلها فتكون على المؤمن برداً وسلاماً كما كانت على إبراهيم عليه السلام حتى أن للنار ضجيجاً من بردهم ثم ينجي الله تعالى الذين اتقوا" ، وقد ذكر الإمام الرازي لهذا الدخول عدة فوائد في «تفسيره» فليراجع.

وأخرج عبد بن حميد وابن الأنباري والبيهقي عن الحسن: الورود المرور عليها من غير دخول، وروي ذلك أيضاً عن قتادة وذلك بالمرور على الصراط الموضوع على متنها على ما رواه جماعة عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه، ويمر المؤمن ولا يشعر بها بناء على ما أخرج ابن أبـي شيبة وعبد بن حميد والحكيم وغيرهم عن خالد بن معدان قال: إذا دخل أهل الجنة الجنة قالوا: ربنا ألم تعدنا أن نرد النار قال: بلى ولكنكم مررتم عليها وهي خامدة، ولا ينافي هذا ما أخرجه الترمذي والطبراني وغيرهما عن يعلى ابن أمية عن النبـي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "تقول النار للمؤمن يوم القيامة جز يا مؤمن فقد أطفأ نورك لهبـي" لجواز أن لا يكون متذكراً هذا القول عند السؤال أو لم يكن سمعه لاشتغاله، وأخرج ابن أبـي حاتم عن ابن زيد أنه قال في الآية: ورود المسلمين المرور على الجسر بين ظهريها وورود المشركين أن لا يدخلوها، ولا بد على هذا من ارتكاب عموم المجاز عند من لا يرى جواز استعمال اللفظ في معنيين، وعن مجاهد أن ورود المؤمن النار هو مس الحمى جسده في الدنيا لما صح من قوله صلى الله عليه وسلم: "الحمى من فيح جهنم" ولا يخفى خفاء الاستدلال به على المطلوب. واستدل بعضهم على ذلك بما أخرجه ابن جرير عن أبـي هريرة قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يعود رجلاً من أصحابه وعك وأنا معه فقال عليه الصلاة والسلام: "إن الله تعالى يقول هي ناري أسلطها على عبدي المؤمن لتكون حظه من النار في الآخرة" وفيه خفاء أيضاً؛ والحق أنه لا دلالة فيه على عدم ورود المؤمن المحموم في الدنيا النار في الآخرة، وقصارى ما يدل عليه أنه يحفظ من ألم النار يوم القيامة، وأخرج عبد بن حميد عن عبيد بن عمير أن الورود الحضور والقرب كما في قوله تعالى: { وَلَمَّا وَرَدَ مَاء مَدْيَنَ } [القصص: 23] واختار بعضهم أن المراد حضورهم جاثين حواليها، واستدل عليه بما ستعلمه إن شاء الله تعالى، ولا منافاة بين هذه الآية وقوله تعالى: { { أُوْلَٰئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ } [الأنبياء: 101] لأن المراد مبعدون عن عذابها، وقيل: المراد إبعادهم عنها بعد أن يكونوا قريباً منها.

{ كَانَ } أي ورودهم إياها { عَلَىٰ رَبِّكَ حَتْماً } أمراً واجباً كما روي عن ابن عباس، والمراد بمنزلة الواجب في تحتم الوقوع إذ لا يجب على الله تعالى شيء عند أهل السنة { مَّقْضِيّاً } قضى بوقوعه البتة. وأخرج الخطيب عن عكرمة أن معنى كان حتماً مقضياً كان قسماً واجباً، وروي ذلك أيضاً عن ابن مسعود والحسن وقتادة، قيل: والمراد منه إنشاء القسم، وقيل: قد يقال: إن { عَلَىٰ رَبِّكَ } المقصود منه اليمين كما تقول: لله تعالى عليَّ كذا إذ لا معنى له إلا تأكد اللزوم والقسم لا يذكر إلا لمثله، وعلى ورد في كلامهم كثيراً للقسم كقوله:

عليَّ إذا ما جئت ليلى أزورها زيارة بيت الله رجلان حافياً

فإن صيغة النذر قد يراد بها اليمين كما صرحوا به، ويجوز أن يكون المراد بهذه الجملة القسم كقولهم: عزمت عليك إلا فعلت كذا انتهى، ويعلم مما ذكر المراد من القسم فيما أخرجه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي وابن ماجه وغيرهم عن أبـي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يموت لمسلم ثلاثة من / الولد فيلج النار إلا تحلة القسم" . وقال أبو عبيدة وابن عطية وتبعهما غير واحد: إن القسم في الخبر إشارة إلى القسم في المبتدأ أعني { وَإِن مّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا }، وصرح بعضهم أن الواو فيه للقسم، وتعقب ذلك أبو حيان بأنه لا يذهب نحوي إلى أن مثل هذه الواو واو قسم لأنه يلزم من ذلك حذف المجرور وإبقاء الجار وهو لا يجوز إلا إن وقع في شعر أو نادر كلام بشرط أن تقوم صفة المحذوف مقامه كما في قوله:

والله ما ليلي ينام صاحبه

وقال أيضاً: نص النحويون على أنه لا يستغنى عن القسم بالجواب لدلالة المعنى إلا إذا كان الجواب باللام أو بأن وأين ذلك في الآية، وجعل ابن هشام تحلة القسم كناية عن القلة وقد شاع في ذلك، ومنه قوله كعب:

تخذي على يسرات وهي لاحقة ذوابل مسهن الأرض تحليل

فإن المعنى مسهن الأرض قليل كما يحلف الإنسان على شيء ليفعلنه فيفعل منه اليسير ليتحلل به من قسمه ثم قال: إن فيما قاله جماعة من المفسرين من أن القسم على الأصل وهو إشارة إلى قوله تعالى: { وَإِن مّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا } الخ نظراً لأن الجملة لا قسم فيها إلا إن عطفت على الجمل التي أجيب بها القسم من قوله تعالى: { فَوَرَبّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ } [مريم: 68] إلى آخرها وفيه بعد انتهى. والخفاجي جوز الحالية والعطف، وقال: حديث البعد غير مسموع لعدم تخلل الفاصل وهو كما ترى، ولعل الأسلم من القيل والقال جعل ذلك مجازاً عن القلة وهو مجاز مشهور فيما ذكر، ولايعكر على هذا ما أخرجه أحمد والبخاري في «تاريخه» والطبراني وغيرهم عن معاذ بن أنس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من حرس من وراء المسلمين في سبيل الله تعالى متطوعاً لا يأخذه سلطان لم ير النار بعينه إلا تحلة القسم فإن الله تعالى يقول: { وَإِن مّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا }" فإن التعليل صحيح مع إرادة القلة من ذلك أيضاً فكأنه قيل: لم ير النار إلا قليلاً لأن الله تعالى أخبر بورود كل أحد إياها ولا بد من وقوع ما أخبر به ولولا ذلك لجاز أن لا يراها أصلاً.