{ وَإِذْ قَالَ إِبْرٰهِيمُ } بيان لتسديد المؤمنين إثر بيان ولمغايرته لما تقدم كما سنشير إليه إن شاء الله تعالى غير الأسلوب والظرف منتصب إما بمضمر صرح بمثله في قوله تعالى:
{ { وَٱذكُرُواْ إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاء } [الأعراف: 69] وإيجاب ذكر الوقت إيجاب لذكر ما فيه بطريق برهاني وإما ـ بقال ـ الآتي وقد تقدم تحقيق ذلك { رَبِّ } كلمة استعطاف شرع ذكرها قبل الدعاء مبالغة في استدعاء الإجابة { أَرِنِي } من الرؤية البصرية المتعدية بهمزة النقل إلى مفعولين فالباء مفعوله الأوّل وقوله تعالى: { كَيْفَ تُحْيِىْ ٱلْمَوْتَىٰ } في محل مفعوله الثاني المعلق عنه، وإلى ذلك ذهب أكثر المعربين، واعترض بأن البصرية لا تعلق، وأجيب بأن ذلك إنما ذكره بعض النحاة، ورده ابن هشام بأنه سمع تعليقها، وفي «شرح التوضيح» يجوز كونها علمية، ومن الناس من لم يجعل ما هنا من التعليق في شيء وجعل كلمة { كَيْفَ } الخ في تأويل مصدر هو المفعول كما قاله ابن مالك في قوله تعالى: { وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ } [إبراهيم: 45]. ثم الاستفهام ـ بكيف ـ إنما هو سؤال عن شيء متقرر الوجود عند السائل والمسؤول، فالاستفهام هنا عن هيئة الإحياء المتقرر عند السائل أي ـ بصرني كيفية إحيائك للموتى ـ وإنما سأله عليه السلام لينتقل من مرتبة علم اليقين إلى عين اليقين، وفي الخبر «ليس الخبر كالمعاينة» وكان ذلك حين رأى جيفة تمزقها سباع البر والبحر والهواء قاله الحسن والضحاك وقتادة، وهو المروي عن أهل البيت، وروي عن ابن عباس والسدي وسعيد بن جبير أن الملك بشره عليه السلام بأن الله تعالى قد اتخذه خليلاً وأنه يجيب دعوته ويحيـى الموتى بدعائه فسأل لذلك، وروى عن محمد بن إسحاق بن يسار أن سبب السؤال منازعة النمروذ إياه في الإحياء حيث رد عليه لما زعم أن العفو إحياء وتوعده بالقتل إن لم يحي الله تعالى الميت بحيث يشاهده فدعا حينئذ.
{ قَالَ } استئناف مبني على السؤال والضمير للرب { أَوَ لَمْ تُؤْمِنَ } عطف على مقدر ـ أي ألم تعلم ولم تؤمن بأني قادر على الإحياء كيف أشاء حتى تسألني عنه ـ أو بأني قد اتخذتك خليلاً، أو بأن الجبار لا يقتلك { قَالَ } أي إبراهيم { بَلَىٰ } آمنت بذلك { وَلَـٰكِنْ } سألت { لّيَطْمَئِنَّ } أي يسكن { قَلْبِي } بمضامة الأعيان إلى الإيمان والإيقان بأنك قادر على ذلك، أو: ليطمئن قلبـي بالخلة أو بأن الجبار لا يقتلني، وعلى كل تقدير لا يعود نقص على إبراهيم من هذا السؤال ولا ينافي منصب النبوة أصلاً.
وللناس ولوع بالسؤال عن هذه الآية ـ وما ذكر هو المشهور فيها ـ ويعجبني ما حرره بعض المحققين في هذا المقام وبسطه في الذب عن الخليل عليه السلام من الكلام، وهو أن السؤال لم يكن عن شك في أمر ديني والعياذ بالله ولكنه سؤال عن كيفية الإحياء ليحيط علماً بها وكيفية الإحياء لا يشترط في الإيمان الإحاطة بصورتها، فالخليل عليه السلام طلب علم ما لا يتوقف الإيمان على علمه، ويدل على ذلك ورود السؤال بصيغة { كَيْفَ } وموضوعها السؤال عن الحال، ونظير هذا أن يقول القائل: كيف يحكم زيد في الناس فهو لا يشك أنه يحكم فيهم ولكنه سأل عن كيفية حكمه المعلوم ثبوته ولو كان سائلاً عن/ ثبوت ذلك لقال ـ أيحكم زيد في الناس ـ ولما كان الوهم قد يتلاعب ببعض الخواطر فتنسب إلى إبراهيم وحاشاه شكاً من هذه الآية قطع النبـي صلى الله عليه وسلم دابر هذا الوهم بقوله على سبيل التواضع:
"نحن أحق بالشك من إبراهيم" أي ونحن لم نشك فلأن لا يشك إبراهيم أحرى، وقيل: إن الكلام مع أفعل جاء هنا لنفي المعنى عن الحبيب والخليل عليهما الصلاة والسلام أي لا شك عندنا جميعاً، ومن هذا الباب { { أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ } [الدخان: 37] أي لا خير في الفريقين، وإنما جاء التقرير بعد لأن تلك الصيغة وإن كانت تستعمل ظاهراً في السؤال عن الكيفية كما علمت إلا أنها قد تستعمل أيضاً في الاستعجاز كما إذا ادعى مدع أنه يحمل ثقلاً من الأثقال وأنت جازم بعجزه عن حمله فتقول له: أرني كيف تحمل هذا وتريد أنك عاجز عن حمله فأراد سبحانه لما علم براءة الخليل عن الحوم حول حمى هذا المعنى أن ينطقه في الجواب بما يدفع عنه ذلك الاحتمال اللفظي في العبارة الأولى ليكون إيمانه مخلصاً بعبارة تنص عليه بفهمها كل من يسمعها فهماً لا يتخالجه فيه شك، ومعنى الطمأنينة حينئذ سكون القلب عن الجولان في كيفيات الإحياء المحتملة بظهور التصوير المشاهد، وعدم حصول هذه الطمأنينة قبل لا ينافي حصول الإيمان بالقدرة على الإحياء على أكمل الوجوه، ولا أرى رؤية الكيفية زادت في إيمانه المطلوب منه عليه السلام شيئاً وإنما أفادت أمراً لا يجب الإيمان به، ومن هنا تعلم أن علياً كرم الله تعالى وجهه لم يثبت لنفسه مرتبة في الإيمان أعلى من مرتبة الخليل فيه بقوله: لو كشف لي الغطاء ما ازددت يقيناً كما ظنه جهلة الشيعة. وكثير من أصحابنا لما لم يقف على ما حررنا تجشم لدفع ما عسى أن يتوهم من كلامي الخليل والأمير من أفضلية الثاني على الأول فبعض دفعه بأن اليقين يتصور أن يطرأ عليه الجحود لقوله تعالى:
{ { وَجَحَدُواْ بِهَا وَٱسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ } [النمل: 14] والطمأنينة لا يتصور طرو ذلك عليها ـ ونسب هذا لحجة الإسلام الغزالي ـ وفي القلب منه شيء، وبعض قرر في دفعه أن مقام النبوة مغاير لمقام الصديقية، فلمقام النبوة طمأنينة وعدم طمأنينته بحسبه، ولمقام الصديقية طمأنينة وعدم طمأنينته بحسبه أيضاً، وطمأنينة مقام النبوة كانت لخاتم النبيين صلى الله عليه وسلم كما كشف عنها بقوله تعالى: { { أَلَمْ تَرَ إِلَىٰ رَبّكَ كَيْفَ مَدَّ ٱلظّلَّ } [الفرقان: 45] على ما يعرفه أهل الذوق من الآية وكان الاستعداد من إبراهيم وكذا من موسى عليهما السلام متوجهاً إلى ابتغاء تلك الطمأنينة كما أبانا عن أنفسهما بـ { رَبّ أَرِنِى كَيْفَ تُحْيِىْ ٱلْمَوْتَىٰ } و { رَبّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ } [الأعراف: 143] وطمأنينة مقام الصديقية كانت للصديقين من أمة محمد صلى الله عليه وسلم كما أبدى عن نفسه إمام الصديقين كرم الله تعالى وجهه بقوله: «لو كشف» الخ، وكان الاستعداد في صدِّيقي سائر الأنبياء متوجهاً إلى ابتغاء تلك الطمأنينة فثبتت الفضيلة لمحمد صلى الله عليه وسلم على سائر إخوانه من الأنبياء والصديقية على سائر الصديقين من أممهم ولم يثبت لصديقيه لوجدانهم طمأنينتهم الفضيلة على الأنبياء عند فقدانهم طمأنينتهم لأن ما فقدوه من الطمأنينة غير ما وجده الصديقون منها لأنهم إنما يفقدون الطمأنينة اللائقة بمقام النبوة والصديقون لم يجدوا مثل تلك الطمأنينة وإنما وجدوا طمأنينة لائقة بمقام الصديقين ولو رضي النبيون بمثله لكان حاصلاً لهم، وأجل من ذلك بعدة مراتب ولقد اعترف الصديق الأكبر رضي الله تعالى عنه بهذا التخلف حين بلغه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: إني لأسهو فقال: يا ليتني كنت سهو محمد صلى الله عليه وسلم إذ علم أن ما يعده رسول الله صلى الله عليه وسلم من نفسه الكريمة سهواً فوق أعلى يقظان الصديق إذ حسنات الأبرار سيآت المقربين وحسنات المقربين سيآت النبيين، وهذا أولى مما سبق. وبعض من المتصوفة كجهلة الشيعة التزموا ظاهر كل من الكلامين وزعموا أن أولياء هذه الأمة وصديقيهم أعلى كعباً من الأنبياء ولو نالوا مقام الصديقية/ محتجين بما روي عن الإمام الرباني سيدي وسندي عبد القادر الكيلاني قدس سره أنه قال: يا معاشر الأنبياء الفرق بيننا وبينكم بالألقاب وأوتينا ما لم تؤتوه، وببعض عبارات للشيخ الأكبر قدس سره ينطق بذلك، وأنت تعلم أن التزام ذلك والقول به خرق لإجماع المسلمين ومصادم للأدلة القطعية على أفضلية الأنبياء على سائر الخلق أجمعين، ويوشك أن يكون القول به كفراً بل قد قيل به، وما روي عن الشيخ عبد القادر قدس سره فمما لم يثبت نقله عنه في كتاب يعول عليه، وما يعزى إلى الشيخ الأكبر قدس سره فتعارضه عبارات له أخر مثل قوله قدس سره ـ وهو الذي تعلم ترجمته لنفسه وعده إياها من أكبر الصديقين بل خاتم الولاية الخاصة ـ والمقام المحمدي فتح لي قدر خرم إبرة من مقام النبوة تجليّاً لا دخولاً فكدت أحترق، وبتقدير تسليم ما نقل عمن نقل والقول بعدم قوة المعارض لنا أن نقول: إن ذلك القول صدر عن القائل عند فنائه في الحقيقة المحمدية والذات الأحمدية فاللسان حينئذ لسانها والقول قولها ولم يصدر ذلك منه حين رؤية نفسه، والوقوف عند رتبته ـ وهذا غير ما ذهب إليه الشيعة ـ وبعيد عنه بمراحل، ولعل النوبة تفضي إلى تحقيقه بأتم من هذا إن شاء الله تعالى، فخزائن الفكر ولله الحمد مملوءة، ولكل مقام مقال.
هذا وذكر الزمخشري أن المراد بالطمأنينة هنا العلم الذي لا مجال للتشكيك فيه وهو علم الضرورة المخالف لعلم الاستدلال حيث يجوز معه ذلك، واعترض بأن العلم الموقوف على سبب لا يتصور فيه تشكيك ما دام سببه مذكوراً في نفس العالم وإنما الذي قبل التشكيك قبولاً مطلقاً هو الاعتقاد وإن كان صحيحاً وسببه باق في الذكر وبهذا ينحط الاعتقاد الصحيح عن العلم، وأجيب بأن هذا مبني على تفسير العلم بأنه صفة توجب تمييزاً لا يحتمل النقيض بوجه ـ على ما ذكره ابن الحاجب في «مختصره» ـ وقد قيل عليه ما قيل فتدبر.
واللام في { لّيَطْمَئِنَّ } لام كي والفعل منصوب بعدها بإضمار أن، وليس بمبنى كما ـ زلق السمين ـ ومتعلق اللام محذوف كما أشرنا حذف ـ ما ـ منه الاستدراك، وقيل: المتعلق { أَرِنِي } ولا أراه شيئاً، والماضي للفعل ـ اطمأن على وزن اقشعر، واختلف هل هو مقلوب أم لا؟ فمذهب سيبويه أنه مقلوب من ـ اطأمن ـ فالطاء فاء الكلمة والهمزة عينها، والميم لامها فقدمت اللام التي هي الميم على العين وهي الهمزة فوزنه افلعل، ومذهب الجرمي أنه غير مقلوب وكأنه يقول ـ اطأمن واطمأن ـ مادتان مستقلتان ومصدره الطمأنينة بسكون الميم وفتح الهمزة، وقيل: طمانينه بتخفيف الهمزة وهو قياس مطرد عند الكوفيين وهو على غير قياس المصادر عند الجميع إذ قياس اطمأن أن يكون مصدره على الاطمئنان، وقرىء ـ أرني ـ بسكون الراء.
{ قَالَ } أي الرب { فَخُذْ } الفاء لجواب شرط محذوف أي إن أردت ذلك فخذ. { أَرْبَعَةً مّنَ ٱلطَّيْرِ } المشهور أنه اسم جمع كركب وسفر، وقيل: بل هو جمع طائر كتاجر وتجر ـ وإليه ذهب أبو الحسن ـ وقيل: بل هو مخفف من طير بالتشديد، وقال أبو البقاء: هو في الأصل مصدر طار يطير ثم سمي به هذا الجنس وألحقت التاء في عدده لاعتباره مذكراً واسم الجنس لما لا يعقل يذكر ويؤنث والجار متعلق بمحذوف وقع صفة لما قبله أو متعلق ـ بخذ ـ والمروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنها الغرنوق، والطاوس، والديك، والحمامة، وعن مجاهد بدل الغرنوق الغراب، وفي رواية بدل الحمامة بطة، وفي رواية نسر، وتخصيص الطير بذلك لأنه أقرب إلى الإنسان باعتبار طلبه المعاش والمسكن ولذلك وقع في الحديث
"لو توكلتم على الله تعالى حق توكله لرزقكم كما ترزق الطير تغدو خماصاً وتروح بطاناً" ولأنه أجمع لخواص الحيوان ولسهولة تأتي ما يفعل به من التجزئة والتفرقة ولما فيه من مزيد أجزاء من الريش ففي إحيائها مزيد ظهور القدرة/ ولأن من صفته الطيران في السماء وكان من همة إبراهيم عليه الصلاة والسلام الميل إلى جهة العلو والوصول إلى الملكوت فكانت معجزته مشاكلة لهمته. { فَصُرْهُنَّ } قرأ حمزة ويعقوب بكسر الصاد، والباقون بضمها مع التخفيف من ـ صاره يصوره ويصيره ـ لغتان بمعنى قطعه أو أماله لأنه مشترك بينهما كما ذكره أبو علي، وقال الفراء: الضم مشترك بين المعنيين، والكسر بمعنى القطع فقط، وقيل: الكسر بمعنى القطع، والضم بمعنى الإمالة، وعن الفراء إن صاره مقلوب صراه عن كذا قطعه، والصحيح أنه عربـي وعن عكرمة أنه نبطي، وعن قتادة أنه حبشي، وعن وهب أنه رومي، فإن كان المراد ـ أملهن ـ فقوله تعالى: { إِلَيْكَ } متعلق به وإن كان المراد ـ فقطعهن ـ فهو متعلق ـ بخذ ـ باعتبار تضمينه معنى الضم، واختار أبو البقاء أن يكون حالاً من المفعول المضمر أي ـ فقطعهن مقربة ممالة ـ إليك ـ وزعم ابن هشام ـ تبعاً لغيره ـ أنه لا يصح تعليق الجار ـ بصرهن ـ مطلقاً إن لم يقدر مضاف أي إلى نفسك محتجاً بأنه لا يتعدى فعل غير علمي عامل في ضمير متصل إلى المنفصل، ورد بأنه إنما يمنع إذا كان متعدياً بنفسه أما المتعدي بحرف فهو جائز كما صرح به علماء العربية.
وقرأ ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ـ فصرهن ـ بتشديد الراء مع ضم الصاد وكسرها من صره إذا جمعه، والراء إما مضمومة للاتباع أو مفتوحة للتخفيف، أو مكسورة لالتقاء الساكنين، وعنه أيضاً ـ فصرهن ـ من التصرية بفتح الصاد وكسر الراء المشددة وأصلها تصررة فأبدل أحد أحرف التضعيف ياءاً وهي في الأصل من صريت الشاة إذا لم تحلبها أياماً حتى يجتمع اللبن في ضرعها ثم استعمل في مجرد معنى الجمع ـ أي اجمعهن وضمهن إليك لتتأملها وتعرف شأنها مفصلة حتى تعلم بعد الإحياء أن جزءاً من أجزائها لم ينتقل من موضعه الأول أصلاً ـ.
{ ثُمَّ ٱجْعَلْ } أي ألق أو صير بعد ذبحهن وخلط لحومهن وريشهن ودمائهن كما قاله قتادة. { عَلَىٰ كُلّ جَبَلٍ } يمكنك الوضع عليه ولم يعين له ذلك ـ كما روي عن مجاهد، والضحاك ـ وروي عن ابن عباس والحسن، وقتادة أن الجبال كانت أربعة، وعن ابن جريج، والسدي أنها كانت سبعة، وعن أبـي عبد الله رضي الله تعالى عنه أنها كانت عشرة { مِنْهُنَّ } أي من تلك الطير { جُزْءاً } أي قطعة، وبعضاً ربعاً، أو سبعاً أو عشراً أو غير ذلك؛ وقرىء (جزءاً) بضمتين و (جزاً) بطرح همزته تخفيفاً ثم تشديده عند الوقف ثم إجراء الوصل مجرى الوقف وهو مفعول ـ لاجعل ـ والجاران قبله متعلقان بالفعل، ويجوز أن يكون على كل مفعولاً ثانياً له إن كان بمعنى صير، و { مِنْهُنَّ } حال من { جُزْءا } لأنه في الأصل صفة للنكرة قدمت عليها.
{ ثُمَّ ٱدْعُهُنَّ } أي نادهنّ، أخرج ابن المنذر عن الحسن قال: إنه عليه الصلاة والسلام نادى أيتها العظام المتمزقة واللحوم المتفرقة والعروق المتقطعة اجتمعي يرد الله تعالى فيكن أرواحكن فوثب العظم إلى العظم وطارت الريشة إلى الريشة وجرى الدم إلى الدم حتى رجع إلى كل طائر دمه ولحمه وريشه ثم أوحى الله تعالى إلى إبراهيم إنك سألتني كيف أحي الموتى وأني خلقت الأرض وجعلت فيها أربعة أرواح: الشمال والصبا والجنوب والدبور حتى إذا كان يوم القيامة نفخ نافخ في الصور فيجتمع من في الأرض من القتلى والموتى كما اجتمعت أربعة أطيار من أربعة جبال ثم قرأ:
{ { مَّا خَلْقُكُمْ وَلاَ بَعْثُكُمْ إِلاَّ كَنَفْسٍ وٰحِدَةٍ } [لقمان: 28] وعن مجاهد أنه دعاهن باسم إله إبراهيم تعالين، واستشكل بأن دعاء الجماد غير معقول، وأجيب بأنه من قبيل دعاء التكوين، وقيل: في الآية حذف كأنه قيل: فقطعهن ثم اجعل على كل جبل من كل واحد منهن جزءاً فإن الله تعالى يحييهن فإذا أحياهن فادعهن. / { يَأْتِينَكَ سَعْيًا } فالدعاء إنما وقع بعد الإحياء. ولا يخفى أن الآثار مع ما فيه من التكلف لا تساعده، وأعظم منه فساداً ما قيل: إنه عليه الصلاة والسلام جعل على كل جبل منهن طيراً حياً ثم دعاها فجاءت فإن ذلك مما يبطل فائدة الطلب ويعارض الأخبار الصحيحة فإن أكثرها ناطق بأنه دعاها ميتة متفرقة الأجزاء، وفي بعضها أن رؤوسهن كانت بيده فلما دعاهن جعل كل جزء منهن يأتي إلى صاحبه حتى صارت جثثاً ثم أقبلن إلى رؤوسهن فانضمت كل جثة إلى رأسها فعادت كل واحدة منهن إلى ما كانت عليه من الهيئة، و (سعياً) حال من فاعل ـ يأتينك ـ أي ساعيات مسرعات، أو ذوات سعي طيراناً أو مشياً، وقيل: إطلاق السعي على الطيران مجاز، وجوز أن يكون منصوباً على المصدرية كقعدت جلوساً.
ومن الغريب ما نقل عن النضر بن شميل قال: سألت الخليل بن أحمد عن قوله تعالى: { يَأْتِينَكَ سَعْيًا } هل يقال الطائر إذا طار سعى؟ فقال: لا قلت: فما معناه؟ قال: معناه: يأتينك وأنت تسعى سعياً ـ وهو من التكلف الغير المحتاج إليه بمكان ـ وإنما اقتصر سبحانه على حكاية أوامره جل شأنه من غير تعرض لامتثال خليله عليه الصلاة والسلام، ولا لما ترتب عليه من آثار قدرته التي علمت النزر منها للإيذان بأن ترتب تلك الأمور على الأوامر الجليلة واستحالة تخلفها عنها من الجلاء والظهور بحيث لا حاجة له إلى الذكر أصلاً، وزعم بعضهم أن الخليل عليه الصلاة والسلام لم يفعل شيئاً مما اقتضاه ظاهر الكلام وأن الأوامر فيه مثلها في قولك لمن لا يعرف تركيب الحبر مثلاً: خذ كذا وكذا وأمكنهما سحقاً وألق عليهما كذا وكذا وضع ذلك في الشمس مدة أيام ثم استعمله تجده حبراً جيداً فإنه لا يقتضي الامتثال إذ كان الغرض مجرد تعليم.
و ـ الرؤية ـ هنا علمية كما نقل عن «شرح التوضيح»، وإبراهيم حصل له العلم التام بمجرد وصف الكيفية واطمأن قلبه وسكن لبه، ولهذا لم يذكر الله تعالى ما ترتب على هذه الأوامر من هاتيك الأمور ولم يتعرض للامتثال ولم يعبأ بالإيماء إليه ـ بقال ـ أو حال، ومال إلى هذا القول أبو مسلم فأنكر القصة أيضاً، وقال: إن إبراهيم عليه الصلاة والسلام لما طلب إحياء الموتى من ربه سبحانه وأراه مثالاً محسوساً قرب الأمر عليه، والمراد ـ بصرهن ـ أملهن ومرنهنّ على الإجابة ـ أي عود الطيور الأربعة بحيث إذا دعوتها أجابتك حال الحياة ـ والغرض منه ذكر مثال محسوس لعود الأرواح إلى الأجساد على سبيل السهولة ولا يخفى أن هذا خلاف إجماع المسلمين، وضرب من الهذيان لا يركن إليه أرباب الدين وعدول عما يقتضيه ظاهر الآية المؤيد بالأخبار الصحيحة والآثار الرجيحة إلى ما تمجه الأسماع ولا يدعو إليه داع فالحق اتباع الجماعة ويد الله تعالى معهم.
وفي الآية دليل لمن ذهب إلى أن إحياء الموتى يوم القيامة بجمع الأجزاء المتفرقة وإرسال الروح إليها بعد تركيبها وليس هو من باب إعادة المعدوم الصرف لأنه سبحانه بين الكيفية بالتفريق ثم الجمع وإعادة الروح ولم يعدم هناك سوى الجزء الصوري والهيئة التركيبية دون الأجزاء المادية، واحتج بها بعضهم أيضاً على أن البنية ليست شرطاً في الحياة لأنه تعالى جعل كل واحد من تلك الأجزاء والأبعاض حياً قادراً على السعي والعدو، وقال القاضي: دلت الآية على أنه لا بد من البنية حيث أوجب التقطيع بطلان الحياة، وأجيب بأن حصول المقارنة لا يدل على وجوب المقارنة، والانفكاك في بعض الأحوال يدل على أن المقارنة حيث حصلت ما كانت واجبة ولما دلت الآية على حصول فهم النداء لتلك الأجزاء كانت دليلاً قاطعاً على أن البنية ليست شرطاً للحياة ـ وفيه تأمل ـ.
والمشهور أنها حجة على من ذهب إلى أن الإيمان لا يزيد/ ولا ينقص وهي ظاهرة في أنه يزيد في الكيف وإن كان لا يزيد في الكم لكن المكلف به هو الجزم الحاصل بالنظر والاستدلال، ويسميه البعض علم اليقين لا الجزم الكائن بالمشاهدة المسمى بعين اليقين فإن في التكليف به حرجاً في الدين، وأنت تعلم أن في دلالة الآية على زيادة الإيمان ونقصه بناءاً على الوجه الذي أشرنا إلى اختياره تردداً كما لا يخفى؛ وفيها أيضاً دليل على فضل الخليل عليه الصلاة والسلام ويمن الضراعة في الدعاء وحسن الأدب في السؤال حيث أراه سبحانه ما سأله في الحال على أيسر ما يكون من الوجوه، وأرى عزيراً عليه السلام ما أراه بعد ما أماته مائة عام.
{ وَٱعْلَمْ أَنَّ ٱللَّهَ عَزِيزٌ } غالب على أمره { حَكِيمٌ } ذو حكمة بالغة في أفعاله فليس بناء أفعاله على الأسباب العادية لعجزه عن خرق العادات بل لكونه متضمناً للحكم والمصالح، حكي أن الله سبحانه لما وفى لإبراهيم عليه الصلاة والسلام بما سأل قال له: يا إبراهيم نحن أريناك كيف نحي الموتى فأرنا أنت كيف تميت الأحياء مشيراً إلى ما سيأمره به من ذبح ولده عليه الصلاة والسلام وهو من باب الانبساط مع الخليل ودائرة الخلة واسعة إلا أن حفاظ المحدثين لم يذكروا هذا الخبر وليس له رواية في «كتب الأحاديث» أصلاً.
ومن باب الإشارة في هذه القصة: { وَإِذْ قَالَ إِبْرٰهِيمُ رَبّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِىْ ٱلْمَوْتَىٰ } أي موتى القلوب بداء الجهل { قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن } أي ألم تعلم ذلك علماً يقينياً { قَالَ بَلَىٰ } أعلم ذلك.
ولكن للعيان لطيف معنى له سأل المشاهدة الخليل
وهو المشار إليه بقوله سبحانه: { لّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي } الذي هو عرشك { قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مّنَ ٱلطَّيْرِ } إشارة إلى طيور الباطن التي في قفص الجسم، وهي أربعة من أطيار الغيب والعقل، والقلب، والنفس، والروح { فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ } أي ضمهن واذبحهن، فاذبح طير العقل بسكين المحبة على باب الملكوت، واذبح طير القلب بسكين الشوق على باب الجبروت، واذبح طير النفس بسكين العشق في ميادين الفردانية، واذبح طير الروح بسكين العجز في تيه عزة أسرار الربانية { ثُمَّ ٱجْعَلْ عَلَىٰ كُلّ جَبَلٍ مّنْهُنَّ جُزْءا } فاجعل العقل على جبل العظمة حتى يتراكم عليه أنوار سلطنة الربوبية فيصير موصوفاً بها ليدركني بـي بعد فنائه في، واجعل القلب على جبل الكبرياء حتى ألبسه سناء قدسي فيتيه في بيداء التفكر منعوتاً بصرف نور المحبة، واجعل النفس على جبل العزة حتى ألبسها نور العظمة لتصير مطمئنة عند جريان ربوبيتي عليها فلا تنازعني في العبودية ولا تطلب أوصاف الربوبية، واجعل الروح على جبل جمال الأزل حتى ألبسها نور النور وعز العز وقدس القدس لتكون منبسطة في السكر مطمئنة في الصحو عاشقة في الانبساط راسخة في التجليات { ثُمَّ ٱدْعُهُنَّ } ونادهنّ بصوت سر العشق { يَأْتِينَكَ سَعْيًا } إلى محض العبودية بجمال الأحدية { وَٱعْلَمْ أَنَّ ٱللَّهَ عَزِيزٌ } يعزك بعرفانك هذه المعاني واطلاعك على صفاته القديمة { حَكِيمٌ } في ظهوره بغرائب التجلي لأسرار باطنك، وقد يقال: أشار سبحانه بالأربعة من الطير إلى القوى الأربعة التي تمنع العبد عن مقام العيان وشهود الحياة الحقيقية، ووقع في أثر أنها كانت طاوساً، وديكاً، وغراباً، وحمامة، ولعل الطاوس إشارة إلى العجب والديك إلى الشهوة والغراب إلى الحرص، والحمامة إلى حب الدنيا لإلفها الوكر والبرج، وفي أثر بدل الحمامة بطة، وفي آخر نسر، وكان الأول: إشارة إلى الشره الغالب، والثاني: إلى طول الأمل، ومعنى { فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ } حينئذ ضمهنّ وأملهنّ إليك بضبطها ومنعها عن الخروج إلى طلب لذاتها والنزوع إلى مألوفاتها، وفي الأثر أنه عليه الصلاة والسلام أمر بأن يذبحها وينتف ريشها ويخلط لحومها ودماءها بالدق ويحفظ رؤوسها عنده ـ أي يمنعها عن أفعالها ويزيل هيآتها عن النفس ويقمع دواعيها وطبائعها وعادتها بالرياضة/ ويبقي أصولها فيه ـ ثم أمر أن يجعل على كل جبل من الجبال التي بحضرته وهي العناصر الأربعة التي هي أركان بدنه جزءاً منهنّ وكأنه عليه الصلاة والسلام أمر بقمعها وإماتتها حتى لا يبقى إلا أصولها المركوزة في الوجود والمواد المعدة في طبائع العناصر التي هي فيه، وفي رواية أن الجبال كانت سبعة فعلى هذا يشير بها إلى الأعضاء السبعة التي هي أجزاء البدن، وفي أخرى أنها كانت عشرة وعليها ربما تكون إشارة إلى الحواس الظاهرة والباطنة، وأشار سبحانه بالأمر بالدعاء إلى أنه إذا كانت هاتيك الصفات حية بحياتها كانت غير منقادة وحشية ممتنعة عن قبول الأمر فإذا قتلت كانت حية بالحياة الحقيقية الموهومة بعد الفناء والمحو وهي حياة العبد وعند ذلك تكون مطيعة منقادة متى دعيت أتت سعياً وامتثلت طوعاً وذلك هو الفوز العظيم.