خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَىٰ ٱلْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِن بَعْدِهِ بِٱلرُّسُلِ وَآتَيْنَا عِيسَى ٱبْنَ مَرْيَمَ ٱلْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ ٱلْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَآءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَىٰ أَنْفُسُكُمْ ٱسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ
٨٧
-البقرة

روح المعاني

{ وَلَقَدْ ءاتَيْنَا مُوسَىٰ ٱلْكِتَـٰبَ } شروع في بيان بعض آخر من جناياتهم، وتصديره بالجملة القسمية لإظهار كمال الاعتناء به، و ـ الايتاء ـ الاعطاء، و (الكتاب) التوراة في قول الجمهور وهو مفعول ثان ـ لآتينا ـ وعند السهيلي مفعول أول، والمراد بإتيانها له إنزالها عليه. وقد روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن التوراة نزلت جملة واحدة فأمر الله تعالى موسى عليه السلام بحملها فلم يطق فبعث بكل حرف منها ملكاً فلم يطيقوا حملها فخففها الله تعالى لموسى عليه السلام فحملها، وقيل: يحتمل أن يكون ـ آتينا ـ الخ أفهمناه ما انطوى عليه من الحدود والأحكام والأنباء والقصص وغير ذلك مما فيه، والكلام على حذف مضاف أي علم ـ الكتاب ـ أو فهمه وليس بالظاهر.

{ وَقَفَّيْنَا مِن بَعْدِهِ بِٱلرُّسُلِ } يقال ـ قفاه ـ إذا اتبعه ـ وقفاه ـ به إذا أتبعه إياه من ـ القفا ـ وأصل هذه الياء واو لأنها متى وقعت رابعة أبدلت كما تقول عريت من العرو أي أرسلناهم على أثره كقوله تعالى: { ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَا } [المؤمنون: 44] وكانوا إلى زمن عيسى عليه السلام أربعة آلاف، وقيل: سبعين ألفاً وكلهم على شريعته عليه السلام منهم يوشع وشمويل وشمعون. وداود وسليمان وشعياء وارمياء وعزيز وحزقيل والياس واليسع ويونس وزكريا ويحيـى وغيرهم عليهم الصلاة والسلام، وقرأ الحسن ويحيـى بن يعمر ـ بالرسل ـ بتسكين السين، وهو لغة أهل الحجاز والتحريك لغة تميم.

{ وَءاتَيْنَا عِيسَى ٱبْنَ مَرْيَمَ ٱلْبَيِّنَـٰتِ } أي الحجج الواضحة الدالة على نبوته فتشمل كل معجزة ـ أوتيها ـ عليه السلام وهو الظاهر، وقيل: الإنجيل، وعيسى أصله بالعبرانية أيشوع بهمزة ممالة بين بين، أو مكسورة ـ ومعناه السيد ـ وقيل: المبارك فعرب، والنسبة إليه عيسي وعيسوي وجمعه عيسون بفتح السين ـ وقد تضم ـ وأفرده عن الرسل عليه السلام لتميزه عنهم لكونه من أولي العزم وصاحب كتاب، وقيل: لأنه ليس متبعاً لشريعة موسى عليه السلام حيث نسخ كثيراً من شريعته، وأضافه إلى أمه رداً على اليهود إذ زعموا أن له أباً، ومريم بالعبرية الخادم وسميت أم عيسى به لأن أمها نذرتها لخدمة بيت المقدس، وقيل: العابدة، وبالعربية من النساء من تحب محادثة الرجال فهي كالزير من الرجال، وهو الذي يحب محادثة النساء، قيل: ولا يناسب مريم أن يكون عربياً لأنها كانت برية عن محبة محادثة الرجال اللهم إلا أن يقال سميت بذلك تمليحاً كما يسمى الأسود كافوراً، وقال بعض المحققين: لا مانع من تسميتها بذلك بناء على أن شأن من تخدم من النساء ذلك، وفي «القاموس» هي التي تحب محادثة الرجال ولا تفجر ـ وعليه لا بأس بالتسمية كما ذكره المولى عصام ـ والأولى عندي أن التسمية وقعت بالعبري لا بالعربـي بل يكاد يتعين ذلك كما لا يخفى على المنصف؛ وعن الأزهري المريم المرأة التي لا تحب مجالسة الرجال وكأنه قيل لها ذلك تشبيهاً لها بمريم البتول ووزنه عربياً مَفْعَل لا فعيلاً/ لأنه لم يثبت في الأبنية على المشهور، وأثبته الصاغاني في «الذيل»، وقال: إنه مما فات سيبويه، ومنه عثير للغبار، وضَهْيَد ـ بالمهملة والمعجمة ـ للصلب واسم موضع، ومدين على القول بأصالة ميمه، وضهيا بالقصر وهي المرأة التي لا تحيض أو لا ثدي لها من المضاهاة كأنها أطلق عليها ذلك بمشابهتها الرجل؛ وابن جني يقول: إن ضهيد وعثير مصنوعان فلا دلالة فيهما على إثبات فعيل، وذكر السيالكوتي أن عثير بمعنى الغبار ـ بكسر العين ـ وإذا كان مفعلاً فهو أيضاً على خلاف القياس إذ القياس إعلاله بنقل حركة الياء إلى الراء وقلبها ألفاً نحو مباع لكنه شذ كما شذ مدين، ومزيد، وإذا كان من رام يريم إذا فارق وبرح فالقياس كسريائه أيضاً.

{ وَأَيَّدْنَـٰهُ بِرُوحِ ٱلْقُدُسِ } أي قويناه بجبريل عليه السلام وإطلاق روح القدس عليه شائع فقد قال سبحانه: { قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ ٱلْقُدُسِ } [النحل: 102] وقال صلى الله عليه وسلم لحسان رضي الله تعالى عنه: "اهجهم وروح القدس معك" ومرة قال له: "وجبريل معك" وقال حسان:

وجبريل وروح القدس فينا (وروح القدس) ليس له كفاء

و (القدس) الطهارة والبركة، أو ـ التقديس ـ ومعناه التطهير. والإضافة من إضافة الموصوف إلى الصفة للمبالغة في الاختصاص، وهي معنوية بمعنى ـ اللام ـ فإذا أضيف العلم كذلك يكون مؤلا بواحد من المسمين به. وقال مجاهد والربيع: (القدس) من أسماء الله تعالى ـ كالقدوس ـ وزعم بعضهم أن إطلاق الروح على جبريل مجاز لأنه الريح المتردد في مخارق الإنسان ـ ومعلوم أن جبريل ليس كذلك ـ لكنه أطلق عليه سبيل التشبيه من حيث إن ـ الروح ـ سبب الحياة الجسمانية، وجبريل سبب الحياة المعنوية بالعلوم، وكأن هذا الزعم نشأ من كثافة روح الزاعم وعدم تغذيها بشيء من العلوم، وخص عيسى عليه السلام بذكر التأييد بروح القدس لأنه تعالى خصه به من وقت صباه إلى حال كبره، كما قال تعالى: { إِذْ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ ٱلْقُدُسِ تُكَلّمُ ٱلنَّاسَ فِى ٱلْمَهْدِ وَكَهْلاً } [المائدة: 110] ولأنه حفظه حتى لم يدن منه الشيطان، ولأنه بالغ إثنا عشر ألف يهودي لقتله، فدخل عيسى بيتاً فرفعه عليه السلام مكاناً علياً. وقيل: ـ الروح ـ هنا اسم الله تعالى الأعظم الذي كان يحيي به الموتى ـ وروي ذلك كالأول عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ـ وقال ابن زيد: الإنجيل ـ كما جاء في شأن القرآن ـ قوله تعالى: { وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مّنْ أَمْرِنَا } [الشورى: 52] وذلك لأنه سبب للحياة الأبدية والتحلي بالعلوم والمعارف التي هي حياة القلوب وانتظام المعاش الذي هو سبب الحياة الدنيوية، وقيل: روح عيسى عليه السلام نفسه، ووصفها به لطهارته عن مس الشيطان، أو لكرامته عليه تعالى ـ ولذلك أضافها إلى نفسه ـ أو لأنه لم يضمه الأصلاب ولا أرحام الطوامث، بل حصل من نفخ جبريل عليه السلام في درع أمه فدخلت النفخة في جوفها. وقرأ ابن كثير (القدس) ـ بسكون الدال ـ حيث وقع، وأبو حيوة (القدوس) بواو.

{ أَفَكُلَّمَا جَاءكُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَى أَنفُسُكُم ٱسْتَكْبَرْتُمْ } مسبب عن قوله تعالى: { وَلَقَدْ ءاتَيْنَا } بحيث لا يتم الكلام السابق بدونه كالشرط بدون الجزاء، وقد أدخلت ـ الهمزة ـ بين السبب والمسبب للتوبيخ على تعقيبهم ذلك بهذا، والتعجيب من شأنهم على معنى ولقد آتينا موسى الكتاب وأنعمنا عليكم بكذا وكذا لتشكروا بالتلقي بالقبول ـ فعكستم بأن كذبتم ـ ويحتمل أن يكون ابتداء كلام ـ والفاء ـ للعطف على مقدر كأنه قيل: أفعلتم ما فعلتم ـ فكلما جاءكم ـ ثم المقدر يجوز أن يكون عبارة عما وقع بعد ـ الفاء ـ فيكون العطف للتفسير، وأن يكون غيره مثل (أكفرتم النعمة واتبعتم الهوى) فيكون لحقيقة التعقيب، وضعف هذا الاحتمال بما ذكره الرضى/ أنه لو كان كذلك لجاز وقوع ـ الهمزة ـ في الكلام قبل أن يتقدمه ما كان معطوفاً عليه ـ ولم تجيء إلا مبنية على كلام متقدم، وفي كون الهمزة الداخلة على جملة معطوفة ـ بالواو، أو الفاء، أو ثم ـ في محلها الأصلي، أو مقدمة من تأخير حيث إن محلها بعد العاطف خلاف مشهور بين أهل العربية، وبعض المحققين يحملها في بعض المواضع ـ على هذا ـ وفي البعض ـ على ذلك ـ بحسب مقتضى المقام ومساق الكلام ـ والقلب يميل إليه ـ قيل: ولا يلزم بطلان صدارة ـ الهمزة ـ إذ لم يتقدمها شيء من الكلام الذي دخلت هي عليه، وتعلق معناها بمضمونه غاية الأمر أنها توسطت بين كلامين لإفادة إنكار جمع الثاني مع الأول، أو لوقوعه بعده متراخياً أو غير متراخ، وهذا مراد من قال: إنها مقحمة مزيدة لتقرير معنى الإنكار أو التقرير، أي مقحمة على المعطوف مزيدة بعد اعتبار عطفه، ولم يرد أنها صلة.

و (تهوى) من ـ هوي ـ بالكسر إذا أحب، ومصدره ـ هوى ـ بالقصر، وأما ـ هوى ـ بالفتح فبمعنى سقط، ومصدره ـ هوى ـ بالضم وأصله فعول فأعل. وقال المرزوقي: ـ هوى ـ انقض انقضاض النجم والطائر، والأصمعي يقول: هوت العقاب إذا انقضت لغير الصيد، وأهوت إذا انقضت للصيد، وحكى بعضهم أنه يقال: هوى يهوي هوياً ـ بفتح الهاء ـ إذا كان القصد من أعلى إلى أسفل، وهوى يهوي هوياً بالضم إذا كان من أسفل إلى أعلى ـ وما ذكرناه أولاً هو المشهور ـ والهوى ـ يكون في الحق وغيره، وإذا أضيف إلى النفس فالمراد به الثاني في الأكثر، ومنه هذه الآية. وعبر عن المحبة بذلك للإيذان بأن مدار الرد والقبول عندهم هو المخالفة لأهواء أنفسهم والموافقة لها لا شيء آخر، ومتعلق (استكبرتم) محذوف أي عن الإيمان بما جاء به مثلاً، واستفعل هنا بمعنى تفعل.

{ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ } الظاهر أنه عطف على { ٱسْتَكْبَرْتُمْ } والفاء للسببية إن كان التكذيب والقتل مرتبين على الاستكبار، وللتفصيل إن كانا نوعين منه، وجوز الراغب أن يكون عطفاً على { وَأَيَّدْنَـٰهُ } ويكون { أَفَكُلَّمَا } مع ما بعده فصلا بينهما على سبيل الإنكار، وقدم { فَرِيقاً } في الموضعين للاهتمام وتشويق السامع إلى ما فعلوا بهم لا للقصر، وثمّ محذوف أي: فريقاً منهم، وبدأ بالتكذيب لأنه أول ما يفعلونه من الشر ولأنه المشترك بين المكذب والمقتول، ونسب القتل إليهم مع أن القاتل آباؤهم لرضاهم به ولحوق مذمته بهم، وعبر بالمضارع حكاية للحال الماضية واستحضاراً لصورتها لفظاعتها واستعظامها، أو مشاكلة للأفعال المضارعة الواقعة في الفواصل فيما قبل، أو للدلالة على أنكم الآن فيه فإنكم حول قتل محمد صلى الله عليه وسلم ولولا أني أعصمه لقتلتموه ولذلك سحرتموه وسممتم له الشاة، فالمضارع للحال ولا ينافيه قتل البعض. والمراد من القتل مباشرة الأسباب الموجبة لزوال الحياة سواء ترتب عليه أو لا، وقيل: لا حاجة إلى التعميم لأنه صلى الله عليه وسلم قتل حقيقة بالسم الذي ناولوه على ما وقع في "الصحيح" بلفظ "وهذا أوان وجدت انقطاع أبهري من ذلك السم" وفيه أنه لم يتحقق منهم القتل زمان نزول الآية بل مباشرة الأسباب فلا بد من التعميم.