خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَلَقَدْ أَوْحَيْنَآ إِلَىٰ مُوسَىٰ أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَٱضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي ٱلْبَحْرِ يَبَساً لاَّ تَخَافُ دَرَكاً وَلاَ تَخْشَىٰ
٧٧
-طه

روح المعاني

{ وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَىٰ مُوسَىٰ } حكاية إجمالية لما انتهى إليه فرعون وقومه وقد طوى في البين ذكر ما جرى عليهم بعد أن غلبت السحرة من الآيات المفصلة الظاهرة على يد موسى عليه السلام في نحو من عشرين سنة حسبما فصل في سورة الأعراف، وكان فرعون كلما جاءت آية وعد أن يرسل بني إسرائيل عند انكشاف العذاب حتى إذا انكشف نكث فلما كملت الآيات أوحى الله تعالى إلى موسى عليه السلام { أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِى } وتصدير الجملة بالقسم لإبراز كمال العناية بمضمونها. وأن إما مفسرة لما في الوحي من معنى القول، وإما مصدرية حذف عنها الجار، والتعبير عن بني إسرائيل / بعنوان العبودية لله تعالى لإظهار الرحمة والاعتناء بأمرهم والتنبيه على غاية قبح صنيع فرعون بهم حيث استعبدهم وهم عباده عز وجل وفعل بهم من فنون الظلم ما فعل ولم يراقب فيهم مولاهم الحقيقي جل جلاله، والظاهر أن الإيحاء بما ذكر وكذا ما بعده كان بمصر أي وبالله تعالى لقد أوحينا إليه عليه السلام أن سر بعبادي الذي أرسلتك لإنقاذهم من ملكة فرعون من مصر ليلاً.

{ فَٱضْرِبْ لَهُمْ } بعصاك { طَرِيقاً فِى ٱلْبَحْرِ } مفعول به لاضرب على الاتساع وهو مجاز عقلي والأصل اضرب البحر ليصير لهم طريقاً { يَبَساً } أي يابساً وبذلك قرأ أبو حيوة على أنه مصدر جعل وصفاً لطريقاً مبالغة وهو يستوي فيه الواحد المذكر وغيره. وقرأ الحسن { يبساً } بسكون الباء وهو إما مخفف منه بحذف الحركة فيكون مصدراً أيضاً أو صفة مشبهة كصعب أو جمع يابس كصحب وصاحب. ووصف الواحد به للمبالغة وذلك أنه جعل الطريق لفرط يبسها كأشياء يابسة كما قيل في قول القطامي:

كأن قتود رحلى حين ضمت حوالب غرزاً ومعى جياعا

أنه جعل المعى لفرط جوعه كجماعة جياع أو قدر كل جزء من أجزاء الطريق طريقاً يابساً كما قيل في { نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ } [الإنسان: 2] وثوب أخلاق أو حيث أريد بالطريق الجنس وكان متعدداً حسب تعدد الأسباط لا طريق واحدة على الصحيح جاء وصفه جمعاً، وقيل: يحتمل أن يكون اسم جمع، والظاهر أنه لا فرق هنا بين اليبس بالتحريك واليبس بالتسكين معنى لأن الأصل توافق القراءتين، وإن كانت إحداهما شاذة، وفي «القاموس» اليبس بالإسكان ما كان أصله رطباً فجف وما أصله اليبوسة ولم يعهد رطباً يبس بالتحريك، وأما طريق موسى عليه السلام في البحر فإنه لم يعهد [قط] طريقاً لا رطباً ولا يابساً إنما أظهره الله تعالى لهم حينئذ مخلوقاً على ذلك اهـ.

وهذا مخالف لما ذكره الراغب من أن اليبس بالتحريك ما كان فيه رطوبة فذهبت، والمكان إذا كان فيه ماء فذهب، وروي أن موسى عليه السلام لما ضرب البحر وانفلق حتى صارت فيه طرق بعث الله تعالى ريح الصبا فجففت تلك الطرق حتى يبست. وذهب غير واحد أن الضرب بمعنى الجعل من قولهم: ضرب له في ماله سهماً وضرب عليهم الخراج أو بمعنى الاتخاذ فينصب مفعولين أولهما { طَرِيقاً } وثانيهما { لَهُمْ }. واختار أبو حيان بقاءه على المعنى المشهور وهو أوفق بقوله تعالى: { { أَنِ ٱضْرِب بّعَصَاكَ ٱلْبَحْرَ } [الشعراء: 63]، وزعم أبو البقاء أن { طَرِيقاً } على هذا الوجه مفعول فيه، وقال: التقدير { فَٱضْرِبْ لَهُمْ } موضع طريق.

{ لاَّ تَخَافُ دَرَكاً } في موضع الحال من ضمير { فَٱضْرِب } أو الصفة الأخرى لطريقاً والعائد محذوف أي فيها أو هو استئناف كما قال أبو البقاء وقدمه على سائر الاحتمالات. وقرأ الأعمش وحمزة وابن أبـي ليلى { لا تخف } بالجزم على جواب الأمر أعني { أسر }، ويحتمل أنه نهي مستأنف كما ذكره الزجاج. وقرأ أبو حيوة وطلحة والأعمش { دَرَكاً } بسكون الراء وهو اسم من الإدراك أي اللحوق كالدرك بالتحريك، وقال الراغب: الدرك بالتحريك في الآية ما يلحق الإنسان من تبعة أي لا تخاف تبعة، والجمهور على الأول أي لا تخاف أن يدرككم فرعون وجنوده من خلفكم { وَلاَ تَخْشَىٰ } أن يغرقكم البحر من قدامكم وهو عطف على { لاَّ تَخَافُ }، وذلك ظاهر على الاحتمالات الثلاثة في قراءة الرفع؛ وأما على قراءة الجزم فقيل هو استئناف أي وأنت لا تخشى، وقيل: / عطف على المجزوم والألف جيء بها للإطلاق مراعاة لأواخر الآي كما في قوله تعالى: { { فَأَضَلُّونَا ٱلسَّبِيلاْ } [الأحزاب: 67]. { وتَظُنُّونَ باللهِ الظُّنونَا } [الأحزاب: 10] أو هو مجزوم بحذف الحركة المقدرة كما في قوله:

إذا العجوز غضبت فطلق ولا ترضاها ولا تملق

وهذا لغة قليلة عند قوم وضرورة عند آخرين فلا يجوز تخريج التنزيل الجليل الشأن عليه أو لا يليق مع وجود مثل الاحتمالين السابقين أو الأول منهما. والخشية أعظم الخوف وكأنه إنما اختيرت هنا لأن الغرق أعظم من إدراك فرعون وجنوده لما أن ذاك مظنة السلامة، ولا ينافي ذلك أنهم إنما ذكروا أولاً ما يدل على خوفهم منه حيث قالوا: { { إِنَّا لَمُدْرَكُونَ } [الشعراء: 61] ولذا سورع في إزاحته بتقديم نفيه كما يظهر بالتأمل.