خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَنَضَعُ ٱلْمَوَازِينَ ٱلْقِسْطَ لِيَوْمِ ٱلْقِيَامَةِ فَلاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَىٰ بِنَا حَاسِبِينَ
٤٧
-الأنبياء

روح المعاني

وقوله تعالى: { وَنَضَعُ ٱلْمَوٰزِينَ ٱلْقِسْطَ } بيان لما سيقع عند إتيان ما أنذروه. وجعل الطيبـي الجملة حالاً من الضمير في { { لَّيَقُولَنَّ } [الأنبياء: 46] بتقدير ونحن نضع، وهي في الخلو عن العائد نحو جئتك والشمس طالعة، ويجوز أن يقال: أقيم العموم في { نَفْسٌ } الآتي بعد مقام العائد وهو كما ترى أي ونحضر الموازين العادلة التي توزن بها صحائف الأعمال كما يقضي بذلك حديث السجلات والبطاقة التي ذكره مسلم وغيره أو نفس الأعمال كما قيل، وتظهر بصور جوهرية مشرفة إن كانت حسنات ومظلمة إن كانت سيئات، وجمع الموازين ظاهر في تعدد الميزان حقيقة وقد قيل به فقيل لكل أمة ميزان، وقيل لكل مكلف ميزان، وقيل للمؤمن موازين بعدد خيراته وأنواع حسناته، والأصح الأشهر أنه ميزان واحد لجميع الأمم ولجميع الأعمال كفتاه كإطباق السمٰوات والأرض لصحة الأخبار بذلك، والتعدد اعتباري وقد يعبر عن الواحد بما يدل على الجمع للتعظيم كقوله تعالى: { { رَبّ ٱرْجِعُونِ * لَّعَـلّى أَعْمَلَ صَـٰلِحاً } [المؤمنون: 99-100] وقوله:

فارحموني يا إلٰه محمد

وإحضار ذلك تجاه العرش بين الجنة والنار ويأخذ جبريل عليه السلام بعموده ناظراً إلى لسانه وميكائيل عليه السلام أمين عليه كما في «نوادر الأصول»، وهل هو مخلوق اليوم أو سيخلق غداً؟. قال اللقاني: لم أقف على نص في ذلك كما لم أقف على نص في أنه من أي الجواهر هو اهـ، وما روي من أن داود عليه السلام سأل ربه سبحانه أن يريه الميزان فلما رآه غشي عليه ثم أفاق فقال: يا إلٰهي من الذي يقدر أن يملأ كفته حسنات؟ فقال تعالى: يا داود إني إذا رضيت عن عبدي ملأتها بتمرة، نص في أنه مخلوق اليوم لكن لا أدري حال الحديث فلينقر. وأنكر المعتزلة الميزان بالمعنى الحقيقي وقالوا: يجب أن يحمل ما ورد في القرآن من ذلك على رعاية العدل والإنصاف، ووضع الموازين عندهم تمثيل لإرصاد الحساب السوي والجزاء على حسب الأعمال، وروي هذا عن الضحاك وقتادة ومجاهد والأعمش ولا داعي إلى العدول عن الظاهر.

وإفراد القسط مع كونه / صفة الجمع لأنه مصدر ووصف به مبالغة، ويجوز أن يكون على حذف مضاف أي ذوات القسط، وجوز أبو حيان أن يكون مفعولاً لأجله نحو قوله:

لا أقعد الجبن عن الهيجاء

وحينئذٍ يستغني عن توجيه إفراده، وقرىء { القصط } بالصاد، واللام في قوله تعالى: { لِيَوْمِ ٱلْقِيَـٰمَةِ } بمعنى في كما نص عليه ابن مالك وأنشد لمجيئها كذلك قول مسكين الدارمي:

أولئك قومي قد مضوا لسبيلهم كما قد مضى من قبل عاد وتبع

وهو مذهب الكوفيين ووافقهم ابن قتيبة أي نضع الموازين في يوم القيامة التي كانوا يستعجلونها؛ وقال غير واحد: هي للتعليل أي لأجل حساب يوم القيامة أو لأجل أهله وجعلها بعضهم للاختصاص كما هو أحد احتمالين في قولك جئت لخمس ليال خلون من الشهر، والمشهور فيه وهو الاحتمال الثاني أن اللام بمعنى في.

{ فَلاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ } من النفوس { شَيْئاً } من الظلم فلا ينقص ثوابها الموعود ولا يزاد عذابها المعهود. فالشيء منصوب على المصدرية والظلم هو بمعناه المشهور. وجوز أن يكون { شَيْئاً } مفعولاً به على الحذف والإيصال والظلم بحاله أي فلا تظلم في شيء بأن تمنع ثواباً أو تزاد عذاباً، وبعضهم فسر الظلم بالنقص وجوز في { شَيْئاً } المصدرية والمفعولية من غير اعتبار الحذف والإيصال أي فلا تنقص شيئاً من النقص أو شيئاً من الثواب، ويفهم عدم الزيادة في العقاب من إشارة النص واللزوم المتعارف، واختير ما لا يحتاج فيه إلى الإشارة واللزوم. والفاء لترتيب انتفاء الظلم على وضع الموازين. وربما يفهم من ذلك أن كل أحد توزن أعماله، وقال القرطبـي: الميزان حق ولا يكون في حق كل أحد بدليل الحديث الصحيح فيقال: "يا محمد أدخل الجنة من أمتك من لا حساب عليه من الباب الأيمن" الحديث وأحرى الأنبياء عليهم السلام، وقوله تعالى: { { يُعْرَفُ ٱلْمُجْرِمُونَ بِسِيمَـٰهُمْ فَيُؤْخَذُ بِٱلنَّوَاصِى وَٱلأَقْدَامِ } [الرحمٰن: 41] وقوله تعالى: { { فَلاَ نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ ٱلْقِيَـٰمَةِ وَزْناً } [الكهف: 105] وقوله سبحانه: { { وَقَدِمْنَا إِلَىٰ مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُوراً } [الفرقان: 23] وإنما يبقى الوزن لمن شاء الله سبحانه من الفريقين.

وذكر القاضي منذر بن سعيد البلوطي أن أهل الصبر لا توزن أعمالهم وإنما يصب لهم الأجر صباً، وظواهر أكثر الآيات والأحاديث تقتضي وزن أعمال الكفار، وأول لها ما اقتضى ظاهره خلاف ذلك وهو قليل بالنسبة إليها، وعندي لا قاطع في عموم الوزن وأميل إلى عدم العموم، ثم إنه كما اختلف في عمومه بالنسبة إلى أفراد الإنس اختلف في عمومه بالنسبة إلى نوعي الإنس والجن، والحق أن مؤمني الجن كمؤمني الإنس وكافرهم ككافرهم كما بحثه القرطبـي واستنبطه من عدة آيات، وبسط اللقاني القول في ذلك في شرحه الكبير «للجوهرة»، وسيأتي إن شاء الله تعالى بيان الخلاف في كيفية الوزن.

{ وَإِن كَانَ } أي العمل المدلول عليه بوضع الموازين، وقيل الضمير راجع لشيئاً بناءً على أن المعنى فلا تظلم جزاء عمل من الأعمال { مِثْقَالَ حَبَّةٍ مّنْ خَرْدَلٍ } أي مقدار حبة كائنة من خردل فالجار والمجرور متعلق بمحذوف وقع صفة لحبة، وجوز أن يكون صفة لمثقال والأول أقرب، والمراد وإن كان في غاية القلة والحقارة فإن حبة الخردل مثل في الصغر. وقرأ زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما وأبو جعفر وشيبة ونافع { مِثْقَالَ } بالرفع على أن كان / تامة.

{ أَتَيْنَا بِهَا } أي جئنا بها وبه قرأ أبـي، والمراد أحضرناها، فالباء للتعدية والضمير للمثقال وأنث لاكتساب التأنيث من المضاف إليه والجملة جواب (إن) الشرطية، وجوز أن تكون (إن) وصلية والجملة مستأنفة وهو خلاف الظاهر. وقرأ ابن عباس ومجاهد وابن جبير وابن أبـي إسحاق والعلاء بن سيابة وجعفر بن محمد وابن شريح الأصبهاني { ءاتَيْنَا } بمدة على أنه مفاعلة من الإتيان بمعنى المجازاة والمكافأة لأنهم أتوه تعالى بالأعمال وأتاهم بالجزاء، وقيل هو من الإيتاء وأصله أأتينا فأبدلت الهمزة الثانية ألفاً، والمراد جازينا أيضاً مجازاً ولذا عدي بالباء ولو كان المراد أعطينا كما قال بعضهم لتعدى بنفسه كما قال ابن جني وغيره. وقرأ حميد { أثبنا } من الثواب.

{ وَكَفَىٰ بِنَا حَـٰسِبِينَ } قيل أي عادين ومحصين أعمالهم على أنه من الحساب مراداً به معناه اللغوي وهو العد وروي ذلك عن السدي، وجوز أن يكون كناية عن المجازاة. وذكر اللقاني أن الحساب في عرف الشرع توقيف الله تعالى عباده إلا من استثنى منهم قبل الانصراف من المحشر على أعمالهم خيراً كانت أو شراً تفصيلاً لا بالوزن، وأنه كما ذكر الواحدي وغيره وجزم به صاحب «كنز الأسرار» قبل الوزن، ولا يخفى أن في الآية إشارة ما إلى أن الحساب المذكور فيها بعد وضع الموازين فتأمل، ونصب الوصف إما على أنه تمييز أو على أنه حال واستظهر الأول في «البحر».

هذا ومن باب الإشارة في الآيات: { { ٱقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَـٰبُهُمْ وَهُمْ فِى غَفْلَةٍ مُّعْرِضُونَ } [الأنبياء: 1] الخ فيه إشارة إلى سوء حال المحجوبين بحب الدنيا عن الاستعداد للأخرى فغفلوا عن إصلاح أمرهم وأعرضوا عن طاعة ربهم وغدت قلوبهم عن الذكر لاهية وعن التفكير في جلاله وجماله سبحانه ساهية، وفي قوله تعالى: { { وَأَسَرُّواْ ٱلنَّجْوَى ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ هَلْ هَـٰذَا إِلاَّ بَشَرٌ مّثْلُكُمْ } [الأنبياء: 3] إشارة إلى سوء حال بعض المنكرين على أولياء الله تعالى فإن نفوسهم الخبيثة الشيطانية تأبـى اتباعهم لما يرون من المشاركة في العوارض البشرية { { وَكَمْ قَصَمْنَا مِن قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَـٰلِمَةً } [الأنبياء: 11] فيه إشارة إلى أن في الظلم خراب العمران فمتى ظلم الإنسان خرب قلبه وجر ذلك إلى خراب بدنه وهلاكه بالعذاب، وفي قوله تعالى: { { بَلْ نَقْذِفُ بِٱلْحَقّ عَلَى ٱلْبَـٰطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ } [الأنبياء: 18] إشارة إلى أن مداومة الذكر سبب لانجلاء الظلمة عن القلب وتطهره من دنس الأغيار بحيث لا يبقى فيه سواه سبحانه ديار { { وَمَنْ عِندَهُ } [الأنبياء: 19] قيل هم الكاملون الذين في الحضرة فإنهم لا يتحركون ولا يسكنون إلا مع الحضور ولا تشق عليهم عبادة ولا تلهيهم عنه تعالى تجارة بواطنهم مع الحق وظواهرهم مع الخلق أنفاسهم تسبيح وتقديس وهو سبحانه لهم خير أنيس، وفي قوله تعالى: { { بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ } [الأنبياء: 26] { { لاَ يَسْبِقُونَهُ بِٱلْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ } [الأنبياء: 27] إشارة إلى أن الكامل لا يختار شيئاً بل شأنه التفويض والجريان تحت مجاري الأقدار مع طيب النفس، ومن هنا قيل إن القطب الرباني الشيخ عبد القادر الكيلاني قدس سره وغمرنا بره لم يتوف حتى ترقى عن مقام الإدلال إلى التفويض المحض، وقد نص على ذلك الشيخ عبد الوهاب الشعراني في كتابه «الجواهر واليواقيت» { { وَجَعَلْنَا مِنَ ٱلْمَاء كُلَّ شَىْء حَىّ } [الأنبياء: 30] قد تقدم ما فيه من الإشارة { كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ ٱلْمَوْتِ } قال الجنيد قدس سره: من كانت حياته بروحه يكون مماته بذهابها ومن كانت حياته بربه تعالى فإنه ينقل من حياة الطبع إلى حياة الأصل وهي الحياة على الحقيقة { { وَنَبْلُوكُم بِٱلشَّرّ وَٱلْخَيْرِ فِتْنَةً } [الأنبياء: 35] قيل أي بالقهر واللطف والفراق والوصال والإدبار والإقبال والجهل والعلم إلى غير ذلك، ولا يخفى أنه كثيراً ما يمتحن السالك بالقبض والبسط فينبغي له التثبت / في كل عما يحطه عن درجته، ولعل فتنة البسط أشد من فتنة القبض فليتحفظ هناك أشد تحفظ { { وَنَضَعُ ٱلْمَوٰزِينَ ٱلْقِسْطَ لِيَوْمِ ٱلْقِيَـٰمَةِ } [الأنبياء: 47] قال بعض الصوفية: الموازين متعددة فللعاشقين ميزان وللوالهين ميزان وللعاملين ميزان وهكذا، ومن ذلك ميزان للعارفين توزن به أنفاسهم ولا يزن نفساً منها السمٰوات والأرض. وذكروا أن في الدنيا موازين أيضاً وأعظم موازينها الشريعة وكفتاه الكتاب والسنة، ولعمري لقد عطل هذا الميزان متصوفة هذا الزمان أعاذنا الله تعالى والمسلمين مما هم عليه من الضلال إنه عز وجل المتفضل بأنواع الإفضال.