خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَلَقَدْ آتَيْنَآ إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِن قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ
٥١
إِذْ قَالَ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَـٰذِهِ ٱلتَّمَاثِيلُ ٱلَّتِيۤ أَنتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ
٥٢
-الأنبياء

روح المعاني

{ وَلَقَدْ ءاتَيْنَا إِبْرٰهِيمَ رُشْدَهُ } أي الرشد اللائق به وبأمثاله من الرسل الكبار وهو الرشد الكامل أعني الاهتداء إلى وجوه الصلاح في الدين والدنيا والإرشاد بالنواميس الإلٰهية؛ وقيل الصحف، وقيل: الحكمة، وقيل: التوفيق للخير صغيراً، واختار بعضهم التعميم. وقرأ عيسى الثقفي { رُشْدَهُ } بفتح الراء والشين وهما لغة كالحزن والحزن { مِن قَبْلُ } أي من قبل موسى وهارون، وقيل من قبل البلوغ حين خرج من السرب، وقيل من قبل أن يولد حين كان في صلب آدم عليه السلام، وقيل من قبل محمد صلى الله عليه وسلم والأول مروي عن ابن عباس وابن عمر رضي الله تعالى عنهم قال في «الكشف»: وهو الوجه الأوفق لفظاً ومعنى، أما الأول فللقرب، وأما الثاني فلأن ذكر الأنبياء عليهم السلام للتأسي، وكان القياس أن يذكر نوح ثم إبراهيم ثم موسى عليهم السلام لكن روعي في ذلك ترشيح التسلي والتأسي فقد ذكر موسى عليه السلام لأن حاله وما قاساه من قومه وكثرة آياته وتكاثف أمته أشبه بحال نبينا عليه الصلاة والسلام ثم ثنى بذكر إبراهيم عليه السلام، وقيل: { مِن قَبْلُ } لهذا ألا ترى إلى قوله تعالى: { { وَنُوحاً إِذْ نَادَىٰ مِن قَبْلُ } [الأنبياء: 76] أي من قبل هؤلاء المذكورين، وقيل من قبل إبراهيم ولوط اهـ { وَكُنَّا بِهِ عَـٰلِمِينَ } أي بأحواله وما فيه من الكمالات، وهذا كقولك في خير من الناس: أنا عالم بفلان فإنه من الاحتواء على محاسن الأوصاف بمنزل. وجوز أن يكون هذا كناية عن حفظه تعالى إياه وعدم إضاعته، وقد قال عليه السلام يوم إلقائه في النار وقول جبريل عليه السلام له سل ربك: علمه بحالي يغني عن سؤالي وهو خلاف الظاهر.

{ إِذْ قَالَ لأَِبِيهِ وَقَوْمِهِ } ظرف لـِ { آتَيْنَآ } [الأنبياء:51] على أنه وقت متسع وقع فيه الإيتاء وما يترتب عليه من أقواله وأفعاله، وجوز أن يكون ظرفاً لرشد / أو لعالمين، وأن يكون بدلاً من موضع { مِن قَبْلُ } [الأنبياء:51] وأن ينتصب بإضمار أعني أو اذكر، وبدأ بذكر الأب لأنه كان الأهم عنده عليه السلام في النصيحة والإنقاذ من الضلال.

والظاهر أنه عليه السلام قال له ولقومه مجتمعين: { مَا هَـٰذِهِ ٱلتَّمَـٰثِيلُ ٱلَّتِى أَنتُمْ لَهَا عَـٰكِفُونَ } أراد عليه السلام ما هذه الأصنام إلا أنه عبر عنها بالتماثيل تحقيراً لشأنها فإن التمثال الصورة المصنوعة مشبهة بمخلوق من مخلوقات الله تعالى من مثلت الشيء بالشيء إذا شبهته به، وكانت على ما قيل صور الرجال يعتقدون فيهم وقد انقرضوا، وقيل كانت صور الكواكب صنعوها حسبما تخيلوا، وفي الإشارة إليها بما يشار به القريب إشارة إلى التحقير أيضاً، والسؤال عنها بما التي يطلب بها بيان الحقيقة أو شرح الاسم من باب تجاهل العارف كأنه لا يعرف أنها ماذا وإلا فهو عليه السلام محيط بأن حقيقتها حجر أو نحوه، والعكوف الإقبال على الشيء وملازمته على سبيل التعظيم له، وقيل اللزوم والاستمرار على الشيء لغرض من الأغراض وهو على التفسيرين دون العبادة ففي اختياره عليها إيماء إلى تفظيع شأن العبادة غاية التفظيع.

واللام في { لَهَا } للبيان فهي متعلقة بمحذوف كما في قوله تعالى: { { لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ } [يوسف: 43] أو للتعليل فهي متعلقة بعاكفون وليست للتعدية لأن عكف إنما يتعدى بعلى كما في قوله تعالى: { { يَعْكُفُونَ عَلَىٰ أَصْنَامٍ لَّهُمْ } [الأعراف: 138] وقد نزل الوصف هنا منزلة اللازم أي التي أنتم لها فاعلون العكوف. واستظهر أبو حيان كونها للتعليل وصلة { عَـٰكِفُونَ } محذوفة أي عاكفون على عبادتها، ويجوز أن تكون اللام بمعنى على كما قيل ذلك في قوله تعالى: { { وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا } [الإسراء: 7] وتتعلق حينئذ بعاكفون على أنها للتعدية. وجوز أن يؤول العكوف بالعبادة فاللام حينئذ كما قيل دعامة لا معدية لتعديه بنفسه ورجح هذا الوجه بما بعد، وقيل لا يبعد أن تكون اللام للاختصاص والجار والمجرور متعلق بمحذوف وقع خبراً و { عَـٰكِفُونَ } خبر بعد خبر، وأنت تعلم أن نفي بعده مكابرة.

ومن الناس من لم يرتض تأويل العكوف بالعبادة لما أخرج ابن أبـي شيبة وعبد بن حميد وابن أبـي الدنيا في «ذم الملاهي» وابن المنذر وابن أبـي حاتم والبيهقي في «الشعب» عن علي كرم الله تعالى وجهه أنه مر على قوم يلعبون بالشطرنج فقال: ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون لأن يمس أحدكم جمراً حتى يطفى خير له من أن يمسها، وفيه نظر لا يخفى، نعم لا يبعد أن يكون الأولى إبقاء العكوف على ظاهره، ومع ذلك المقصود بالذات الاستفسار عن سبب العبادة والتوبيخ عليها بألطف أسلوب ولما لم يجدوا ما يعول عليه في أمرها التجؤا إلى التشبث بحشيش التقليد المحض حيث.