خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّآ أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى ٱلنَّاسَ سُكَارَىٰ وَمَا هُم بِسُكَارَىٰ وَلَـٰكِنَّ عَذَابَ ٱللَّهِ شَدِيدٌ
٢
-الحج

روح المعاني

{ يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ } الظاهر أن الضمير المنصوب في { تَرَوْنَهَا } للزلزلة لأنها المحدث عنها، وقيل هو للساعة وهو كما ترى، و { يَوْمٍ } منتصب بتذهل قدم عليه للاهتمام، وقيل بعظيم، وقيل / بإضمار اذكر؛ وقيل هو بدل من { { ٱلسَّاعَةَ } [الحج: 1] وفتح لبنائه كما قيل في قوله تعالى: { { هَـٰذَا يَوْمُ يَنفَعُ } [المائدة: 119] على قراءة يوم بالفتح، وقيل بدل من { { زَلْزَلَةَ } [الحج: 1] أو منصوب به إن اغتفر الفصل بين المصدر ومعموله الظرفي بالخبر، وجملة { تَذْهَلُ } على هذه الأوجه في موضع الحال من ضمير المفعول والعائد محذوف أي تذهل فيها، والذهول شغل يورث حزناً ونسياناً، والمرضعة هي التي في حال الإرضاع ملقمة ثديها وهي بخلاف المرضع بلا هاء فإنها التي من شأنها أن ترضع وإن لم تباشر الإرضاع في حال وصفها به، وخص بعض نحاة الكوفة أم الصبـي بمرضعة بالهاء والمستأجرة بمرضع ويرده قول الشاعر:

كمرضعة أولاد أخرى وضيعت بني بطنها هذا الضلال عن القصد

والتعبير به هنا ليدل على شدة الأمر وتفاقم الهول.

والظاهر أن (ما) موصولة والعائد محذوف أي عن الذي أرضعته، والتعبير بما لتأكيد الذهول وكون الطفل الرضيع بحيث لا يخطر ببالها أنه ماذا لأنها تعرف شيئيته لكن لا تدري من هو بخصوصه، وقيل مصدرية أي تذهل عن إرضاعها، والأول دل على شدة الهول وكمال الانزعاج، والكلام على طريق التمثيل وأنه لو كان هناك مرضعة ورضيع لذهلت المرضعة عن رضيعها في حال إرضاعها إياه لشدة الهول وكذا ما بعد، وهذا ظاهر إذا كانت الزلزلة عند النفخة الثانية أو في يوم القيامة حين أمر آدم عليه السلام ببعث بعث النار وبعث الجنة إن لم نقل بأن كل أحد يحشر على حاله التي فارق فيها الدنيا فتحشر المرضعة مرضعة والحامل حاملة كما ورد في بعض الآثار، وأما إذا قلنا بذلك أو بكون الزلزلة في الدنيا فيجوز أن يكون الكلام على حقيقته، ولا يضر في كونه تمثيلاً أن الأمر إذ ذاك أشد وأعظم وأهول مما وصف وأطم لشيوع ما ذكر في التهويل كما لا يخفى على المنصف النبيل. وقرىء { تَذْهَلُ } من الإذهال مبنياً للمفعول، وقرأ ابن أبـي عبلة واليماني { تَذْهَلُ } منه مبنياً للفاعل و { كل } بالنصب أي يوم تذهل الزلزلة، وقيل: الساعة كل مرضعة.

{ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا } أي تلقي ذات جنين جنينها لغير تمام، وإنما لم يقل وتضع كل حاملة ما حملت على وزان ما تقدم لما أن ذلك ليس نصاً في المراد وهو وضع الجنين بخلاف ما في النظم الجليل فإنه نص فيه لأن الحمل بالفتح ما يحمل في البطن من الولد، وإطلاقه على نحو الثمرة في الشجرة للتشبيه بحمل المرأة، وللتنصيص على ذلك من أول الأمر لم يقل وتضع كل حاملة حملها كذا قيل. وتعقب بأن في دعوى تخصيص الحمل بما يحمل في البطن من الولد وأن إطلاقه على نحو الثمرة في الشجرة للتشبيه بحثاً ففي «البحر» الحمل بالفتح ما كان في بطن أو على رأس شجرة. وفي «القاموس» الحَمل ما يحمل في البطن من الولد جمعه حمال وأحمال وحملت المرأة تحمل عَلِقت ولا يقال حملت به أو قليل وهي حامل وحاملة، والحمل ثمر الشجر ويكسر أو الفتح لما بطن من ثمره والكسر لما ظهر أو الفتح لما كان في بطن أو على رأس شجرة والكسر لما على ظهر أو رأس أو ثمر الشجر بالكسر ما لم يكبر فإذا كبر فبالفتح جمعه أحمال وحُمول وحِمال اهـ، وقيل: المتبادر وضع الجنين بأي عبارة كان التعبير إلا أن ذات حمل أبلغ في التهويل من حامل أو حاملة لإشعاره بالصحبة المشعرة بالملازمة فيشعر الكلام بأن الحامل تضع إذ ذاك الجنين المستقر في بطنها المتمكن فيه هذا مع ما في الجمع بين ما يشعر بالمصاحبة وما يشعر بالمفارقة وهو الوضع من اللطف فتأمل فلمسلك الذهن اتساع.

{ وَتَرَى ٱلنَّاسَ } بفتح التاء والراء على خطاب كل واحد من المخاطبين برؤية الزلزلة والاختلاف بالجمعية / والإفراد لما أن المرئي في الأول هي الزلزلة التي يشاهدها الجميع وفي الثاني حال من عدا المخاطب منهم فلا بد من إفراد المخاطب على وجه يعم كل واحد منهم لكن من غير اعتبار اتصافه بتلك الحالة فإن المراد بيان تأثير الزلزلة في المرئي لا في الرائي باختلاف مشاعره لأن مداره حيثية رؤيته للزلزلة لا لغيرها كأنه قيل وتصير الناس سكارى الخ، وإنما أوثر عليه ما في التنزيل للإيذان بكمال ظهور تلك الحال فيهم وبلوغها من الجلاء إلى حد لا يكاد يخفى على أحد قاله غير واحد. وجوز بعضهم كون الخطاب للنبـي صلى الله عليه وسلم، والأول أبلغ في التهويل، والرؤية بصرية و { ٱلنَّاسِ } مفعولها، وقوله تعالى: { سُكَـٰرَىٰ } حال منه أي يراهم كل واحد مشابهين للسكارى.

وقوله تعالى: { وَمَا هُم بِسُكَـٰرَىٰ } أي حقيقة، حال أيضاً لكنها مؤكدة والحال المؤكدة تقترن بالواو لا سيما إذا كانت جملة اسمية. فلا يقال: إنه إذا كان معنى قوله تعالى: { تَرَى ٱلنَّاسَ سُكَـٰرَىٰ } على التشبيه يكون { وَمَا هُم بِسُكَـٰرَىٰ } بالمعنى المذكور مستغنى عنه، ولا وجه لجعله حالاً مؤكدة لمكان الواو، وجوز أن يكون { تَرَى } بمعنى تظن فسكارى مفعول ثان، وحينئذٍ يجوز أن يكون الكلام على التشبيه والجملة الاسمية في موضع الحال المؤكدة؛ ويجوز أن يكون على الحقيقة فلا تأكيد هنا، وأمر إفراد الخطاب وما فيه من المبالغة بحاله، وأياً ما كان فالمراد في قوله تعالى: { وَمَا هُم بِسُكَـٰرَىٰ } استمرار النفي، وأكد بزيادة الباء للتنبيه على أن ما هم فيه ليس من المعهود في شيء وإنما هو أمر لم يعهدوا قبله مثله، وأشير إلى سببه بقوله تعالى: { وَلَـٰكِنَّ عَذَابَ ٱللَّهِ شَدِيدٌ } أي إن شدة عذابه تعالى تجعلهم كما ترى، وهو استدراك على ما في «الانتصاف» راجع إلى قوله تعالى: { وَمَا هُم بِسُكَـٰرَىٰ } وزعم أبو حيان أنه استدراك عن مقدر كأنه قيل هذه أي الذهول والوضع ورؤية الناس سكارى أحوال هينة ولكن عذاب الله شديد وليس بهين وهو خلاف الظاهر جداً.

وقرأ زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما { تري } بضم التاء وكسر الراء أي ترى الزلزلة الخلق جميع الناس سكارى. وقرأ الزعفراني { ترى } بضم التاء وفتح الراء { ٱلنَّاس } بالرفع على إسناد الفعل المجهول إليه، والتأنيث على تأويل الجماعة. وقرأ أبو هريرة. وأبو زرعة وابن جرير وأبو نهيك كذلك إلا أنهم نصبوا { ٱلنَّاسِ } وترى على هذا متعد إلى ثلاثة مفاعيل كما في «البحر»؛ الأول: الضمير المستتر وهو نائب الفاعل، والثاني: { ٱلنَّاسِ } والثالث: { سُكَـٰرَىٰ } وقرأ أبو هريرة وأبو نهيك { سكـٰرَىٰ } بفتح السين في الموضعين وهو جمع تكسير، واحده سكران، وقال أبو حاتم: هي لغة تميم، وأخرج الطبراني وغيره عن عمران بن حصين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ { سكـرىٰ } كعطشى في الموضعين، وكذلك روى أبو سعيد الخدري وهي قراءة عبد الله وأصحابه وحذيفة وبها قرأ الأخوان وابن سعدان ومسعود بن صالح، وتجمع الصفة على فعلى إذا كانت من الآفات والأمراض كقتلى وموتى وحمقى، ولكون السكر جارياً مجرى ذلك لما فيه من تعطيل القوى والمشاعر جمع هذا الجمع فهو جمع سكران، وقال أبو علي الفارسي: يصح أن يكون جمع سكر كزمنى وزمن، وقد حكى سيبويه رجل سكر بمعنى سكران. وقرأ الحسن والأعرج وأبو زرعة وابن جبير والأعمش { سكرى } بضم السين فيهما، قال الزمخشري: وهو غريب، وقال أبو الفتح: هو اسم مفرد كالبشرى / وبهذا أفتاني أبو علي وقد سألته عنه انتهى. وإلى كونه اسماً مفرداً ذهب أبو الفضل الرازي فقال: فعلى بضم الفاء من صفة الواحدة من الإناث لكنها لما جعلت من صفات الناس وهم جماعة أجريت الجماعة بمنزلة المؤنث الموحد، وعن أبـي زرعة { سكرى } بفتح السين { بِسكرى } بضمها، وعن ابن جبير { سكرى } بفتح السين من غير ألف { بسكارى } بالضم والألف كما في قراءة الجمهور، والخلاف في فعالى أهو جمع أو اسم جمع مشهور.