خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

ذٰلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ ٱللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ عِندَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ ٱلأَنْعَامُ إِلاَّ مَا يُتْلَىٰ عَلَيْكُمْ فَٱجْتَنِبُواْ ٱلرِّجْسَ مِنَ ٱلأَوْثَانِ وَٱجْتَنِبُواْ قَوْلَ ٱلزُّورِ
٣٠
-الحج

روح المعاني

{ ذٰلِكَ } أي الأمر، وهذا وأمثاله من أسماء الإشارة يطلق للفصل بين الكلامين أو بين وجهي كلام واحد، والمشهور من ذلك هذا كقوله تعالى: { { هَـٰذَا وَإِنَّ لِلطَّـٰغِينَ لَشَرَّ مَـئَابٍ } [ص: 55] وكقول زهير وقد تقدم له وصف هرم بالكرم والشجاعة:

هذا وليس كمن يعيا بخطبته وسط النديِّ إذا ما ناطق نطقا

واختيار { ذٰلِكَ } هنا لدلالته على تعظيم الأمر وبعد منزلته وهو من الاقتضاب القريب من التخلص لملاءمة ما بعده لما قبله، وقيل: هو في موضع نصب بفعل محذوف أي امتثلوا ذلك { وَمَن يُعَظّمْ حُرُمَـٰتِ ٱللَّهِ } جمع حرمة وهو ما يحترم شرعاً، والمراد بها جميع التكليفات من مناسك الحج وغيرها، وتعظيمها بالعلم بوجوب مراعاتها والعمل بموجبه، وقال جمع: هي ما أمر به من المناسك، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما هي جميع المناهي في الحج فسوق وجدال وجماع وصيد، وتعظيمها أن لا يحوم حولها، وعن ابن زيد هي خمس المشعر الحرام والمسجد الحرام والبيت الحرام والشهر الحرام والمحرم حتى يحل { فَهُوَ } أي فالتعظيم { خَيْرٌ لَّهُ } من غيره على أن { خَيْرٌ } اسم تفضيل. وقال أبو حيان: الظاهر أنه ليس المراد به التفضيل فلا يحتاج لتقدير متعلق، ومعنى كونه خيراً له { عِندَ رَبّهِ } أنه يثاب عليه يوم القيامة، والتعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضمير { مِنْ } لتشريفه والإشعار بعلة الحكم.

{ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ ٱلأَنْعَـٰمُ } أي ذبحها وأكلها لأن ذاتها لا توصف بحل وحرمة، والمراد بها الأزواج الثمانية على الإطلاق، وقوله تعالى: { إِلاَّ مَا يُتْلَىٰ عَلَيْكُمْ } أي إلا ما يتلى عليكم آية تحريمه استثناء متصل كما اختاره الأكثرون منها على أن { مَا } عبارة عما حرم منها لعارض كالميتة وما أهل به لغير الله تعالى. وجوز أن يكون / الاستثناء منقطعاً بناء على أن { مَا } عبارة عما حرم في قوله سبحانه: { { حُرّمَتْ عَلَيْكُمُ ٱلْمَيْتَةُ } [المائدة: 3] الآية، وفيه ما ليس من جنس الأنعام، والفعل على الوجهين لم يرد منه الاستقبال لسبق تلاوة آية التحريم، وكأن التعبير بالمضارع استحضاراً للصورة الماضية لمزيد الاعتناء، وقيل: التعبير بالمضارع للدلالة على الاستمرار التجددي المناسب للمقام، والجملة معترضة مقررة لما قبلها من الأمر بالأكل والإطعام ودافعة لما عسى يتوهم أن الإحرام يحرم ذلك كما يحرم الصيد.

{ فَٱجْتَنِبُواْ ٱلرّجْسَ } أي القذر { مِنَ ٱلأَوْثَـٰنِ } أي الذي هو الأوثان على أن (من) بيانية. وفي تعريف { ٱلرّجْسَ } بلام الجنس مع الإبهام والتعيين وإيقاع الاجتناب على الذات دون العبادة ما لا يخفى من البالغة في التنفير عن عبادتها، وقيل: (من) لابتداء الغاية فكأنه تعالى أمرهم باجتناب الرجس عاماً ثم عين سبحانه لهم مبدأه الذي منه يلحقهم إذ عبادة الوثن جامعة لكل فساد ورجس، وفي «البحر» يمكن أن تكون للتبعيض بأن يعني بالرجس عبادة الأوثان وقد روي ذلك عن ابن عباس وابن جريج فكأنه قيل فاجتنبوا من الأوثان الرجس وهو العبادة لأن المحرم منها إنما هو العبادة ألا ترى أنه قد يتصور استعمال الوثن في بناء وغير ذلك مما لم يحرمه الشرع فكأن للوثن جهات، منها عبادته وهو المأمور باجتنابه وعبادته بعض جهاته فقول ابن عطية: إن من جعل (من) للتبعيض قلب المعنى وأفسده ليس في محله انتهى. ولا يخفى ما في كلا الوجهين الابتداء والتبعيض من التكلف المستغنى عنه، وهٰهنا احتمال آخر ستعلمه مع ما فيه إن شاء الله تعالى قريباً.

والفاء لترتيب ما بعدها على ما يفيده قوله تعالى: { وَمَن يُعَظّمْ } الخ من وجوب مراعاة الحرمات والاجتناب عن هتكها. وذكر أن بالاستثناء حسن التخلص إلى ذلك وهو السر في عدم حمل الأنعام على ما ذكر من الضحايا والهدايا المعهودة خاصة ليستغنى عنه إذ ليس فيها ما حرم لعارض فكأنه قيل: ومن يعظم حرمات الله فهو خير له والأنعام ليست من الحرمات فإنها محللة لكم إلا ما يتلى عليكم آية تحريمه فإنه مما يجب الاجتناب عنه فاجتنبوا ما هو معظم الأمور التي يجب الاجتناب عنها وهو عبادة الأوثان، وقيل: الظاهر أن ما بعد الفاء متسبب عن قوله تعالى: { أُحِلَّتْ لَكُمْ ٱلأَنْعَـٰمِ } فإن ذلك نعمة عظيمة تستدعي الشكر لله تعالى لا الكفر والإشراك بل لا يبعد أن يكون المعنى فاجتنبوا الرجس من أجل الأوثان على أن { مِنْ } سببية وهو تخصيص لما أهل به لغير الله تعالى بالذكر فيتسبب عن قوله تعالى: { إِلاَّ مَا يُتْلَىٰ } ويؤيده قوله تعالى فيما بعد { { غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ } [الحج: 31] فإنه إذا حمل على ما حملوه كان تكراراً انتهى. وأورد على ما ادعى ظهوره أن إحلال الأنعام وإن كان من النعم العظام إلا أنه من الأمور الشرعية دون الأدلة الخارجية التي يعرف بها التوحيد وبطلان الشرك فلا يحسن اعتبار تسبب اجتناب الأوثان عنه. وأما ما ادعى عدم بعده فبعيد جداً وإنكار ذلك مكابرة فتأمل.

وقوله تعالى: { وَٱجْتَنِبُواْ قَوْلَ ٱلزُّورِ } تعميم بعد تخصيص فإن عبادة الأوثان رأس الزور لما فيها من ادعاء الاستحقاق كأنه تعالى لما حث على تعظيم الحرمات أتبع ذلك بما فيه رد لما كانت الكفرة عليه من تحريم البحائر والسوائب ونحوهما والافتراء على الله تعالى بأنه حكم بذلك، ولم يعطف { قَوْلَ ٱلزُّورِ } على { ٱلرّجْسَ } بل أعاد العامل لمزيد الاعتناء، والمراد من الزور مطلق الكذب وهو من الزور بمعنى الانحراف فإن الكذب منحرف عن الواقع والإضافة بيانية، وقيل: هو أمر باجتناب شهادة الزور لما أخرج أحمد وأبو داود / وابن ماجه والطبراني وغيرهم عن ابن مسعود أنه صلى الله عليه وسلم صلى صلاة الصبح فلما انصرف قائماً قال: عدلت شهادة الزور الإشراك بالله تعالى ثلاث مرات ثم تلا هذه الآية. وتعقب بأنه لا نص فيما ذكر من الخبر مع ما في سنده في بعض الطرق من المقال على التخصيص لجواز بقاء الآية على العموم وتلاوتها لشمولها لذلك، وأخرج ابن أبـي حاتم عن مقاتل أنه قال يعني بقول الزور الشرك بالكلام وذلك أنهم كانوا يطوفون بالبيت فيقولون في تلبيتهم لبيك لا شريك لك إلا شريكاً هو لك تملكه وما ملك وهو قول بالتخصيص. ولا يخفى أن التعميم أولى منه وإن لاءم المقام كتخصيص بعضهم ذلك بقول المشركين هذا حلال وهذا حرام.