خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَٱلْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِّن شَعَائِرِ ٱللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَٱذْكُرُواْ ٱسْمَ ٱللَّهِ عَلَيْهَا صَوَآفَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُواْ مِنْهَا وَأَطْعِمُواْ ٱلْقَانِعَ وَٱلْمُعْتَرَّ كَذٰلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ
٣٦
-الحج

روح المعاني

{ وَٱلْبُدْنَ جَعَلْنَـٰهَا لَكُمْ مّن شَعَـٰئِرِ ٱللَّهِ } أي من أعلام دينه التي شرعها الله تعالى، والبدن جمع بدنة وهي كما قال الجوهري: ناقة أو بقرة تنحر بمكة. وفي «القاموس» هي من الإبل والبقر كالأضحية من الغنم تهدى إلى مكة وتطلق على الذكر والأنثى وسميت بذلك لعظم بدنها لأنهم كانوا يسمنونها ثم يهدونها، وكونها من النوعين قول معظم أئمة اللغة وهو مذهب الحنفية فلو نذر نحر بدنة يجزئه نحر بقرة عندهم وهو قول عطاء وسعيد بن المسيب، وأخرج عبد بن حميدة وابن المنذر عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما لا تعلم البدن إلا من الإبل والبقر. وفي «صحيح مسلم» عن جابر رضي الله تعالى عنه كنا ننحر البدنة عن سبعة فقيل والبقرة فقال: وهل هي إلا من البدن.

وقال صاحب «البارع» من اللغويين: إنها لا تطلق على ما يكون من البقر، وروي ذلك عن مجاهد والحسن وهو مذهب الشافعية فلا يجزي عندهم من نذر نحر بدنة نحر بقرة، وأيد بما رواه أبو داود عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "البدنة عن سبعة والبقرة عن سبعة" فإن العطف يقتضي المغايرة وفيما يأتي آخراً تأييد لذلك أيضاً، والظاهر أن استعمال البدنة فيما يكون من الإبل أكثر وإن كان أمر الإجزاء متحداً. ولعل مراد جابر بقوله في البقرة وهل هي إلا من البدن أن حكمها حكمها وإلا فيبعد جهل السائل بالمدلول اللغوي ليرد عليه بذلك، ويمكن أن يقال فيما روي عن ابن عمر: أن مراده بالبدن فيه البدن الشرعية، ولعله إذا قيل باشتراكها بين ما يكون من النوعين يحكم العرف أو نحوه في التعيين فيما إذا نذر الشخص بدنة ويشير إلى ذلك ما أخرجه ابن أبـي شيبة وعبد بن حميد عن يعقوب الرياحي عن أبيه قال: أوصى إليَّ رجل وأوصى ببدنة فأتيت ابن عباس فقلت له: إن رجلاً أوصى إلي وأوصى ببدنة فهل تجزي عني بقرة؟ قال: نعم ثم قال: ممن صاحبكم؟ فقلت: من رياح قال: ومتى اقتنى بنو رياح البقر إلى الإبل وَهِم صاحبكم إنما البقر لأسد وعبد القيس فتدبر.

وقرأ الحسن وابن أبـي إسحاق وشيبة وعيسى { البدن } بضم الباء والدال، قيل وهو الأصل كخشب وخشبة وإسكان الدال تخفيف منه، ورويت هذه القراءة عن نافع وأبـي جعفر وقرأ ابن أبـي إسحاق أيضاً بضم الباء والدال وتشديد النون فاحتمل أن يكون اسماً مفرداً بنى على فعل كعتل واحتمل أن يكون التشديد من التضعيف الجائز في الوقف وأجري الوصل مجرى الوقف، والجمهور على نصب { البدن } على الاشتغال أي وجعلنا البدن جعلناها، وقرىء بالرفع على الابتداء، وقوله تعالى: { لَكُمْ } ظرف متعلق بالجعل، و { مِن شَعَائِرِ ٱللَّهِ } في موضع المفعول الثاني له.

وقوله تعالى: { لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ } أي نفع في الدنيا وأجر في الآخرة كما روي عن ابن عباس وعن السدي الاقتصار على الأجر جملة مستأنفة مقررة لما قبلها.

{ فَٱذْكُرُواْ ٱسْمَ ٱللَّهِ عَلَيْهَا } بأن تقولوا عند ذبحها بسم الله والله أكبر اللهم منك ولك. وقد أخرج ذلك / جماعة عن ابن عباس، وفي «البحر» بأن يقول عند النحر: الله أكبر لا إلٰه إلا الله والله أكبر اللهم منك وإليك. { صَوَافَّ } أي قائمات قد صففن أيديهن وأرجلهن فهو جمع صافة ومفعوله مقدر. وقرأ ابن عباس وابن عمر وابن مسعود والباقر ومجاهد وقتادة وعطاء والكلبـي والأعمش بخلاف عنه { صوافن } بالنون جمع صافنة وهو إما من صفن الرجل إذا صف قدميه فيكون بمعنى صواف أو من صفن الفرس إذا قام على ثلاث وطرف سنبك الرابعة لأن البدنة عند الذبح تعقل إحدى يديها فتقوم على ثلاث، وعقلها عند النحر سنة، فقد أخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما «أنه رأى رجلاً قد أناخ بدنته وهو ينحرها فقال: ابعثها قياماً مقيدة سنة محمد صلى الله عليه وسلم». والأكثرون على عقل اليد اليسرى، فقد أخرج ابن أبـي شيبة عن ابن سابط رضي الله تعالى عنه أن النبـي صلى الله عليه وسلم وأصحابه كانوا يعقلون يد البدنة اليسرى وينحرونها قائمة على ما بقي من قوائمها. وأخرج عن الحسن قيل له: كيف تنحر البدنة؟ قال: تعقل يدها اليسرى إذا أريد نحرها، وذهب بعض إلى عقل اليمنى؛ فقد أخرج ابن أبـي شيبة أيضاً عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أنه كان ينحرها وهي معقولة يدها اليمنى، وقيل لا فرق بين عقل اليسرى وعقل اليمنى، فقد أخرج ابن أبـي شيبة أيضاً عن عطاء قال: اعقل أي اليدين شئت. وأخرج جماعة عن ابن عمر أنه فسر { صَوَافَّ } بقائمات معقولة إحدى أيديهن فلا فرق في المراد بين صواف وصوافن على هذا أصلاً، لكن روي عن مجاهد أن الصواف على أربع والصوافن على ثلاث.

وقرأ أبو موسى الأشعري والحسن ومجاهد وزيد بن أسلم وشقيق وسليمان التيمي والأعرج { صوافي } بالياء جمع صافية أي خوالص لوجه الله عز وجل لا يشرك فيها شيء كما كانت الجاهلية تشرك، ونون الياء عمر وبن عبيد وهو خلاف الظاهر لأن { صوافي } ممنوع من الصرف لصيغة منتهى الجموع، وخرج على وجهين، أحدهما: أنه وقف عليه بألف الإطلاق لأنه منصوب ثم نون تنوين الترنم لا تنوين الصرف بدلاً من الألف، وثانيهما أنه على لغة من يصرف ما لا ينصرف لا سيما الجمع المتناهي ولذا قال بعضهم:

والصرف في الجمع أتى كثيراً حتى ادعى قوم به التخييرا

وقرأ الحسن أيضاً { صَوَافَّ } بالتنوين والتخفيف على لغة من ينصب المنقوص بحركة مقدرة ثم يحذف الياء فأصل { صَوَافَّ } صوافي حذفت الياء لثقل الجمع واكتفى بالكسرة التي قبلها ثم عوض عنها التنوين ونحوه:

ولو أن واش باليمامة داره وداري بأعلى حضرموت اهتدى ليا

وقد تبقى الياء ساكنة كما في قوله:

يا باري القوس برياً ليست تحسنها لا تفسدنها وأعط القوس باريها

وعلى ذلك قراءة بعضهم { صوافي } بإثبات الياء ساكنة بناءً على أنه كما في القراءة المشهورة حال من ضمير { عَلَيْهَا } ولو جعل كما قيل بدلاً من الضمير لم يحتج إلى التخريج على لغة شاذة.

{ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا } أي سقطت على الأرض وهو كناية عن الموت. وظاهر ذلك مع ما تقدم من الآثار يقتضي أنها تذبح وهي قائمة، وأيد به كون البدن من الإبل دون البقر لأنه لم تجر عادة بذبحها قائمة وإنما تذبح مضطجعة وقلما شوهد نحر / الإبل وهي مضطجعة { فَكُلُواْ مِنْهَا وَأَطْعِمُواْ ٱلْقَـٰنِعَ } أي الراضي بما عنده وبما يعطى من غير مسألة ولا تعرض لها، وعليه حمل قول لبيد:

فمنهم سعيد آخذ بنصيبه ومنهم شقي بالمعيشة قانع

{ وَٱلْمُعْتَرَّ } أي المعترض للسؤال من أعتره إذا تعرض له، وتفسيرهما بذلك مروي عن ابن عباس وجماعة، وقال محمد بن كعب ومجاهد وإبراهيم والحسن والكلبـي: { ٱلْقَـٰنِعَ } السائل كما في قول عدي بن زيد:

وما خنت ذا عهد وأيت بعهده ولم أحرم المضطر إذ جاء قانعاً

{ وَٱلْمُعْتَرَّ } المعترض من غير سؤال، فالقانع قيل على الأول من قنع يقنع كتعب يتعب قنعاً إذا رضي بما عنده من غير سؤال، وعلى الثاني من قنع يقنع كسأل يسأل لفظاً ومعنى قنوعاً. وعلى ذلك جاء قول الشاعر:

العبد حر إن قنع والحر عبد إن قنع
فاقنع ولا تطمع فما شيء يشين سوى الطمع

فلا يكون { ٱلْقَـٰنِعَ } على هذا من الأضداد لاختلاف الفعلين، ونص على ذلك الخفاجي حاكماً بتوهم من يقول بخلافه. وفي «الصحاح» نقل القول بأنه من الأضداد عن بعض أهل العلم ولم يتعقبه بشيء، ونقل عنه أيضاً أنه يجوز أن يكون السائل سمي قانعاً لأنه يرضى بما يعطي قل أو كثر ويقبله ولا يرد فيكون معنى الكلمتين راجعاً إلى الرضا، وإلى كون قنع بالكسر بمعنى رضي وقنع بالفتح بمعنى سأل ذهب الراغب وجعل مصدر الأول قناعة وقنعاناً ومصدر الثاني قنوعاً. ونقل عن بعضهم أن أصل ذلك من القناع وهو ما يغطى به الرأس فقنع بالكسر لبس القناع ساتراً لفقره كقولهم: خفي إذا لبس الخفاء وقنع إذا رفع قناعه كاشفاً لفقره بالسؤال نحو خفي إذا رفع الخفاء، وأيد كون القانع بمعنى الراضي بقراءة أبـي رجاء { ٱلْقَـٰنِعَ } بوزن الحذر بناءً على أنه لم يرد بمعنى السائل بخلاف القانع فإنه ورد بالمعنيين والأصل توافق القراءات، وعن مجاهد { ٱلْقَـٰنِعَ } الجار وإن كان غنياً وأخرج ابن أبـي شيبة عنه وعن ابن جبير أن القانع أهل مكة والمعتر سائر الناس، وقيل: المعتر الصديق الزائر، والذي اختاره من هذه الأقوال أولها. وقرأ الحسن { والمعتري } اسم فاعل من اعترى وهو واعتر بمعنى. وقرأ عمرو وإسماعيل كما نقل ابن خالويه { المعتر } بكسر الراء بدون ياء، وروى ذلك المقري عن ابن عباس، وجاء ذلك أيضاً عن أبـي رجاء وحذفت الياء تخفيفاً منه واستغناءً بالكسرة عنها.

واستدل بالآية على أن الهدي يقسم أثلاثاً ثلث لصاحبه وثلث للقانع وثلث للمعتر وروي ذلك عن ابن مسعود، وقال محمد بن جعفر رضي الله تعالى عنهما بقسمته أثلاثاً أيضاً إلى أنه قال: أطعم القانع والمعتر ثلثاً والبائس الفقير ثلثاً وأهلي ثلثاً وفي القلب من صحته شيء. وقال ابن المسيب: ليس لصاحب الهدي منه إلا الربع وكأنه عد القانع والمعتر والبائس الفقير ثلاثة وهو كما ترى، قال ابن عطية: وهذا كله على جهة الاستحسان لا الفرض، وكأنه أراد بالاستحسان الندب فيكون قد حمل كلا الأمرين في الآية على الندب. وفي «التيسير» أمر { كُلُواْ } للإباحة ولو لم يأكل جاز وأمر { أطعموا } للندب ولو صرفه كله لنفسه لم يضمن شيئاً، وهذا في كل هدي نسك ليس بكفارة وكذا الأضحية، وأما الكفارة فعليه التصدق بجميعها فما أكله / أو أهداه لغني ضمنه. وفي «الهداية» يستحب له أن يأكل من هدي التطوع والمتعة والقران وكذا يستحب أن يتصدق على الوجه الذي عرف في الضحايا وهو قول بنحو ما يقتضيه كلام ابن عطية في كلا الأمرين. وأباح مالك الأكل من الهدي الواجب إلا جزاء الصيد والأذى والنذر، وأباحه أحمد إلا من جزاء الصيد والنذر، وعند الحسن الأكل من جميع ذلك مباح وتحقيق ذلك في كتب الفقه.

{ كَذٰلِكَ } أي مثل ذلك التسخير البديع المفهوم من قوله تعالى: { صَوَافَّ } { سَخَّرْنَـٰهَا لَكُمْ } مع كمال عظمها ونهاية قوتها فلا تستعصي عليكم حتى إنكم تأخذونها منقادة فتعقلونها وتحبسونها صافة قوائمها ثم تطعنون في لباتها ولولا تسخير الله تعالى لم تطق ولم تكن بأعجز من بعض الوحوش التي هي أصغر منها جرماً وأقل قوة وكفى ما يتأبد من الإبل شاهداً وعبرة. وقال ابن عطية: كما أمرناكم فيها بهذا كله سخرناها لكم ولا يخفى بعده { لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } أي لتشكروا إنعامنا عليكم بالتقرب والإخلاص.