خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

لَن يَنَالَ ٱللَّهَ لُحُومُهَا وَلاَ دِمَآؤُهَا وَلَـٰكِن يَنَالُهُ ٱلتَّقْوَىٰ مِنكُمْ كَذٰلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُواْ ٱللَّهَ عَلَىٰ مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ ٱلْمُحْسِنِينَ
٣٧
-الحج

روح المعاني

{ لَن يَنَالَ ٱللَّهَ لُحُومُهَا وَلاَ دِمَاؤُهَا } أي لن يصيب رضا الله تعالى اللحوم المتصدق بها ولا الدماء المهراقة بالنحر من حيث إنها لحوم ودماء { وَلَـٰكِن يَنَالُهُ ٱلتَّقْوَىٰ مِنكُمْ } ولكن يصيبه ما يصحب ذلك من تقوى قلوبكم التي تدعوكم إلى تعظيمه تعالى والتقرب له سبحانه والإخلاص له عز وجل. وقال مجاهد: أراد المسلمون أن يفعلوا فعل المشركين من الذبح وتشريح اللحم ونصبه حول الكعبة ونضحها بالدماء تعظيماً لها وتقرباً إليه تعالى فنزلت هذه الآية، وروي نحوه عن ابن عباس وغيره وقرأ يعقوب وجماعة { لَن تَنَالُ. وَلَكِنِ تَنَالُهُ } بالتاء. وقرأ أبو جعفر الأول بالتاء والثاني بالياء آخر الحروف، وعن يحيـى بن يعمر والجحدري أنهما قرآ بعكس ذلك. وقرأ زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما { لَن يَنَالَ. وَلَكِن يَنَالُهُ } بالبناء لما يسم فاعله في الموضعين { ولحومها ولا دماءها } بالنصب.

{ كَذٰلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ } كرره سبحانه تذكيراً للنعمة وتعليلاً له بقوله تعالى: { لِتُكَبّرُواْ ٱللَّهَ } أي لتعرفوا عظمته تعالى باقتداره على ما لا يقدر عليه غيره عز وجل فتوحدوه بالكبرياء، وقيل: أي لتقولوا الله أكبر عند الإحلال أو الذبح { عَلَىٰ مَا هَدَاكُمْ } أي على هدايته وإرشاده إياكم إلى طريق تسخيرها وكيفية التقرب بها، فما مصدرية، وجوز أن تكون موصوفة وأن تكون موصولة والعائد محذوف، ولا بد أن يعتبر منصوباً عند من يشترط في حذف العائد المجرور أن يكون مجروراً بمثل ما جر به الموصول لفظاً ومعنى ومتعلقاً، و { عَلَىٰ } متعلقة بتكبروا لتضمنه معنى الشكر أو الحمد كأنه قيل: لتكبروه تعالى شاكرين أو حامدين على ما هداكم، وقال بعضهم: على بمعنى اللام التعليلية ولا حاجة إلى اعتبار التضمين، ويؤيد ذلك قول الداعي على الصفا: الله أكبر على ما هدانا والحمد لله تعالى على ما أولانا، ولا يخفى أن لعدم اعتبار التضمين هنا وجهاً ليس فيما نحن فيه فافهم.

{ وَبَشّرِ ٱلْمُحْسِنِينَ } أي المخلصين في كل ما يأتون ويذرون في أمور دينهم. وعن ابن عباس هم الموحدون.

ومن باب الإشارة في الآيات: { يَٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱتَّقُواْ رَبَّكُمُ } بالإعراض عن السوى وطلب الجزاء { { إِنَّ زَلْزَلَةَ ٱلسَّاعَةِ } [الحج: 1] وهي مبادي القيامة الكبرى { يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ } وهي مواد الأشياء فإن لكل شيء مادة ملكوتية ترضع رضيعها من الملك وتربيه في مهد الاستعداد { وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ } وهي الهيولات / { حِمْلِهَا } وهي الصور يوم تبدل الأرض غير الأرض والسمٰوات { وَتَرَى ٱلنَّاسَ سُكَـٰرَىٰ } الحيرة { { وَمَا هُم بِسُكَـٰرَىٰ } [الحج: 2] المحبة، قيل سكر الأعداء من رؤية القهريات، وسكر الموافقين من رؤية بدائع الأفعال، وسكر المريدين من لمعان الأنوار. وسكر المحبين من كشوف الأسرار، وسكر المشتاقين من ظهور سني الصفات، وسكر العاشقين من مكاشفة الذات. وسكر المقربين من الهيبة والجلال، وسكر العارفين من الدخول في حجال الوصال، وسكر الموحدين من استغراقهم في بحار الأولية، وسكر الأنبياء والمرسلين عليهم السلام من اطلاعهم على أسرار الأزلية:

ألم بنا ساق يجل عن الوصف وفي طرفه خمر وخمر على الكف
فأسكر أصحابـي بخمرة كفه وأسكرني والله من خمرة الطرف

{ وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَعْبُدُ ٱللَّهَ عَلَىٰ حَرْفٍ } الآية يدخل فيه من يعبد الله تعالى طمعاً في الكرامات ومحمدة الخلق ونيل دنياهم فإن رأى شيئاً من ذلك سكن إلى العبادة وإن لم ير تركها وتهاون فيها { خَسِرَ ٱلدُّنْيَا } بفقدان الجاه والقبول والافتضاح عند الخلق { { وَٱلأَخِرَةِ } [الحج: 11] ببقائه في الحجاب عن مشاهدة الحق واحتراقه بنار البعد { { مَن كَانَ يَظُنُّ أَن لَّن يَنصُرَهُ ٱللَّهُ فِى ٱلدُّنْيَا وَٱلأَخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى ٱلسَّمَاء } [الحج: 15] الآية فيه إشارة إلى حسن مقام التسليم والرضا بما فعل الحكيم جل جلاله { { وَإِذْ بَوَّأْنَا لإِبْرٰهِيمَ مَكَانَ ٱلْبَيْتِ أَن لاَّ تُشْرِكْ بِى شَيْئاً وَطَهّرْ بَيْتِىَ لِلطَّائِفِينَ وَٱلْقَآئِمِينَ وَٱلرُّكَّعِ ٱلسُّجُودِ } [الحج: 26] فيه من تعظيم أمر الكعبة ما فيه، وقد جعلها الله تعالى مثالاً لعرشه وجعل الطائفين بها من البشر كالملائكة الحافين من حول العرش يسبحون بحمد ربهم إلا أن تسبيح البشر وثناءهم عليه عز وجل بكلمات إلٰهية قرآنية فيكونون من حيث تسبيحهم وثناؤهم بتلك الكلمات من حيث إنها كلماته تعالى نواباً عنه عز وجل في ذلك ويكون أهل القرآن وهم كما في الحديث أهل الله تعالى وخاصته، وللكعبة أيضاً امتياز على العرش وسائر البيوت الأربعة عشر لأمر ما نقل إلينا أنه في العرش ولا في غيره من تلك البيوت وهو الحجر الأسود الذي جاء في الخبر أنه يمين الله عز وجل ثم إنه تعالى جعل لبيته أربعة أركان لسر إلٰهي وهي في الحقيقة ثلاثة لأنه شكل مكعب الركن الذي يلي الحجر كالحجر في الصورة مكعب الشكل ولذلك سمي الكعبة تشبيهاً بالكعب، ولما جعل الله تعالى له بيتاً في العالم الكبير جعل نظيره في العالم الصغير وهو قلب المؤمن، وقد ذكروا أنه أشرف من هذا البيت «ما وسعني أرضي ولا سمائي ولكن وسعني قلب عبدي المؤمن» وجعل الخواطر التي تمر عليه كالطائفين وفيها مثلهم المحمود والمذموم، وجعل محل الخواطر فيه كالأركان التي للبيت فمحل الخاطر الإلٰهي كركن الحجر ومحل الخاطر الملكي كالركن اليماني ومحل الخاطر النفسي كالمكعب الذي في الحجر لا غير وليس للخاطر الشيطاني فيه محل، وعلى هذا قلوب الأنبياء عليهم السلام، وقد يقال: محل الخاطر النفسي كالركن الشامي ومحل الخاطر الشيطاني كالركن العراقي، وإنما جعل ذلك للركن العراقي لأن الشارع شرع أن يقال عنده: أعوذ بالله تعالى من الشقاق والنفاق وسوء الأخلاق، وعلى هذا قلوب المؤمنين ما عدا الأنبياء عليهم السلام، وأودع سبحانه فيه كنزاً أراد صلى الله عليه وسلم أن يخرجه فلم يفعل لمصلحة رآها، وكذا أراد عمر فامتنع اقتداءً برسول الله صلى الله عليه وسلم. وكذلك أودع جل وعلا في قلب الكامل كنز العلم به عز وجل. وارتفاع البيت على ما مر سبعة وعشرون ذراعاً وربع ذراع. وقال بعضهم: ثمانية وعشرون ذراعاً، / وعليه يكون ذلك نظير منازل القلب التي تقطعها كواكب الإيمان السيارة لإظهار حوادث تجري في النفس كما تقطع السيارة منازلها في الفلك لإظهار الحوادث في العالم العنصري إلى غير ذلك مما لا يعرفه إلا أهل الكشف. { { لَكُمْ فِيهَا مَنَـٰفِعُ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَىٰ ٱلْبَيْتِ ٱلْعَتِيقِ } [الحج: 33] أي إلى ما يليه فإن النحر بمنى وجعلت محلاً للقرابين على ما ذكر الشيخ الأكبر محي الدين قدس سره لأنها من بلوغ الأمنية ومن بلغ المنى المشروع فقد بلغ الغاية. وفي نحر القرابين إتلاف أرواح عن تدبير أجسام حيوانية لتتغذى بها أجسام إنسانية فتنظر أرواحها إليها في حال تفريقها فتدبرها إنسانية بعد ما كانت تدبرها إبلاً أو بقراً، وهذه مسألة دقيقة لم يفطن لها إلا من نور الله تعالى بصيرته من أهل الله تعالى انتهى. وتعقله مفوض إلى أهله فاجهد أن تكون منهم. { { وَبَشّرِ ٱلْمُخْبِتِينَ * ٱلَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ ٱللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ } [الحج: 34-35] حسبما يحصل لهم من التجلي عند ذلك، وقد يحصل من الذكر طمأنينة القلب لاقتضاء التجلي إذ ذاك ذلك، وذكر بعضهم أن لكل اسم تجلياً خاصاً فإذا ذكر الله تعالى حصل حسب الاستعداد ومن هٰهنا يحصل تارة وجل وتارة طمأنينة؛ و { إِذَا } لا تقتضي الكلية بل كثيراً ما يؤتى بها في الشرطية الجزئية، وقيل العارف متى سمع الذكر من غيره تعالى وجِل قلبه ومتى سمعه منه عز وجل اطمأن. ويفهم من ظاهر كلامهم أن السامع للذكر إما وجل أو مطمئن ولم يصرح بقسم آخر فإن كان فالباقي على حاله قبل السماع، وأكثر مشايخ زماننا يرقصون عند سماع الذكر فما أدري أينشأ رقصهم عن وجل منه تعالى أم عن طمأنينة؟ وسيظهر ذلك يوم تبلى السرائر وتظهر الضمائر { { وَٱلْبُدْنَ جَعَلْنَـٰهَا لَكُمْ مّن شَعَـٰئِرِ ٱللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَٱذْكُرُواْ ٱسْمَ ٱللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ } [الحج: 36] قد تقدم لك أنهم ينحرون البدن معقولة اليد اليسرى قائمة على ما بقي من قوائمها، وذكروا في سر ذلك أنه لما كان نحرها قربة أراد صلى الله عليه وسلم المناسبة في صفة نحرها في الوترية فأقامها على ثلاث قوائم لأن الله تعالى وتر يحب الوتر والثلاثة أول الإفراد فلها أول المراتب في ذلك والأولية وترية أيضاً، وجعلها قائمة لأن القيومية مثل الوترية صفة إلٰهية فيذكر الذي ينحرها مشاهدة القائم على كل نفس بما كسبت، وقد صح أن المناسك إنما شرعت لإقامة ذكر الله تعالى، وشفع الرجلين لقوله تعالى: { { وَٱلْتَفَّتِ ٱلسَّاقُ بِٱلسَّاقِ } [القيامة: 29] وهو اجتماع أمر الدنيا بالآخرة، وأفرد اليمين من يد البدن حتى لا تعتمد إلا على وتر له الاقتدار. وكان العقل في اليد اليسرى لأنها خلية عن القوة التي لليمنى والقيام لا يكون إلا عن قوة. وقد أخرج مسلم عن ابن عباس أنه قال: "صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الظهر بذي الحليفة ثم دعا بناقته فأشعرها في صفحة سنامها الأيمن وسلت عنها الدم وقلدها نعلين ثم ركب راحلته" الحديث. والسر في كون هديه عليه الصلاة والسلام من الإبل - مع أنه جاء فيها أنها شياطين ولذا كرهت الصلاة في معاطنها الإشارة إلى أن مقامه عليه الصلاة والسلام رد البعداء من الله تعالى إلى حال التقريب. وفي إشعارها في سنامها الذي هو أرفع ما فيها إشعار منه صلى الله عليه وسلم بأنه عليه الصلاة والسلام أتى عليهم من صفة الكبرياء الذي كانوا عليه في نفوسهم فليجتنبوها فإن الدار الآخرة إنما جعلت للذين لا يريدون علواً في الأرض ولا فساداً، ووقع الإشعار في الصفحة اليمنى لأن اليمين محل الاقتدار والقوة، والصفحة من الصفح ففي ذلك إشعار بأن الله تعالى يصفح عمن هذه صفته إذا طلب القرب من الله تعالى وزال عن كبريائه الذي أوجب له البعد، وجعل عليه الصلاة والسلام الدلالة على إزالة الكبرياء في شيطنة البدن في تعليق النعال في رقابها إذ لا يصفع بالنعال إلا أهل الهون والمذلة ومن كان بهذه المثابة فما بقي فيه كبرياء تشهد، وعلق / النعال بقلائد العهن ليتذكر بذلك ما أراد الله تعالى وتكون الجبال كالعهن المنفوش، وقد ذكروا لجميع أفعال الحج أسراراً من هذا القبيل، وعندي أن أكثرها تعبدية وأن أكثر ما ذكروه من قبيل الشعر والله تعالى الموفق للسداد.