خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَأَنَّ ٱلسَّاعَةَ آتِيَةٌ لاَّ رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ ٱللَّهَ يَبْعَثُ مَن فِي ٱلْقُبُورِ
٧
-الحج

روح المعاني

{ وَأَنَّ ٱلسَّاعَةَ ءاتِيَةٌ } أي فيما سيأتي، والتعبير بذلك دون الفعل للدلالة على تحقق إتيانها وتقرره البتة لاقتضاء الحكمة إياه لا محالة، وقوله تعالى: { لاَ رَيْبَ فِيهَا } إما خبر ثان لأنَّ أو حال من ضمير { ٱلسَّاعَةَ } في الخبر، ومعنى نفي الريب عنها أنها في ظهور أمرها ووضوح دلائلها بحيث ليس فيها مظنة أن يرتاب في إتيانها. و(أن) وما بعدها في تأويل مصدر عطف على المصدر المجرور بباء السببية داخل معه في حيزها كالمصدرين الحاصلين من قوله تعالى: { { وَأَنَّهُ يُحْيِىَ ٱلْمَوْتَىٰ } [الحج: 6] وقوله سبحانه: { { وَأَنَّهُ عَلَىٰ كُلّ شَىْءٍ قَدِيرٌ } [الحج: 6] وكذا قوله عز وجل: { وَأَنَّ ٱللَّهَ يَبْعَثُ مَن فِى ٱلْقُبُورِ } لكن لا من حيث إن إتيان الساعة وبعث من في القبور مؤثران فيما ذكر من أفاعيله تعالى تأثير القدرة فيها بل من حيث أن كلاً منهما بسبب داع له عز وجل بموجب رأفته بالعباد المبنية على الحكم البالغة إلى ما ذكر من خلقهم ومن إحياء الأرض الميتة على نمط بديع صالح للاستشهاد به على إمكانهما ليتأملوا في ذلك ويستدلوا به عليه أو على وقوعهما ويصدقوا بذلك لينالوا السعادة الأبدية ولولا ذلك لما فعل بل لما خلق العالم رأساً، وهذا كما ترى من أحكام حقيته تعالى في أفعاله وابتنائها على الحكم الباهرة كما أن ما قبله من أحكام حقيته تعالى في صفاته وكونها في غاية الكمال، هذا ما اختاره العلامة أبو السعود في تفسير (ذلك) وهو مما يميل إليه الطبع السليم.

وجعل صاحب «الكشاف» الإشارة إلى ما ذكر أيضاً إلا أنه بحسب الظاهر جعل إتيان الساعة وبعث من في القبور حيث إن ذلك من روادف الحكمة كناية عنها فكأن الأصل ذلك حاصل بسبب أن الله تعالى هو الحق الثابت الموجود وأنه قادر على إحياء الموتى وعلى كل مقدور وأنه حكيم فاكتفى بمقتضى الحكمة عن الوصف بالحكمة لما في الكناية من النكتة خصوصاً والكلام مع منكري البعث للدفع في نحورهم. ولا يخلو عن بعد، ونقل النيسابوري عبارة «الكشاف» واعترضها بما لا يخفى رده وأبدى وجهاً في الآية ذكر أنه مما لم يخطر لغيره ورجا أن يكون صواباً وهو مع اقتضائه حمل الباء على ما يعم السببية الفاعلية والسببية الغائية مما لا يخفى ما فيه.

وقيل: (ذلك) إشارة إلى ما ذكر إلا أن قوله تعالى: { وَأَنَّ ٱلسَّاعَةَ ءاتِيَةٌ } الخ ليس معطوفاً على المجرور بالباء ولا داخلاً في حيز السببية بل هو خبر والمبتدأ محذوف لفهم المعنى والتقدير والأمر أن الساعة آتية الخ، وعليه اقتصر أبو حيان وفيه قطع للكلام عن الانتظام، وقيل: (ذلك) إشارة إلى ماذكر إلا أن الباء صلة لكون خاص وليست سببية أي مشعر بأن الله هو الحق الخ، وفيه أنه لا قرينة على هذا الكون الخاص / وقيل: المعنى ذلك ليعلموا أن الله هو الحق الخ، وفيه تلويح ما إلى معنى الحديث القدسي المشهور على الألسنة وفي «كتب الصوفية» وإن لم يثبت عند المحدثين وهو «كنت كنزاً مخفياً فأحببت أن أعرف فخلقت الخلق لأعرف» وهو كما ترى، وقيل: الإشارة إلى البعث المستدل عليه بما سبق واستظهره بعضهم، ولا يخفى عليك ما يحتاج إليه من التكلف، ونقل في «البحر» أن (ذلك) منصوب بفعل مضمر أي فعلنا ذلك بأن الخ. وأبو علي اقتصر على القول بأنه مرفوع على الابتداء والجار والمجرور خبره؛ وقال: لا يجوز غير ذلك وكأنه عنى بالغير ما ذكر، وما نقله العكبري من أنه خبر لمبتدأ محذوف أي الأمر ذلك والحق الجواز إلا أنه خلاف الظاهر جداً.

ثم إن المراد من الساعة قيل يوم القيامة المشتمل على النشر والحشر وغيرهما، وقال سعدي جلبـي: المراد بها هنا فناء العالم بالكلية لئلا تتكرر مع البعث، وقول الطيبـي: إن سبيل قوله تعالى: { وأَنَّ ٱلسَّاعَةَ ءاتِيَةٌ } من قوله سبحانه: { أَنَّ ٱللَّهَ يَبْعَثُ مَن فِى ٱلْقُبُورِ } سبيل قوله جل وعلا { { وأَنَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَىْء قَدِيرٌ } [الحج: 6] من قوله عز وجل: { { وَأَنَّهُ يُحْيِىَ ٱلْمَوْتَىٰ } [الحج: 6] لكن قدم وأخر لرعاية الفواصل ظاهر في الأول.

هذا وفي «الإتقان» للجلال السيوطي أن الإسلاميين من أهل المنطق ذكروا أن في أول سورة الحج إلى قوله تعالى: { وَأَنَّ ٱللَّهَ يَبْعَثُ مَن فِى ٱلْقُبُورِ } خمس نتائج تستنتج من عشر مقدمات ثم بين ذلك بما يقضي منه العجب ويدل على قصور باعه في ذلك العلم، وقد يقال في بيان ذلك: إن النتائج الخمس هي الجمل المتعاطفة الداخلة في حيز الباء، واستنتاج الأولى بأنه لو لم يكن الله سبحانه هو الحق أي الواجب الوجود لذاته لما شوهد بعض الممكنات من الإنسان والنبات وغيرها والتالي باطل ضرورة فالله تعالى هو الحق، ودليل الملازمة برهان التمانع، واستنتاج الثانية بأنه لو لم يكن سبحانه قادراً على إحياء الموتى لما طور الإنسان في أطوار مختلفة حتى جعله حياً وأنزل من السماء ماء فأحيا به الأرض بعد موتها والتالي باطل ضرورة أن الخصم لا ينكر أنه تعالى أحيا الإنسان وأحيا الأرض فالله تعالى قادر على إحياء الموتى ووجه الملازمة ظاهر.

واستنتاج الثالثة بأنه إذا كان الله تعالى قادراً على إحياء الموتى فهو سبحانه على كل شيء قدير لكنه تعالى قادر على إحياء الموتى فهو على كل شيء قدير، ووجه الملازمة أن المراد من الشيء الممكن وإحياء الموتى ممكن والقدرة على بعض الممكنات دون بعض تنافي وجوب وجوده تعالى الذاتي؛ وأيضاً إحياء الموتى أصعب الأمور عند الخصم المجادل حتى زعم أنه من الممتنعات فإذا ثبت أنه سبحانه قادر عليه بما سبق ثبت أنه تعالى قادر على سائر الممكنات بالطريق الأولى. واستنتاج الرابعة بأن الساعة أمر ممكن وعد الصادق بإتيانه وكل أمر ممكن وعد الصادق بإتيانه فهو آت فالساعة آتية أما أن الساعة أمر ممكن فلأنه لا يلزم من فرض وقوعها محال وأما أنها وعد الصادق بإتيانها فللآيات القرآنية المتحدى بها وأما أن كل أمر ممكن وعد الصادق بإتيانه فهو آت فلاستحالة الكذب.

واستنتاج الخامسة بنحو ذلك ولا يتعين استنتاج كل بما ذكر بل يمكن بغير ذلك واختياره لتسارعه إلى الذهن، وربما يقتصر على ثلاث من هذه الخمس بناء على ما علمت بين قوله تعالى: { { وَأَنَّهُ يُحْيِىَ ٱلْمَوْتَىٰ } [الحج: 6] وقوله تعالى: { { وَأَنَّهُ عَلَىٰ كُلّ شَىْء قَدِيرٌ } [الحج:6] وكذا بين قوله سبحانه: { وَأَنَّ ٱلسَّاعَةَ ءاتِيَةٌ } وقوله سبحانه: { وَأَنَّ ٱللَّهَ يَبْعَثُ مَن فِى ٱلْقُبُورِ } ويعد من الخمس قوله تعالى: { { إِنَّ زَلْزَلَةَ ٱلسَّاعَةِ شَىْء عَظِيمٌ } [الحج: 1] واستنتاجها بأن يقال: زلزلة الساعة تذهل كل مرضعة عما أرضعت وكل ما هذا شأنه فهو شيء عظيم فزلزلة الساعة شيء عظيم، والتقوى واجبة عليكم المدلول عليه بقوله تعالى: { { ٱتَّقُواْ رَبَّكُمُ } [الحج: 1] واستنتاجه بأن يقال: التقوى يندفع بها ضرر الساعة وكل ما يندفع به الضرر عليكم فالتقوى واجبة عليكم، ولا يخفى أن ما ذكر / أولاً أولى إلا أنه لو كان مرادهم لكان الظاهر أن يقولوا: إن في قوله تعالى: { { ذٰلِكَ بِأَنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلْحَقُّ } [الحج: 6] إلى قوله سبحانه: { وَأَنَّ ٱللَّهَ يَبْعَثُ مَن فِى ٱلْقُبُورِ } [الحج: 7] خمس نتائج دون أن يقولوا: إن في أول سورة الحج إلى آخره ويناسب هذا القول ما ذكر ثانياً إلا أنه يرد عليه أن المتبادر من كلامهم كون كل من النتائج مذكوراً صريحاً، ولا شك أن التقوى واجبة عليكم ليس مذكوراً كذلك وإنما المذكور ما يدل عليه في الجملة وهو أيضاً ليس بقضية كما لا يخفى، وقد تكلف بعض الناس لبيان ذلك غير ما ذكرنا رأينا ترك ذكره أولى فتأمل.