خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَٱسْتَمِعُواْ لَهُ إِنَّ ٱلَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ لَن يَخْلُقُواْ ذُبَاباً وَلَوِ ٱجْتَمَعُواْ لَهُ وَإِن يَسْلُبْهُمُ ٱلذُّبَابُ شَيْئاً لاَّ يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ ٱلطَّالِبُ وَٱلْمَطْلُوبُ
٧٣
-الحج

روح المعاني

{ يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ } أي بين لكم حال مستغربة أو قصة بديعة رائقة، حقيقة بأن تسمى مثلاً وتسير في الأمصار والأعصار، وعبر عن بيان ذلك بلفظ الماضي لتحقق الوقوع، ومعنى المثل في الأصل المثل ثم خص بما شبه بمورده من الكلام فصار حقيقة ثم استعير لما ذكر، وقيل المثل على حقيقته و { ضُرِبَ } بمعنى جعل أي جعل لله سبحانه شبه في استحقاق العبادة وحكي ذلك عن الأخفش، والكلام متصل بقوله تعالى: { { وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ مَا لَمْ يُنَزّلْ بِهِ سُلْطَـٰناً } [الحج: 71] { فَٱسْتَمِعُواْ لَهُ } أي للمثل نفسه استماع تدبر وتفكر أو لأجله ما أقول فقوله تعالى: { إِنَّ ٱلَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ } إلى آخره بيان للمثل وتفسير له على الأول وتعليل لبطلان جعلهم معبوداتهم الباطلة مثلاً لله تعالى شأنه في استحقاق العبادة على الثاني، ومنهم من جعله على ما ذكرنا وعلى ما حكي عن الأخفش تفسيراً أما على الأول فللمثل نفسه بمعناه المجازي وأما على الثاني فلحال المثل بمعناه الحقيقي، فإن المعنى جعل الكفار لله مثلاً فاستمعوا لحاله وما يقال فيه، والحق الذي لا ينكره إلا مكابر أن تفسير الآية بما حكي فيه عدول عن المتبادر. والظاهر أن الخطاب في { أَيُّهَا ٱلنَّاسُ } لجميع المكلفين لكن الخطاب في { تَدْعُونَ } للكفار. واستظهر بعضهم كون الخطاب في الموضعين للكفار والدليل على خصوص الأول الثاني، وقيل هو في الأول للمؤمنين ناداهم سبحانه ليبين لهم خطأ الكافرين، وقيل هو في الموضعين عام وأنه في الثاني كما في قولك: أنتم يا بني تميم / قتلتم فلاناً وفيه بحث. وقرأ الحسن ويعقوب وهٰرون والخفاف ومحبوب عن أبـي عمرو { يَدَّعُونَ } بالياء التحتية مبنياً للفاعل كما في قراءة الجمهور. وقرأ اليماني وموسى الأسواري { يَدَّعُونَ } بالياء من تحت أيضاً مبنياً للمفعول، والراجع للموصول على القراءتين السابقتين محذوف.

{ لَن يَخْلُقُواْ ذُبَاباً } أي لا يقدرون على خلقه مع صغره وحقارته، ويدل على أن المراد نفي القدرة السباق مع قوله تعالى: { وَلَوِ ٱجْتَمَعُواْ لَهُ } أي لخلقه فإن العرف قاض بأنه لا يقال: لن يحمل الزيدون كذا ولو اجتمعوا لحمله إلا إذا أريد نفي القدرة على الحمل، وقيل جاء ذلك من النفي بلن فإنها مفيدة لنفي مؤكد فتدل على منافاة بين المنفي وهو الخلق والمنفي عنه وهو المعبودات الباطلة فتفيد عدم قدرتها عليه، والظاهر أن هذا لا يستغني عن معونة المقام أيضاً، وأنت تعلم أن في إفادة (لن) النفي المؤكد خلافاً؛ فذهب الزمخشري إلى إفادتها ذلك وأن تأكيد النفي هنا للدلالة على أن خلق الذباب منهم مستحيل وقال في «أنموذجه» بإفادتها التأبيد. وذهب الجمهور وقال أبو حيان: هو الصحيح إلى عدم إفادتها ذلك وهي عندهم أخت لا لنفي المستقبل عند الإطلاق بدون دلالة على تأكيد أو تأبيد وأنه إذا فهم فهو من خارج وبواسطة القرائن وقد يفهم كذلك مع كون النفي بلا فلو قيل هنا لا يخلقون ذباباً ولو اجتمعوا له لفهم ذلك، ويقولون في كل ما يستدل به الزمخشري لمدعاه: إن الإفادة فيه من خارج ولا يسلمون أنها منها ولن يستطيع إثباته أبداً. والانتصار له بأن سيفعل في قوة مطلقة عامة ولن يفعل نقيضه فيكون في قوة الدائمة المطلقة ولا يتأتى ذلك إلا بإفادة لن التأبيد ليس بشيء أصلاً كما لا يخفى، وكأن الذي أوقع الزمخشري في الغفلة فقال ما قال اعتماداً على ما لا ينتهض دليلاً شدة التعصب لمذهبه الباطل واعتقاده العاطل نسأل الله تعالى أن يحفظنا من الخذلان.

والذباب اسم جنس ويجمع على أذبة وذبان بكسر الذال فيهما وحكى في «البحر» ضمها في ذبان أيضاً، وهو مأخوذ من الذب أي الطرد والدفع أو من الذب بمعنى الاختلاف أي الذهاب والعود وهو أنسب بحال الذباب لما فيه من الاختلاف حتى قيل: إنه منحوت من ذب آب أي طرد فرجع، وجواب { لَوْ } محذوف لدلالة ما قبله عليه، والجملة معطوفة على شرطية أخرى محذوفة ثقة بدلالة هذه عليها أي لو لم يجتمعوا له ويتعاونوا عليه لن يخلقوه ولو اجتمعوا له وتعاونوا عليه لن يخلقوا وهما في موضع الحال كأنه قيل: لن يخلقوا ذباباً على كل حال. وقال بعضهم: الواو للحال { وَلَّوْاْ ٱجْتَمَعُواْ لَهُ } بجوابه حال، وقال آخرون: إن { لَوْ } هنا لا تحتاج إلى جواب لأنها انسلخت عن معنى الشرطية وتمحضت للدلالة على الفرض والتقدير، والمعنى لن يخلقوا ذباباً مفروضاً اجتماعهم.

{ وَإِن يَسْلُبْهُمُ ٱلذُّبَابُ شَيْئاً } بيان لعجزهم عن أمر آخر دون الخلق أي وإن يأخذ الذباب منها شيئا { لاَّ يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ } أي لا يقدروا على استنقاذه منه مع غاية ضعفه. والظاهر أن استنقذ بمعنى نقذ، وفي الآية من تجهيلهم في إشراكهم بالله تعالى القادر على جميع الممكنات المتفرد بإيجاد كافة الموجودات عجزة لا تقدر على خلق أقل الأحياء وأذلها ولو اجتمعوا له ولا على استنقاذ / ما يختطفه منهم ما لا يخفى. والآية وإن كانت نازلة في الأصنام فقد كانوا كما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما يطلونها بالزعفران ورؤسها بالعسل ويغلقون عليها فيدخل الذباب من الكوى فيأكله، وقيل: كانوا يضمخونها بأنواع الطيب فكان الذباب يذهب بذلك إلا أن الحكم عام لسائر المعبودات الباطلة.

{ ضَعُفَ ٱلطَّالِبُ وَٱلْمَطْلُوبُ } تذييل لما قبل اختبار أو تعجب والطالب عابد غير الله تعالى والمطلوب الآلهة كما روي عن السدي والضحاك، وكون عابد ذلك طالباً لدعائه إياه واعتقاده نفعه، وضعفه لطلبه النفع من غير جهته، وكون الآخر مطلوباً ظاهراً كضعفه، وقيل الطالب الذباب يطلب ما يسلبه عن الآلهة والمطلوب الآلهة على معنى المطلوب منه ما يسلب. وروى ابن مردويه وابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، واختاره الزمخشري أن الطالب الأصنام والمطلوب الذباب، وفي هذا التذييل حينئذ إيهام التسوية وتحقيق أن الطالب أضعف لأنه قدم عليه أن هذا الخلق الأقل هو السالب وذلك طالب خاب عن طلبته ولما جعل السلب المسلوب لهم وأجراهم مجرى العقلاء أثبت لهم طلباً ولما بين أنهم أضعف من أذل الحيوانات نبه به على مكان التهكم بذلك. ومن الناس من اختار الأول لأنه أنسب بالسياق إذ هو لتجهيلهم وتحقير ءالهتهم فناسب إرادتهم وآلهتهم من هذا التذييل.