خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَلْيَسْتَعْفِفِ ٱلَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ نِكَاحاً حَتَّىٰ يُغْنِيَهُمُ ٱللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَٱلَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً وَآتُوهُمْ مِّن مَّالِ ٱللَّهِ ٱلَّذِيۤ آتَاكُمْ وَلاَ تُكْرِهُواْ فَتَيَاتِكُمْ عَلَى ٱلْبِغَآءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً لِّتَبْتَغُواْ عَرَضَ ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا وَمَن يُكْرِههُنَّ فَإِنَّ ٱللَّهَ مِن بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَّحِيمٌ
٣٣
-النور

روح المعاني

{ وَلْيَسْتَعْفِفِ } إرشاد للتائقين العاجزين عن مبادي النكاح وأسبابه إلى ما هو أولى لهم وأحرى بهم، أي وليجتهد في العفة وصون النفس { ٱلَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ نِكَاحاً } أي أسباب نكاح أو لا يتمكنون مما ينكح به من المال على أن فعالاً اسم آلة كركاب لما يركب به { حَتَّىٰ يُغْنِيَهُمُ ٱللَّهُ مِن فَضْلِهِ } عدة كريمة بالتفضل عليهم بالغنى ولطف بهم في استعفافهم وربط على قلوبهم وإيذان بأن فضله تعالى أولى بالأعفاء وأدنى من الصلحاء. واستدل بالآية بعض الشافعية على ندب ترك النكاح لمن لا يملك أهبته مع التوقان، وكثير من الناس ذهب إلى استحبابه له لآية { { إِن يَكُونُواْ فُقَرَاء يُغْنِهِمُ ٱللَّهُ مِن فَضْلِهِ } [النور: 32] وحملوا الأمر بالاستعفاف في هذه الآية على من لم يجد زوجة بجعل فعال صفة بمعنى مفعول ككتاب بمعنى مكتوب، ولا يخفى أن الغاية المذكورة تبعده، ولا يلزم من الفقر وجدان الأهبة المفسرة عندهم بالمهر وكسوة فصل التمكين ونفقة يومه، والمذكور في معتبرات «كتبنا» أن النكاح يكون واجباً عند التوقان أي شدة الاشتياق بحيث يخاف الوقوع في الزنا لو لم يتزوج وكذا فيما يظهر لو كان لا يمكنه منع نفسه عن النظر المحرم أو عن الاستمناء بالكف ويكون فرضاً بأن كان لا يمكنه الاحتراز عن الزنا إلا به بأن لم يقدر على التسري أو الصوم الكاسر للشهوة كما يدل عليه حديث "ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء" فلو قدر على شيء من ذلك لم يبق النكاح فرضاً أو واجباً عيناً بل هو أو غيره مما يمنعه من الوقوع في المحرم، وكلا القسمين مشروط بملك المهر والنفقة، وزاد في «البحر» شرطاً آخر فيهما وهو عدم خوف الجور ثم قال: فإن تعارض خوف الوقوع في الزنا لو لم يتزوج وخوف الجور لو تزوج قدم الثاني ويكره التزوج حينئذ كما أفاده الكمال في «الفتح» ولعله لأن الجور معصية متعلقة بالعباد دون المنع من الزنا وحق العبد مقدم عند التعارض لاحتياجه وغنى المولى عز وجل انتهى.

ومقتضاه الكراهة أيضاً عند عدم ملك المهر والنفقة لأنهما حق عبد أيضاً وإن خاف الزنا لكن ذكروا أنه يندب استدانة المهر ومقتضاه أنه يجب إذا خاف الزنا وإن لم يملك المهر إذا قدر على استدانته، وهذا مناف للاشتراط السابق إلا أن يقال: / الشرط ملك النفقة والمهر ولو بالاستدانة أو يقال: هذا في العاجز عن الكسب ومن ليس له جهة وفاء. وذكر بعض الأجلة أنه ينبغي حمل ما ذكروا من ندب الاستدانة على ندبها إذا ظن القدرة على الوفاء وحينئذ فإذا كانت مندوبة مع هذا الظن عند أمنه من الوقوع في الزنا ينبغي وجوبها عند تيقن الزنا بل ينبغي وجوبها حينئذ وإن لم يغلب على ظنه قدرة الوفاء وهو معذور فيما أرى عند الله عز وجل إذا فعل ومات ولم يترك وفاء فتأمّل.

ويكون مكروهاً عند خوف الجور كما سمعت، وحراماً عند تيقنه لأن النكاح إنما شرع لمصلحة تحصين النفس وتحصيل الثواب وبالجور يأثم ويرتكب المحرمات فتنعدم المصالح لرجحان هذه المفاسد، ويكون سنة مؤكدة في الأصح حالة القدرة على الوطء والمهر والنفقة مع عدم الخوف من الزنا والجور وترك الفرائض والسنن فلو لم يقدر على واحد من الثلاثة الأول أو خاف واحداً من الثلاثة الأخيرة فلا يكون النكاح سنة في حقه كما أفاده في «البدائع»، ويفهم من «أشباه ابن نجيم» توقف كونه سنة على النية، وذكر في «الفتح» ((أنه إذا لم يقترن بها كان مباحاً لأن المقصود منه حينئذ مجرد قضاء الشهوة ومبنى العبادة على خلافه)) فلا يثاب والنية التي يثاب بها أن ينوي منع نفسه وزوجته عن الحرام، وكذا نية تحصيل ولد تكثر به المسلمون وكذا نية الاتباع وامتثال الأمر وهو عندنا أفضل من الاشتغال بتعلم وتعليم كما في «درر البحار» وأفضل من التخلي للنوافل كما نص عليه غير واحد.

وفي بعض معتبرات «كتب الشافعية» أن النكاح مستحب لمحتاج إليه يجد أهبته من مهر وكسوة فصل التمكين ونفقة يومه ولا يستحب لمن في دار الحرب النكاح مطلقاً خوفاً على ولده التدين بدينهم والاسترقاق ويتعين حمله على من لم يغلب على ظنه الزنا لو لم يتزوج إذ المصلحة المحققة الناجزة مقدمة على المصلحة المستقبلة المتوهمة وإنه إن فقد الأهبة استحب تركه لقوله تعالى: { وَلْيَسْتَعْفِفِ } الآية ويكسر شهوته بالصوم للحديث، وكونه يثير الحرارة والشهوة إنما هو بابتدائه فإن لم تنكسر به تزوج، ولا يكسرها بنحو كافور فيكره بل يحرم على الرجل والمرأة إن أدى إلى اليأس من النسل، وقول جمع: إن الحديث يدل على حل قطع العاجز الباءة بالأدوية مردود على أن الأدوية خطيرة وقد استعمل قوم الكافور فأورثهم عللاً مزمنة ثم أرادوا الاحتيال لعود الباءة بالأدوية الثمينة فلم تنفعهم، فإن لم يحتج للنكاح كره له إن فقد الأهبة وإلا يفقدها مع عدم حاجته له فلا يكره له لقدرته عليه ومقاصده لا تنحصر في الوطء والتخلي للعبادة أفضل منه فإن لم يتعبد فالنكاح أفضل في الأصح كما قال النووي لأن البطالة تفضي إلى الفواحش فإن وجد الأهبة وبه علة كهرم أو مرض دائم أو تعنن كذلك كره له لعدم حاجته مع عدم تحصين المرأة المؤدي غالباً إلى فسادها، وبه يندفع قول «الإحياء» يسن لنحو الممسوح تشبهاً بالصالحين كما يسن إمرار الموسى على رأس الأصلع، وقول الفزاري: أي نهى ورد في نحو المجبوب والحاجة لا تنحصر في الجماع، ولو طرأت هذه الأحوال بعد العقد فهل يلحق بالابتداء أو لا لقوة الدوام تردد فيه الزركشي والثاني هو الوجه كما هو ظاهر انتهى، وفيه ما لم يتعرض له في «كتب أصحابنا» فيما علمت لكن لا تأباه قواعدنا.

ثم إن الظاهر أن الآية خاصة بالرجال فهم المأمورون بالاستعفاف عند العجز عن مبادي النكاح وأسبابه، نعم يمكن القول بعمومها واعتبار الغليب إذا أريد بالنكاح ما ينكح لكن قد علمت ما فيه ولا تتوهمنَّ من هذا أنه لا يندب الاستعفاف للنساء أصلاً لظهور أنه قد يندب في بعض الصور بل من تأمل أدنى تأمل يرى جريان الأحكام في نكاحهن لكن لم أرَ من صرح به من أصحابنا، نعم نقل بعض الشافعية عن «الأم» ندب النكاح للتائقة وألحق بها محتاجة للنفقة وخائفة من اقتحام فجرة. / وفي «التنبيه» من جاز لها النكاح إن احتاجته ندب لها ونقله الأذرعي عن أصحاب الشافعي ثم بحث وجوبه عليها إذا لم تندفع عنها الفجرة إلا به ولا دخل للصوم فيها وبما ذكر علم ضعف قول الزنجاني: يسن لها مطلقاً إذ لا شيء عليها مع ما فيه من القيام بأمرها وسترها، وقول غيره: لا يسن لها مطلقاً لأن عليها حقوقاً للزوج خطيرة لا يتيسر لها القيام بها بل لو علمت من نفسها عدم القيام بها ولم تحتج له حرم عليها اهـ، ولا يخفى أن ما ذكره بعد بل متجه واستدل بعضهم بالآية على بطلان نكاح المتعة لأنه لو صح لم يتعين الاستعفاف على فاقد المهر، وظاهر الآية تعينه ولا يلزم من ذلك تحريم ملك اليمين لأن من لا يقدر على النكاح لعدم المهر لا يقدر على شراء الجارية غالباً ذكره إلكيا وهو كما ترى. { وَٱلَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَـٰبَ } بعدما أمر سبحانه بإنكاح صالحي المماليك الأحقاء بالإنكاح أمر جل وعلا بكتابة من يستحقها منهم ليصير حراً فيتصرف في نفسه، وأخرج ابن السكن في معرفة الصحابة عن عبد الله بن صبيح قال: كنت مملوكاً كالحويطب بن عبد العزى فسألته الكتابة فأبى فنزلت { وَٱلَّذِينَ يَبْتَغُونَ } الخ ويلوح من هذا أن عبد الله المذكور أول من كوتب، وربما يتخيل منه أن الكتابة كانت معلومة من قبل لكن نقل الخفاجي عن الدميري أنه قال: الكتابة لفظة إسلامية وأول من كاتبه المسلمون عبد لعمر رضي الله تعالى عنه يسمى أبا أمية. وصرح ابن حجر أيضاً بأنها لفظة إسلامية لا تعرفها الجاهلية، والله تعالى أعلم. والكتاب مصدر كاتب كالمكاتبة ونظيره العتاب والمعاتبة أي والذين يطلبون منكم المكاتبة.

{ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَـٰنُكُمْ } ذكوراً كانوا أو إناثاً، وهو عندنا شرعاً إعتاق المملوك يداً حالاً ورقبة مآلاً وركنه الإيجاب بلفظ الكتابة أو ما يؤدي معناه والقبول نحو أن يقول المولى؛ كاتبتك على كذا درهماً تؤديه إلي وتعتق ويقول المملوك: قبلته وبذلك يخرج من يد المولى دون ملكه فإذا أدى كل البدل عتق وخرج من ملكه، ومعناه كتب الحروف أي جمعها وإطلاقه على ما ذكر لأن فيه ضم حرية اليد إلى حرية الرقبة أو لأن البدل يكون في الأغلب منجماً بنجوم يضم بعضها إلى بعض أو لأنه يكتب المملوك على نفسه لمولاه ثمنه ويكتب المولى له عليه العتق وهذا أوفق بصيغة المفاعلة أعني المكاتبة.

وفي «إرشاد العقل السليم» قالوا: معناه كتبت لك على نفسي أن تعتق مني إذا وفيت بالمال وكتبت لي على نفسك أن تفي بذلك أو كتبت عليك الوفاء بالمال وكتبت عليَّ العتق عنده، ثم قال: والتحقيق أن المكاتبة اسم للعقد الحاصل من مجموع كلامي المالك والمملوك كسائر العقود الشرعية المنعقدة بالإيجاب والقبول. ولا ريب في أن ذلك لا يصدر حقيقة إلا من المتعاقدين وليس وظيفة كل منهما في الحقيقة إلا الإتيان بأحد شطريه معرباً عما يتم من قبله ويصدر عنه من الفعل الخاص به من غير تعرض لما يتم من قبل صاحبه ويصدر عنه من فعله الخاص به إلا أن كلاً من ذينك الفعلين لما كان بحيث لا يمكن تحققه في نفسه إلا منوطاً بتحقق الآخر ضرورة أن التزام العتق بمقابلة البدل من جهة المولى لا يتصور تحققه وتحصله إلا بالتزام البدل من طرف العبد كما أن عقد البيع الذي هو تمليك المبيع بالثمن من جهة البائع لا يمكن تحققه إلا بتملكه به من جانب المشتري لم يكن بد من تضمين أحدهما الآخر وقت الإنشاء فكما أن قول البائع بعت إنشاء لعقد البيع على معنى أنه إيقاع لما يتم من قبله أصالة ولما يتم من قبل المشتري ضمناً إيقاعاً متوقفاً على رأيه توقفاً شبيهاً بتوقف عقد الفضولي كذلك قول المولى كاتبتك على كذا إنشاء لعقد الكتابة أي إيقاع لما يتم من قبله من التزام العتق / بمقابلة البدل أصالة ولما يتم من قبل العبد من التزام البدل ضمناً إيقاعاً متوقفاً على قبوله فإذا قبل تم العقد اهـ.

وبه ينحل إشكال صعب وارد على إسناد أفعال العقود وهو أنه إذا كان ركن كل منها الإيجاب والقبول يلزم أن لا يصح نحو بعت كذا بكذا مثلاً لأن المتكلم به لم يوقع إلا ما يتم من قبله وليس ذلك بيعاً شرعياً إذ لا بد في البيع الشرعي من فعل آخر أعني قبول المشتري وهو مما لم يوقعه المتكلم المذكور. والحاصل أن إسناد باع إلى ضمير المتكلم يقتضي أنه أوقع البيع مع أنه لم يوقع إلا أحد ركنيه فكيف يصح الإسناد؟، ووجه انحلال هذا بما ذكر ظاهر إلا أنه أورد عليه أن فيه دعوى يكذبها وجدان كل عاقد عاقل ألا ترى أنك إذا قلت بعت مثلاً لا يخطر ببالك إيقاع ضمني منك لشراء غيرك إيقاعاً متوقفاً على رأيه أصلاً بل قصارى ما يخطر بالبال إيقاعه الشراء دون إيقاعك لشرائه على نحو فعل الفضولي ومن ادعى ذلك فقد كابر وجدانه.

وأجيب بأن الأمور الضمنية قد تعتبر شرعاً وإن لم تقصد كما يرشد إلى ذلك أنهم اعتبروا في قول القائل لآخر: اعتق عبدك عني بكذا فأعتقه البيع الضمني بركنيه وإن لم يكن القائل خاطراً بباله ذلك وقاصداً له. وبحث فيه بأنهم إنما اعتبروا أولاً العتق الذي هو مدلول اللفظ والمقصود منه ترجيحاً لجانب الحرية ثم لما رأوا أن ذلك موقوف على الملك الموقوف على البيع حسب العادة الغالبة اعتبروا البيع ليتم لهم الاعتبار الأول ولم يعتبروه مدلولاً للفظ العتق أصلاً ليشترط القصد وإن أوهمه تسميتهم إياه بيعاً ضمنياً بخلاف ما نحن فيه على ما سمعت فإن إيقاع القبول قد توقف عليه ماهية البيع الشرعي واعتبر مدلولاً ضمنياً له بحيث صار عندهم كما يقتضيه ظاهر كلام «الإرشاد» نحو بعت بمعنى أوقعت إيجاباً مني أصالة وقبولاً منك نيابة وظاهر في مثل ذلك تحقق القصد وحيث نفى بالوجدان قصد إيقاع القبول نيابة علم أنه ليس مدلولاً ضمنياً.

ومن الناس من تفصى عن الإشكال بالتزام أن البيع هو الإيجاب والقبول شرط صحته فقول القائل بعت إنشاء لبيع يحتمل الصحة وعدمها ومتى قال الآخر اشتريت تعينت الصحة وأن قولهم ركن البيع الإيجاب والقبول من المسامحات الشائعة أو بالتزام أن للبيع ونحوه إطلاقين، أحدهما: العقد الحاصل من مجموع الإيجاب والقبول كما في نحو قولك: وقع البيع بين زيد وعمرو وثانيهما: الإيجاب فقط كما في نحو قولك بعته كذا فلم يشتر والبيع الدال عليه بعت الإنشائي من هذا القبيل فلا إشكال في إسناده إلى المتكلم فتأمل وتدبر.

وفي هذا المقام أبحاث تركناها خوفاً من مزيد البعد عما نحن بصدده والله تعالى الموفق.

و { ٱلَّذِينَ } يحتمل أن يكون في محل رفع على الابتداء والخبر قوله تعالى: { فَكَـٰتِبُوهُمْ } وهو بتقدير القول بناءاً على المشهور من أن الجملة الإنشائية لا تقع خبراً عن المبتدأ إلا كذلك، وقال بعض المحققين: لا حاجة في مثل هذا إلى التأويل لأنه في معنى الشرط والجزاء ولذا جىء في الخبر بالفاء. ويحتمل أن يكون في محل نصب على أنه مفعول لمحذوف يفسره المذكور والفاء فيه لتضمن الشرط أيضاً؛ وفي «البحر» يجوز أن تقول: زيداً فاضرب وزيداً اضرب فإذا دخلت الفاء كان التقدير تنبه فاضرب فالفاء في جواب أمر محذوف اهـ. وأنت تعلم أنه لا يحتاج إلى هذا في الآية، وذكر بعض الأفاضل أن الفاء فيها على الاحتمال الثاني لأن حق المفسر أن يعقب المفسر، والمراد كتابة بعد كتابة فإن في الموالي كثرة / وكذا في المكاتبين فليس الأمر به للمولى بالنسبة إلى مكاتب واحد اهـ. وهو يشبه الرطانة بالأعجمية.

والأمر للندب على الصحيح، وقيل هو للوجوب وهو مذهب عطاء وعمرو بن دينار والضحاك وابن سيرين وداود، وما أخرجه عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير عن أنس بن مالك قال: سألني سيرين المكاتبة فأبيت عليه فأتى عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه فأقبل علي بالدرة وتلا قوله تعالى: { فَكَـٰتِبُوهُمْ } الخ وفي رواية كاتبه أو لأضربنك بالدرة ظاهر في القول بالوجوب، وجمهور الأئمة كمالك والشافعي وغيرهما على أن المكاتبة بعد الطلب وتحقق الشرط الآتي إن شاء الله تعالى مندوبة بيد أن من قال منهم بأن ظاهر الأمر للوجوب كالشافعي لم يقل بظاهره هنا لأنه بعد الحظر وهو بيع ماله بماله للإباحة، وادعى أن ندبها من دليل آخر.

وظاهر الآية جواز الكتابة سواء كان البدل حالاً أو مؤجلاً أو منجماً أو غير منجم لمكان الإطلاق وإلى ذلك ذهب الحنفية. وذهب جمهور الشافعية إلى أنه يشترط أن يكون منجماً بنجمين فأكثر فلا تجوز بدون أجل وتنجيم مطلقاً، وقيل إن ملك السيد بعض العبد وباقيه حر لم يشترط أجل وتنجيم، ورده محققوهم وأجابوا عن دعوى إطلاق الآية بأن الكتابة تشعر بالتنجيم فتغني عن التقييد لأنه يكتب أنه يعتق إذا أدى ما عليه ومثله لا يكون في الحال. واعترضوا أيضاً على القول بصحة الكتابة الحالة بأن الكتابة لو عقدت حالة توجهت المطالبة عليه في الحال وليس له مال يؤديه فيه فيعجز عن الأداء فيرد إلى الرق فلا يحصل مقصود العقد، وهذا كما لو أسلم فيما لا يوجد عند حلول الأجل فإنه لا يجوز. وأنت تعلم ما في دعوى إشعار الكتابة بالتنجيم وأنها تضر الشافعية لأن التنجيم الذي تشعر به الكتابة على زعمهم يتحقق بنجم واحد فيقتضي أن تجوز به كما ذهب إليه أكثر العلماء وهم لا يجوزون ذلك ويشترطون نجمين فأكثر. وما ذكروه في الاعتراض ليس بشيء فإنه لا عجز مع أمر المسلمين بإعانته بالصدقة والهبة والقرض، والقياس على السلم لا يصح لظهور الفارق، ولعل ما ذكر كالبيع لمن لا يملك الثمن ولا شك في صحته كذا قيل وفيه بحث. وقال ابن خويزمنداد: إذا كانت الكتابة على مال معجل كانت عتقاً على مال ولم تكن كتابة، والفرق بين العتق على مال والكتابة مذكور في موضعه.

{ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً } أي أمانة وقدرة على الكسب، وبهما الخير فسره الشافعي وذكر البيضاوي أنه روي هذا التفسير مرفوعاً وجاء نحو ذلك في بعض الروايات عن ابن عباس، وفسرت الأمانة بعدم تضييع المال، قيل ويحتمل أن يكون المراد بها العدالة لكن يشترط على هذا الاستحباب المكاتبة أن لا يكون العبد معروفاً بإنفاق ما بيده بالطاعة لأن مثل هذا لا يرجى له عتق بالكتابة. وأخرج أبو داود في «المراسيل» والبيهقي في «سننه» عن يحيـى بن أبـي كثير قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: { فَكَـٰتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمُتُمْ فِيهِمْ خَيْراً } إن علمتم فيهم حرفة، وظاهره الاكتفاء بالقدرة على الكسب وعدم اشتراط الأمانة، وهو قول نقله ابن حجر عن بعضهم، وتعقبه بأن المكاتب إذا لم يكن أميناً يضيع ما كسبه فلا يحصل المقصود. وأخرج عبد بن حميد عن عَبيدة السلماني وقتادة وإبراهيم وأبـي صالح أنهم فسروا الخير بالأمانة / وظاهر كلامهم الاكتفاء بها وعدم اشتراط القدرة على الكسب، ونقله أيضاً ابن حجر عن بعضهم وتعقبه بأن المكاتب إذا لم يكن قادراً على الكسب كان في مكاتبته ضرر على السيد ولا وثوق بإعانته بنحو الصدقة والزكاة. وأخرج ابن مردويه عن علي كرم الله تعالى وجهه أنه فسر الخير بالمال، وأخرجه جماعة عن ابن عباس وعن ابن جريج، وروي عن مجاهد وعطاء والضحاك، وتعقب بأن ذلك ضعيف لفظاً ومعنى أما لفظاً فلأنه لا يقال فيه مال بل عنده أو له مال، وأما معنى فلأن العبد لا مال له ولأن المتبادر من الخير غيره وإن أطلق الخير على المال في قوله تعالى: { { كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ ٱلْمَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْرًا ٱلْوَصِيَّةُ } [البقرة: 180]. وأجيب بأنه يمكن أن يكون المراد بالخير عند هؤلاء الأجلة القدرة على كسب المال إلا أنهم ذكروا ما هو المقصود الأصلي منه تساهلاً في العبارة ومثله كثير. وقال أبو حيان: الذي يظهر من الاستعمال أنه الدين تقول: فلان فيه خير فلا يتبادر إلى الذهن إلا الصلاح. وتعقب بأنه لا يناسب المقام ويقتضي أن لا يكاتب غير المسلم.

وفسره كثير من أصحابنا بأن لا يضروا المسلمين بعد العتق وقالوا: إن غلب ظن الضرر بهم بعد العتق فالأفضل ترك مكاتبتهم، وظاهر التعليق بالشرط أنه إذا لم يعلموا فيهم خيراً لا يستحب لهم مكاتبتهم أو لا تجب عليهم، وهذا للخلاف في أن الأمر هل هو للندب أو للوجوب فلا تفيد الآية عدم الجواز عند انتفاء الشرط فإن غاية ما يلزم انتفاءه انتفاء المشروط وليس هو فيها إلا الأمر الدال على الوجوب أو الندب، ومن قال: إنه للإباحة التزم أن الشرط هنا لا مفهوم له لجريه على العادة في مكاتبة من علم خيريته كذا قيل. والذي أراه حرمة المكاتبة إذا علم السيد أن المكاتب لو عتق أضر المسلمين. ففي «التحفة» لابن حجر - في باب الكتابة عند قول النووي هي مستحبة إن طلبها رقيق أمين قوي على كسب ولا تكره بحال - ما نصه: ((لكن بحث البلقيني كراهتها لفاسق يضيع كسبه في الفسق ولو استولى عليه السيد لامتنع من ذلك، وقال هو وغيره: بل [قد] ينتهي الحال للتحريم أي وهو قياس حرمة الصدقة والقرض إذا علم أن من أخذهما يصرفهما في محرم، ثم رأيت الأذرعي بحثه فيمن علم [منه] أنه يكتسب بطريق الفسق وهو صريح فيما ذكرته إذ المدار على تمكينه بسببها من المحرم)) اهـ، وما ذكر من المدار موجود فيها قلنا، ثم المراد من العلم الظن القوي وهو مدار أكثر الأحكام الشرعية.

{ وَءاتُوهُمْ مّن مَّالِ ٱللَّهِ ٱلَّذِينَ ءاتَـٰكُمُ } الظاهر أنه أمر للموالي بإيتاء المكاتبين شيئاً من أموالهم إعانة لهم، وفي حكمه حط شيء من مال الكتابة ويكفي في ذلك أقل ما يتمول وأخرج عبد الرزاق وابن المنذر وابن أبـي حاتم والحاكم وصححه والبيهقي وغيرهما من طريق عبد الله بن حبيب عن علي كرم الله تعالى وجهه عن النبـي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "يترك للمكاتب الربع" وجاء هذا أيضاً في بعض الروايات موقوفاً على علي كرم الله تعالى وجهه، وقال ابن حجر الهيتمي: هو الأصح ولعل ذلك اجتهاد منه رضي الله تعالى عنه. وادعاء أن هذا لا يقال من قبل الرأي فهو في حكم المرفوع ممنوع، ولهذا الخبر وقول ابن راهويه: أجمع أهل التأويل على أن الربع هو المراد بالآية قالوا: إن الأفضل إيتاء الربع، واستحسن ابن مسعود والحسن / إيتاء الثلث، وابن عمر رضي الله تعالى عنهما إيتاء السبع، وقتادة إيتاء العشر.

والأمر بالإيتاء عندنا للندب وقال الشافعية: للوجوب إذ لا صارف عنه، وصرحوا بأنه يلزم السيد أو وارثه مقدماً له على مؤن التجهيز. أما الحط عن المكاتب كتابة صحيحة لجزء من المال المكاتب عليه أو دفع جزء من المعقود عليه بعد أخذه أو من جنسه إليه وأن الحط أولى من الدفع لأنه المأثور عن الصحابة ولأن الإعانة فيه محققة والمدفوع قد ينفقه في جهة أخرى، وهو في النجم الأخير أفضل، والأصح أن وقت الوجوب قبل العتق ويتضيق إذا بقي من النجم قدر ما يفي به من مال الكتابة، وشاع أنهم يقولون بوجوب الحط. ويرده قوله صلى الله عليه وسلم: "المكاتب عبد ما بقي عليه درهم" إذ لو وجب الحط لسقط عنه الباقي حتماً، وأيضاً لو وجب الحط لكان وجوبه معلقاً بالعقد فيكون العقد موجباً ومسقطاً معاً، وأيضاً هو عقد معاوضة فلا يجبر على الحطيطة كالبيع، قيل: معنى { آتوهم } أقرضوهم، وقيل: هو أمر لهم بالإنفاق عليهم بعد أن يؤدوا ويعتقوا. وإضافة المال إليه تعالى ووصفه بإيتائه تعالى إياهم للحث على الامتثال بالأمر بتحقيق المأمور به فإن ملاحظة وصول المال إليهم من جهته سبحانه مع كونه عز وجل هو المالك الحقيقي له من أقوى الدواعي إلى صرفه إلى الجهة المأمور بها.

وقيل: هو أمر ندب لعامة المسلمين بإعانة المكاتبين بالتصدق عليهم. وأخرج ابن أبـي حاتم عن زيد بن أسلم أنه أمر للولاة أن يعطوهم من الزكاة وهذا نحو ما ذكر في «الكشاف» من أنه أمر للمسلمين على وجه الوجوب بإعانة المكاتبين وإعطائهم سهمهم الذي جعل الله تعالى لهم في بيت المال كقوله سبحانه: { { وَفِي ٱلرّقَابِ } [التوبة:60] عند أبـي حنيفة وأصحابه، ويحل للمولى إذا كان غنياً أن يأخذ ما تصدق به على المكاتب لتبدل الملك كما فيما إذا اشترى الصدقة من فقير أو وهبها الفقير له فإن المكاتب يتملكه صدقة والمولى عوضاً عن العتق، وكذا الحكم لو عجز بعد أداء البعض عن الباقي فأعيد إلى الرق أو أعتق من غير جهة الكتابة، والعلة تبدل الملك أيضاً عند محمد وفيه خفاء لأن ما أخذ لم يقع عوضاً عن العتق، أما فيما إذا أعيد إلى الرق فظاهر، وأما فيما إذا أعتق من غير جهة الكتابة فلأن العتق لم يكن مشروطاً بأداء ذلك فتدبر. وعلل أبو يوسف المسألة بأنه لا خبث في نفس الصدقة وإنما الخبث في فعل الآخذ لكونه إذلالاً بالآخذ ولا يجوز ذلك له من غير حاجة والأخذ لم يوجد من السيد. وأورد عليه أنه ينافي جعلها أوساخ الناس في الحديث. ونقل عن الشافعي أنه إذا أعيد المكاتب إلى الرق أو أعتق من غير جهة الكتابة يلزم السيد رد ما أخذه إلا أن يتلف قبله لأن ما دفع للمكاتب لم يقع موقعه ولم يترتب عليه الغرض المطلوب. قال الطيبـي: وبهذا يظهر أن قياس ذلك على الصدقة التي اشتريت من الفقير غير صحيح، والمدار عندي اختلاف جهتي الملك فمتى تحقق لم تبق شبهة في الحل، وقد صح أن بريرة مولاة عائشة رضي الله تعالى عنها جاءت بعد العتق بلحم بقر فقالت عائشة للنبـي صلى الله عليه وسلم: هذا ما تصدق به على بريرة فقال عليه الصلاة والسلام: "هو لها صدقة ولنا هدية" فأشار عليه الصلاة والسلام إلى حله لآل البيت الذين لا تحل لهم الصدقة باختلاف جهتي الملك فتأمل، وللمكاتبة أحكام كثيرة تطلب من «كتب الفقه».

{ وَلاَ تُكْرِهُواْ فَتَيَـٰتِكُمْ عَلَى ٱلْبِغَاء } أخرج مسلم وأبو داود عن جابر رضي الله تعالى عنه أن جارية لعبد الله بن أبـي بن سلول يقال لها مسيكة وأخرى يقال لها أميمة كان يكرههما على الزنا فشكتا ذلك إلى / رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت. وأخرج ابن أبـي حاتم عن السدي قال: كان لعبد الله بن أبـي جارية تدعى معاذة فكان إذا نزل ضيف أرسلها له ليواقعها إرادة الثواب منه والكرامة له فأقبلت الجارية إلى أبـي بكر رضي الله تعالى عنه فشكت ذلك إليه فذكره أبو بكر للنبـي صلى الله عليه وسلم فأمره بقبضها فصاح عبد الله بن أبـي من يعذرنا من محمد صلى الله عليه وسلم يغلبنا على مماليكنا؟ فنزلت، وقيل: كانت لهذا اللعين ست جوار معاذة ومسيكة وأميمة وعمرة وأروى وقتيلة يكرههن على البغاء وضرب عليهن ضرائب فشكت ثنتان منهن إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت. وقيل: نزلت في رجلين كانا يكرهان أمتين لهما على الزنا أحدهما ابن أبـي، وأخرج ابن مردويه عن علي كرم الله تعالى وجهه أنهم كانوا في الجاهلية يكرهون إماءهم على الزنا يأخذون أجورهن فنهوا عن ذلك في الإسلام. ونزلت الآية، وروي نحوه عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وعلى جميع الروايات لا اختصاص للخطاب بمن نزلت فيه الآية بل هي عامة في سائر المكلفين.

والفتيات جمع فتاة وكل من الفتى والفتاة كناية مشهورة عن العبد والأمة مطلقاً وقد أمر الشارع صلى الله عليه وسلم بالتعبير بهما مضافين إلى ياء المتكلم دون العبد والأمة مضافين إليه فقال عليه الصلاة والسلام: "لا يقولن أحدكم عبدي وأمتي ولكن فتاي وفتاتي" وكأنه صلى الله عليه وسلم كره العبودية لغيره عز وجل ولا حجر عليه سبحانه في إضافة الأخيرين إلى غيره تعالى شأنه، وللعبارة المذكورة في هذا المقام باعتبار مفهومها الأصلي حسن موقع ومزيد مناسبة لقوله سبحانه: { عَلَى ٱلْبِغَاء } وهو زنا النساء كما في «البحر» من حيث صدوره عن شوابهن لأنهن اللاتي يتوقع منهن ذلك غالباً دون من عداهن من العجائز والصغائر.

وقوله عز وجل: { إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً } ليس لتخصيص النهي بصورة إرادتهن التعفف عن الزنا وإخراج ما عداها عن حكمه كما إذا كان الإكراه بسبب كراهتهن الزنا لخصوص الزاني أو لخصوص الزمان أو لخصوص المكان أو لغير ذلك من الأمور المصححة للإكراه في الجملة بل هو للمحافظة على عادة من نزلت فيهم الآية حيث كانوا يكرهونهن على البغاء وهن يردن التعفف عنه مع وفور شهوتهن الآمرة بالفجور وقصورهن في معرفة الأمور الداعية إلى المحاسن الزاجرة عن تعاطي القبائح، وفيه من الزيادة لتقبيح حالهم وتشنيعهم على ما كانوا يفعلونه من القبائح ما لا يخفى فإن من له أدنى مروءة لا يكاد يرضى بفجور من يحويه حرمه من إمائه فضلاً عن أمرهن به أو إكراههن عليه لا سيما عند إرادة التعفف وتوفر الرغبة فيها كما يشعر به التعبير بأردن بلفظ الماضي. وإيثار كلمة { إِنْ } على إذا لأن إرادة التحصن من الإماء كالشاذ النادر أو للإيذان بوجوب الانتهاء عن الإكراه عند كون إرادة التحصن في حيز التردد والشك فكيف إذا كانت محققة الوقوع كما هو الواقع.

ويعلم من توجيه هذا الشرط مع ما أشرنا إليه من بيان حسن موقع الفتيات هنا باعتبار مفهومها الأصلي أنه لا مفهوم لها ولو فرضت صفة لأن شرط اعتبار المفهوم عند القائلين به أن لا يكون المذكور خرج مخرج الغالب، وقد تمسك جمع بالآية لإبطال القول بالمفهوم فقالوا: إنه لو اعتبر يلزم جواز الإكراه عند عدم إرادة التحصن والإكراه على الزنا غير جائز بحال من الأحوال إجماعاً ومما ذكرنا يعلم الجواب عنه. وفي «شرح المختصر الحاجبـي» للعلامة العضد الجواب عن ذلك، أولاً: أنه مما خرج مخرج الأغلب إذ الغالب / أن الإكراه عند إرادة التحصن ولا مفهوم في مثله، وثانياً: أن المفهوم اقتضى ذلك وقد انتفى لمعارض أقوى منه وهو الإجماع، وقد يجاب عنه بأنه يدل على عدم الحرمة عند عدم الإرادة وأنه ثابت إذ لا يمكن الإكراه حينئذٍ لأنهن إذ لم يردن التحصن لم يكرهن البغاء والإكراه إنما هو إلزام فعل مكروه وإذا لم يمكن لم يتعلق به التحريم لأن شرط التكليف الإمكان ولا يلزم من عدم التحريم الإباحة انتهى، ولعل ما ذكرناه أولاً هو الأولى، وجعل غير واحد زيادة التقبيح والتشنيع جواباً مستقلاً بتغيير يسير ولا بأس به.

وزعم بعضهم أن { إِنْ أَرَدْنَ } راجع إلى قوله تعالى: { وَأَنْكِحُواْ ٱلايَـٰمَىٰ مِنْكُمْ } [النور: 32] وهو مما يقضي منه العجب وبالجملة لا حجة في ذلك لمبطلي القول بالمفهوم كذا لا حجة لهم في قوله تعالى: { لّتَبْتَغُواْ عَرَضَ ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا } فإنه كما في «إرشاد العقل السليم» ((قيد للإكراه لا باعتبار أنه مدار للنهي عنه بل باعتبار أنه المعتاد فيما بينهم أيضاً جىء به تشنيعاً لهم فيما هم عليه من احتمال الوزر الكبير لأجل النزر الحقير أي لا تفعلوا ما أنتم عليه من إكراههن على البغاء لطلب المتاع السريع الزوال الوشيك الاضمحلال، فالمراد بالابتغاء الطلب المقارن لنيل المطلوب واستيفائه بالفعل إذ هو الصالح لكونه غاية للإكراه مترتباً عليه لا المطلق المتناول للطلب السابق الباعث عليه)).

ولا اختصاص لعرض الحياة الدنيا بكسبهن أعني أجورهن التي يأخذنها على الزنا بهن وإن كان ظاهر كثير من الأخبار يقتضي ذلك بل ما يعمه وأولادهن من الزنا وبذلك فسره سعيد بن جبير كما أخرجه عنه ابن أبـي حاتم وفي بعض الأخبار ما يشعر بأنهم كانوا يكرهونهن على ذلك للأولاد.

أخرج الطبراني والبزار وابن مردويه بسند صحيح عن ابن عباس أن جارية لعبد الله بن أبـي كانت تزني في الجاهلية فولدت له أولاداً من الزنا فلما حرم الله تعالى الزنا قال لها: مالك لا تزنين؟ قالت: والله لا أزني أبداً فضربها فأنزل الله تعالى: { وَلاَ تُكْرِهُواْ } الآية، ولا يقتضي هذا وأمثاله تخصيص العرض بالأولاد كما لا يخفى. وسمعت أن بعض قبائل أعراب العراق كآل عزة يأمرون جواريهم بالزنا للأولاد كفعل الجاهلية ولا يستغرب ذلك من الأعراب لا سيما في مثل هذه الأعصار التي عرا فيها كثيراً من رياض الأحكام الشرعية في كثير من المواضع إعصار فإنهم أجدر أن لا يعلموا حدود ما أنزل الله ولا حول ولا قوة إلا بالله.

وقوله تعالى: { وَمَن يُكْرِههُنَّ } إلى آخره جملة مستأنفة سيقت لتقرير النهي وتأكيد وجوب العمل ببيان خلاص المكرهات من عقوبة المكره عليه عبارة ورجوع غائلة الإكراه إلى المكرهين إشارةً أي ومن يكرههن على ما ذكر من البغاء { فِإِنَّ ٱللَّهِ مِن بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } لهن كما في قراءة ابن مسعود وقد أخرجها عبد بن حميد وابن أبـي حاتم عن سعيد بن جبير عنه لكن بتقديم { لَهُنَّ } على { غَفُورٌ رَّحِيمٌ } ورويت كذلك أيضاً عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وينبـىء عنه على ما قيل قوله تعالى: { مِن بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ } أي كونهن مكرهات على أن الإكراه مصدر المبني للمفعول فإن توسيطه بين اسم إن وخبرها للإيذان بأن ذلك هو السبب للمغفرة والرحمة. وأخرج ابن أبـي شيبة وابن جرير وغيرهما عن مجاهد أنه قال: غفور رحيم لهن وليست لهم، وكان الحسن إذا قرأ الآية يقول: لهنّ والله لهن، وفي تخصيص ذلك بهن وتعيين مداره على ما سمعت مع سبق ذكر المكرهين / أيضاً في الشرطية دلالة على كونهم محرومين من المغفرة والرحمة بالكلية كأنه قيل: لا لهم أو لا له ولظهور هذا التقدير اكتفى به عن العائد إلى اسم الشرط اللازم في الجملة الشرطية على الأصح كما في «المغني».

وقيل: في توجيه أمر العائد: إن { إِكْرَاهِهِنَّ } مصدر مضاف إلى المفعول وفاعل المصدر ضمير محذوف عائد على اسم الشرط والمحذوف كالملفوظ والتقدير من بعد إكراههم إياهن. ورده أبو حيان بأنهم لم يعدوا في الروابط الفاعل المحذوف للمصدر في نحو هند عجبت من ضرب زيد وإن كان المعنى من ضربها زيداً فلم يجوزوا هذا التركيب ولا فرق بينه وبين ما نحن فيه، وقيل: جواب الشرط محذوف والمذكور تعليل لما يفهم من ذلك المحذوف والتقدير ومن يكرههن فعليه وبال إكراههن لا يتعدى إليهن فإن الله من بعد إكراههن غفور رحيم لهن، وفيه عدول عن الظاهر وارتكاب مزيد إضمار بلا ضرورة، وكون ذلك لتسبب الجزاء على الشرط ليس بشيء. وقال في «البحر»: الصحيح أن التقدير غفور رحيم لهم ليكون في جواب الشرط ضمير يعود على اسم الشرط المخبر عنه بجملة الجواب ويكون ذلك مشروطاً بالتوبة، وفيه إخلال بجزالة النظم الجليل وتهوين لأمر النهي في مقام التهويل وأمر الربط لا يتوقف على ذلك، ومثله ما قيل: إن التقدير لهما فالوجه ما تقدم.

والجار والمجرور في قراءة من سمعت قال ابن جني: متعلق بغفور لأنه أدنى إليه ولأن فعولاً أقعد في التعدي من فعيل، ويجوز أن يتعلق برحيم لأجل حرف الجر إذا قدر خبراً بعد خبر، ولم يقدر صفة لغفور لامتناع تقدم الصفة على موصوفها والمعمول إنما يصح وقوعه حيث يقع عامله وليس الخبر كذلك، وأيضاً يحسن في الخبر لأن رتبة الرحمة أعلى من رتبة المغفرة لأن المغفرة مسببة عنها فكأنها متقدمة معنى وإن تأخرت لفظاً والمعنى على تعلقه بهما كما لا يخفى.

وتعليق المغفرة لهن مع كونهن مكرهات لا إثم لهن بناءً على أن المكره غير مكلف ولا إثم بدون تكليف، وتفصيل المسألة في الأصول قيل: لشدة المعاقبة على المكره لأن المكرهة مع قيام العذر إذا كانت بصدد المعاقبة حتى احتاجت إلى المغفرة فما حال المكرِه وللدلالة على أن حد الإكراه الشرعي والمصابرة إلى أن ينتهي إليه فيرتكب ضيق والله تعالى يغفر ذلك بلطفه. وقيل: لغاية تهويل أمر الزنا وحث المكرهات على التشبث في التجافي عنه أو لاعتبار أنهن وإن كن مكرهات لا يخلون في تضاعيف الزنا عن شائبة مطاوعة بحكم الجبلة البشرية.