خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

فِي بُيُوتٍ أَذِنَ ٱللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا ٱسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِٱلْغُدُوِّ وَٱلآصَالِ
٣٦
رِجَالٌ لاَّ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَن ذِكْرِ ٱللَّهِ وَإِقَامِ ٱلصَّلاَةِ وَإِيتَآءِ ٱلزَّكَـاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ ٱلْقُلُوبُ وَٱلأَبْصَارُ
٣٧
-النور

روح المعاني

{ فِى بُيُوتٍ أَذِنَ ٱللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا ٱسْمُهُ يُسَبّحُ لَهُ فِيهَا بِٱلْغُدُوّ وَٱلأَصَالِ * رِجَالٌ } الخ استئناف لبيان حال من حصلت لهم الهداية لذلك النور وذكر بعض أعمالهم القلبية والقالبية، فالجار والمجرور ـ أعني / متعلق قوله تعالى: { فِى بُيُوتٍ } بـ { يسبح } وفيها تكرير، لذلك جىء به للتأكيد والتذكير بما بعد في الجملة، وللإيذان بأن التقديم للاهتمام دون الحصر، ومثل ما ذكر في التكرير للتأكيد قوله تعالى: { { فَفِى رَحْمَةِ ٱللَّهِ هُمْ فِيهَا خَـٰلِدُونَ } [آل عمران:107] وقولك مررت بزيد به، وبعض النحاة أعرب نحو ذلك بدلاً كما في «شرح التسهيل»، وفي «المغني» هو من توكيد الحرف بإعادة ما دخل عليه مضمراً وليس الجار والمجرور توكيداً للجار والمجرور لأن الظاهر لكونه أقوى لا يؤكد بالضمير، وليس المجرور بدلاً بإعادة الجار لأنه لا يبدل مضمر من مظهر وإنما جوزه بعض النحاة قياساً، وأنت تعلم أن ما ذكر غير وارد لأن المجموع بدل أو توكيد، وأتى بالظاهر هرباً من التكرار، و { رِجَالٌ } فاعل { يُسَبّحُ } وتأخيره عن الظروف لأن في وصفه نوع طول فيخل تقديمه بحسن الانتظام وقال الرماني { فِى بُيُوتٍ } متعلق بِـ { { يُوْقَدُ } [النور: 35]، وقال الحوفي: متعلق بمحذوف وقع صفة لِـ { { مِشْكَاة } [النور:35]، وقيل هو صفة لمصباح، وقيل صفة لزجاجة، وهو على هذه الأقوال الأربعة تقييد للممثل به للمبالغة فيه، والتنوين في الموصوف للنوعية لا للفردية لينافي ذلك جمع البيوت. وأورد على ما ذكر أن شيئاً منه لا يليق بشأن التنزيل الجليل كيف لا وأن ما بعد قوله تعالى: { { وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ } [النور: 35] على ما هو الحق أو بعد قوله سبحانه: { نُّورٌ عَلَىٰ نُورٍ } على ما قيل إلى قوله تعالى: { { بِكُلّ شَىْء عَلِيمٌ } [النور: 35] كلام متعلق بالممثل قطعاً فتوسيطه بين أجزاء التمثيل مع كونه من قبيل الفصل بين الشجر ولحائه بالأجنبـي يؤدي إلى كون ذكر حال المنتفعين بالتمثيل المهديين لنوره تعالى بطريق الاستتباع والاستطراد مع كون بيان حال أضدادهم مقصوداً بالذات ومثل هذا مما لا عهد به في كلام الناس فضلاً أن يحمل عليه الكلام المعجز. وتعقبه الخفاجي بأنه زخرف من القول إذ لا فصل فيه وما قبله إلى هنا من المثل، والظاهر عندي أن التمثيل قد تم عند قوله تعالى: { { وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ } [النور: 35] وقيل هو متعلق بسبحوا أو نحوه محذوفاً وتلك الجملة على ما قيل مترتبة على ما قبلها وترك الفاء للعلم به كما في نحو قم يدعوك، ومنعوا تعلقه بيذكر لأنه من صلة (أن) فلا يعمل فيما قبله، والمراد بالبيوت المساجد كلها كما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وقتادة ومجاهد. وأخرج ابن أبـي حاتم عن ابن زيد أنه قال: إنما هي أربع مساجد لم يبنهن إلا نبـي، الكعبة بناها إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام وبيت المقدس بناه داود وسليمان عليهما السلام ومسجد المدينة ومسجد قباء بناهما رسول الله صلى الله عليه وسلم. وعن الحسن أن المراد بها بيت المقدس والجمع من حيث أن فيه مواضع يتميز بعضها عن بعض وهو خلاف الظاهر جداً. وأخرج ابن مردويه عن أنس بن مالك وبريدة قال: "قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: هذه الآية { فِى بُيُوتٍ } الخ فقام إليه عليه الصلاة والسلام رجل فقال أي بيوت هذه يا رسول الله؟ فقال صلى الله عليه وسلم بيوت الأنبياء عليهم السلام فقام إليه أبو بكر رضي الله تعالى عنه فقال: يا رسول الله هذا البيت منها - لبيت علي وفاطمة رضي الله تعالى عنهما - قال: نعم من أفاضلها" وهذا إن صح لا ينبغي العدول عنه. وقال أبو حيان ((الظاهر أنها مطلقة تصدق على المساجد والبيوت التي تقع فيها الصلاة والعلم)) وجوز أن يراد بها صلاة المؤمنين أو أبدانهم بأن تشبه صلاتهم الجامعة للعبادات القولية والفعلية أو أبدانهم المحيطة بالأنوار بالبيوت المذكورة ـ أعني المساجد ـ ثم يستعار اسمها لذلك. وتعقب بأنه لا حسن فيما ذكر وأظنك لا تكتفي بهذا المقدار من الجرح.

والمراد بالإذن الأمر وبالرفع التعظيم أي أمر سبحانه بتعظيم قدرها، وروي هذا عن الحسن والضحاك، ولا يخفى أنه إذا أريد بها المساجد فتعظيم قدرها يكون بأشياء شتى كصيانتها عن / دخول الجنب والحائض والنفساء ولو على وجه العبور وقد قالوا بتحريم ذلك وإدخال نجاسة فيها يخاف منها التلويث ولذا قالوا: ينبغي لمن أراد أن يدخل المسجد أن يتعاهد النعل والخف عن النجاسة ثم يدخل فيه احترازاً عن تلويث المسجد، ومنع إدخال الميت فيها ومنع إدخال الصبيان والمجانين وهو حرام حيث غلب تنجيسهم وإلا فهو مكروه، وقد جاء الأمر بتجنيبهم عن المساجد مطلقاً. أخرج ابن ماجه عن واثلة بن الأسقع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "جنبوا مساجدكم صبيانكم ومجانينكم وشراءكم وبيعكم وخصوماتكم ورفع أصواتكم وإقامة حدودكم وسل سيوفكم واتخذوا على أبوابها المطاهر وجمروها في الجمع" ومنع إنشاد الضالة وإنشاد الأشعار، فقد أخرج الطبراني وابن السني وابن منده عن ثوبان قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من رأيتموه ينشد شعراً في المسجد فقولوا فض الله تعالى فاك ثلاث مرات ومن رأيتموه ينشد ضالة في المسجد فقولوا: لا وجدتها ثلاث مرات" الحديث. وينبغي أن يقيد المنع من إنشاد الشعر بما إذا كان فيه شيء مذموم كهجو المسلم وصفة الخمر وذكر النساء والمردان وغير ذلك مما هو مذموم شرعاً، وأما إذا كان مشتملاً على مدح النبوة والإسلام أو كان مشتملاً على حكمة أو باعثاً على مكارم الأخلاق والزهد ونحو ذلك من أنواع الخير فلا بأس بإنشاده فيها.

ومنع إلقاء القملة فيه بعد قتلها وهو مكروه تنزيهاً على ما صرح به بعض المتأخرين، ويندب أن لا تلقى حية في المسجد، فقد أخرج ابن أبـي شيبة وأحمد عن رجل من الأنصار قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا وجد أحدكم القملة في المسجد فليصرها في ثوبه حتى يخرجها" ومنع البول فيها ولو في إناء وقد صرحوا بحرمة ذلك، وفي «الأشباه» وأما الفصد في المسجد في إناء فلم أره، وينبغي أن لا فرق أي لأن كلاً من البول والدم نجس مغلظ، ومنع إلقاء البصاق فيها.

وفي «البدائع» يكره التوضىء في المسجد لأنه مستقذر طبعاً فيجب تنزيه المسجد عنه كما يجب تنزيهه عن المخاط والبلغم، وأخرج ابن أبـي شيبة عن الشعبـي "أن النبـي صلى الله عليه وسلم رأى في قبلة المسجد نخامة فقام إليها فحكها بيده الشريفة صلى الله عليه وسلم ثم دعا بخلوق فلطخ مكانها" فقال الشعبـي: هو سنة، وذكروا أن إلقاء النخامة فوق الحصير أخف من وضعها تحته فإن اضطر إليه دفنها، وفي حديث أخرجه ابن أبـي شيبة عن أنس مرفوعاً "التفل في المسجد خطيئة وكفارته أن يواريه" وروى الطبراني في «الأوسط» عن ابن عباس مرفوعاً أيضاً نحوه، ومنع الوطء فيها وفوقها كالتخلي وصرحوا بحرمة ذلك، ومنع دخول من اكل ذا رائحة كريهة فيها كالثوم والبصل والكراث وآكل الفجل إذا تجشأ كذلك، وقد كان الرجل في زمان النبـي صلى الله عليه وسلم إذا وجد منه ريح الثوم يؤخذ بيده ويخرج إلى البقيع، والظاهر أن الأبخر أو من به صنان مستحكم حكمه حكم آكل الثوم والبصل، وكذا حكم من رائحة ثيابه كريهة كثياب الزياتين والدباغين، وعن مالك أن الزياتين يتأخرون ولا يتقدمون إلى الصف الأول ويقعدون في أخريات الناس، ومنع النوم والأكل فيها لغير معتكف، ومنع الجلوس فيها للمصيبة أو للتحدث بكلام الدنيا.

ومنع اتخاذها طريقاً وهو مكروه أو حرام. وقد جاء النهي عن ذلك في حديث رواه ابن ماجه عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما مرفوعاً. وأخرج ابن أبـي شيبة عن ابن مسعود أن اتخاذها طريقاً من أشراط الساعة؛ وفي «القنية» معتاد ذلك يأثم ويفسق، نعم إن كان هناك عذر لم يكره المرور، ومن تعظيمها رشها وقمها، فقد أخرج ابن أبـي شيبة عن زيد / بن أسلم قال: كان المسجد يرش ويقم على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأخرج عن يعقوب بن زيد أن النبـي عليه الصلاة والسلام كان يتبع غبار المسجد بجريدة؛ وكذا تعليق القناديل فيها وفرشها بالآجر والحصير، وفي «مفتاح السعادة» ولأهل المسجد أن يفرشوا المسجد بالآجر والحصير ويعلقوا القناديل لكن من مال أنفسهم لا من مال المسجد إلا بأمر الحاكم، ولعل محل ذلك ما لم يعين الواقف شيئاً من ريع الوقف لذلك، وينبغي أن يكون إيقاد القناديل الكثيرة فيها في ليالي معروفة من السنة كليلة السابع والعشرين من رمضان الموجب لاجتماع الصبيان وأهل البطالة ولعبهم ورفع أصواتهم وامتهانهم بالمساجد بدعة منكرة، وكذا ينبغي أن يكون فرشها بالقطائف المنقوشة التي تشوش على المصلين وتذهب خشوعهم كذلك.

ومن التعظيم أيضاً تقديم الرجل اليمنى عند دخولها واليسرى عند الخروج منها، وصلاة الداخل ركعتين قبل الجلوس إذا كان دخوله لغير الصلاة على ما ذكره بعضهم، وأخرج ابن أبـي شيبة عن أبـي قتادة أن النبـي صلى الله عليه وسلم قال: "اعطوا المساجد حقها قيل: وما حقها؟ قال: ركعتان قبل أن تجلس" ومن ذلك أيضاً بناؤها رفيعة عالية لا كسائر البيوت لكن لا ينبغي تزيينها بما يشوش على المصلين، وفي حديث أخرجه ابن ماجه والطبراني عن جبير بن مطعم مرفوعاً أنها لا تبنى بالتصاوير ولا تزين بالقوارير.

وفسر بعضهم الرفع ببنائها رفيعة كما في قوله تعالى: { { وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرٰهِيمُ ٱلْقَوَاعِدَ مِنَ ٱلْبَيْتِ وَإِسْمَـٰعِيلُ } [البقرة: 127] والأولى عندي تفسيره بما سبق وجعل بنائها كذلك داخلاً في العموم ويدخل فيه أمور كثيرة غير ما ذكرنا وقد ذكرها الفقهاء وأطالوا الكلام فيها. وزعم بعض المفسرين أن إسناد الرفع إليها مجاز، والمراد ترفع الحوائج فيها إلى الله تعالى، وقيل: ترفع الأصوات بذكر الله عز وجل فيها، ولا يخفى ما فيه، وفي التعبير عن الأمر بالإذن تلويح بأن اللائق بحال المأمور أن يكون متوجهاً إلى المأمور به قبل الأمر به ناوياً لتحقيقه كأنه مستأذن في ذلك فيقع الأمر به موقع الأمر فيه.

والمراد بذكر اسمه تعالى شأنه ما يعم جميع أذكاره تعالى، وجعل من ذلك المباحث العلمية المتعلقة به عز وجل، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما المراد به توحيده عز وجل وهو قول: لا إله إلا الله، وعنه أيضاً المراد تلاوة كتابه سبحانه. وقيل: ذكر أسمائه تعالى الحسنى. والظاهر ما قدمنا، وعطف الذكر على الرفع من قبيل عطف الخاص على العام فإن ذكر اسمه تعالى فيها من أنواع تعظيمها، وليس من عطف التفسير في شيء خلافاً لمن توهمه.

والتسبيح التنزيه والتقديس ويستعمل باللام وبدونها كما في قوله تعالى: { { سَبِّحِ ٱسْمَ رَبّكَ ٱلأَعْلَىٰ } [الأعلى: 1] والمراد به إما ظاهره أو الصلاة لاشتمالها عليه وروي هذا عن ابن عباس والحسن والضحاك وعن ابن عباس كل تسبيح في القرآن صلاة، وأيد إرادة الصلاة هنا تعيين الأوقات بقوله سبحانه: { بِٱلْغُدُوّ وَٱلأَصَالِ } والغدو جمع غداة كقني وقناة أو مصدر أطلق على الوقت الغدو، وأيد بأن أبا مجلز قرأ { والإيصال } مصدراً أي الدخول في وقت الأصيل، و { ٱلأَصَالِ } كما قال الجوهري جمع أصيل كشريف وأشراف، واختاره جماعة مع أن جمع فعيل على أفعال ليس بقياسي. واختار الزمخشري أنه جمع أصل كعنق وأعناق؛ والأصل كالأصيل العشي وهو من زوال الشمس إلى الصباح فيشمل الأوقات ما عدا الغداة وهي من أول النهار إلى الزوال ويطلقان على أول النهار وآخره، وإفرادهما بالذكر لشرفهما وكونهما أشهر ما يقع فيه المباشرة للأعمال والاشتغال بالأشغال. وعن ابن عباس أنه حمل الغداة على وقت الضحى وهو مقتضى ما أخرج ابن أبـي شيبة والبيهقي في «شعب الإيمان» عنه رضي / الله تعالى عنه من قوله: «إن صلاة الضحى لفي القرآن وما يغوص عليها إلا غواص وتلا الآية حتى بلغ { ٱلأَصَالِ }.

وقرأ ابن عامر وأبو بكر والبحتري عن حفص ومحبوب عن أبـي عمرو والمنهال عن يعقوب والمفضل وأبان { يسبح } بالياء التحتية والبناء للمفعول ونائب الفاعل { لَهُ } أو { فِيهَا } إن لم يتعلق { فِى بُيُوتٍ } به أو { بِٱلْغُدُوّ } والأولية للأول لأنه ولي الفعل والإسناد إليه حقيقي دون الأخيرين. وجوز أن يكون المجرور فيما ذكر نائب الفاعل والجار فيه زائداً، وفيه ارتكاب لما لا داعي إليه، ورفع { رِجَالٌ } على هذه القراءة على أنه فاعل لفعل محذوف أو خبر مبتدأ محذوف على ما في «البحر» أي يسبح له أو المسبح له رجال. والجملة استئناف بياني وقع جواباً لسؤال نشأ من الكلام السابق، وهذا نظير قوله:

ليبك يزيد ضارع لخصومة (ومختبط مما تطيح الطوائح)

وهو قياسي عند الكثير فيجوز عندهم أن يقال: ضربت هند زيد بتقدير ضربها أو ضاربها زيد. وليس هذا كذكر الفاعل تمييزاً بعد الفعل المبني للمفعول نحو ضرب أخوك رجلاً المصرح بعدم جوازه ابن هشام في الباب الخامس من «المغني» وإن أوهمت العلة أنه مثله فتأمّل.

وقرأ أبو حيوة وابن وثاب { تسبح } بالتاء الفوقية والبناء للفاعل وهو { رِجَالٌ } والتأنيث لأن جمع التكثير كثيراً ما يعامل معاملة المؤنث، وقرى أبو جعفر { تسبح } بالتاء الفوقية والبناء للمفعول وهو قوله تعالى: { بِٱلْغُدُوّ وَٱلأَصَالِ } على أن الباء زائدة والإسناد مجازي بجعل الأوقات المسبح فيها ربها مسبحة، وجوز أبو حيان أن يكون الإسناد إلى ضمير التسبيحة الدالة عليه { تُسَبّحُ } أي تسبح هي أي التسبيحة كما قالوا في قوله تعالى: { { لِيَجْزِىَ قَوْماً } [الجاثية:14] على قراءة من بنى { يُجْزَىٰ } للمفعول أي ليجزي هو أي الجزاء. قال في «إرشاد العقل السليم»: وهذا أولى من التوجيه الأول إذ ليس هنا مفعول صريح. وضعفه بعضهم هنا بأن الوحدة لا تناسب المقام، وأجيب بالتزام كون الوحدة جنسية. وأياً ما كان فرفع { رِجَالٌ } على هذه القراءة على الفاعلية أو الخبرية كما سمعت آنفاً. والتنوين فيه على جميع القراءات للتفخيم.

وقوله سبحانه: { لاَّ تُلْهِيهِمْ تِجَـٰرَةٌ } صفة له مؤكدة لما أفاده التنوين من الفخامة مفيدة لكمال تبتلهم إلى الله تعالى من غير صارف يلويهم ولا عاطف يثنيهم كائناً مّا كان. وتخصيص الرجال بالذكر لأنهم الأحقاء بالمساجد. فقد أخرج أحمد والبيهقي عن أم سلمة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم "خير مساجد النساء قعر بيوتهن" وتخصيص التجارة التي هي المعاوضة مطلقاً بذلك لكونها أقوى الصوارف عندهم وأشهرها أي لا يشغلهم نوع من أنواع التجارة { وَلاَ بَيْعٌ } أي ولا فرد من أفراد البياعات وإن كان في غاية الربح. وإفرادهم بالذكر مع اندراجه تحت التجارة للإيذان بإنافته على سائر أنواعها لأن ربحه متيقن ناجز وربح ما عداه متوقع في ثاني الحال عند البيع فلم يلزم من نفي إلهاء ما عداه نفي إلهائه ولذلك كرر كلمة { لا } لتذكير النفي وتأكيده، وجوز أن يراد بالتجارة المعاوضة الرابحة وبالبيع المعاوضة مطلقاً فيكون ذكره بعدها من باب التعميم بعد التخصيص للمبالغة.

ونقل عن الواقدي أن المراد بالتجارة هو الشراء لأنه أصلها ومبدؤها فلا تخصيص ولا تعميم، وقيل: المراد بالتجارة الجلب لأنه الغالب فيها فهو لازم لها عادة. ومنه يقال: تجر في كذا أي جلبه. ويؤيد هذا ما أخرجه ابن أبـي حاتم وابن مردويه عن أبـي هريرة عن رسول الله / صلى الله عليه وسلم أنه قال في هؤلاء الموصوفين بما ذكر: هم الذين يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله تعالى.

وأخرج الديلمي. وغيره عن أبـي سعيد الخدري مرفوعاً نحوه، وفي ذلك أيضاً ما يقتضي أنهم كانوا تجاراً وهو الذي يدل عليه ظاهر الآية لأنه لا يقال فلان لا تلهيه التجارة إلا إذا كان تاجراً وروي ذلك عن ابن عباس. أخرج الطبراني وابن مردويه عنه أنه قال: أما والله لقد كانوا تجاراً فلم تكن تجارتهم ولا بيعهم يلهيهم عن ذكر الله تعالى، وبه قال الضحاك، وقيل: إنهم لم يكونوا تجاراً والنفي راجع للقيد والمقيد كما في قوله:

على لا حب لا يهتدي بمناره

كأنه قيل: لا تجارة لهم ولا بيع فيلهيهم فإن الآية نزلت فيمن فرغ عن الدنيا كأهل الصفة، وأنت تعلم أن الآية على الأول المؤيد بما سمعت أمدح ولم نجد لنزولها فيمن فرغ عن الدنيا سنداً قوياً أو ضعيفاً ولا يكتفى في هذا الباب بمجرد الاحتمال.

{ عَن ذِكْرِ ٱللَّهِ } بالتسبيح والتحميد ونحوهما { وَإِقَامِ ٱلصَّلاَةِ } أي إقامتها لمواقيتها من غير تأخير. والأصل أقوام فنقلت حركة الواو لما قبلها فالتقى ساكنان فحذفت فقيل: إقام، وعن الزجاج أنه قلبت الواو ألفاً ثم حذف لاجتماع ألفين. وأورد عليه أنه لا داعي إلى قلبها ألفاً مع فقد شرطه وهو أن لا يسكن ما بعدها. وأوجب الفراء لجواز هذا الحذف تعويض التاء فيقال: إقامة أو الإضافة كما هنا، وعلى هذا جاء قوله:

إن الخليط أجدوا البين وانجردوا وأخلفوك عِدَ الأمر الذي وعدوا

فإنه أراد عدة الأمر. وتأول خالد بن كلثوم ما في البيت على أن عد جمع عدوة بمعنى ناحية كأن الشاعر أراد نواحي الأمر وجوانبه. ومذهب سيبويه جواز الحذف من غير تعويض التاء أو الإضافة { وَإِيتَآءِ ٱلزَّكَـاةِ } أي المال الذي فرض إخراجه للمستحقين كما روي عن الحسن. ويدل على تفسير الزكاة بذلك دون الفعل ظاهر إضافة الإيتاء إليها. وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما تفسير إيتاء الزكاة بإخلاص طاعة الله تعالى وفيه بعد كما ترى، وإيراد هذا الفعل هٰهنا وإن لم يكن مما يفعل في البيوت لكونه قرينة لا تفارق إقامة الصلاة في عامة المواضع مع ما فيه من التنبيه على أن محاسن أعمالهم غير منحصرة فيما يقع في المساجد، وكذا قوله تعالى: { يَخَافُونَ } إلى آخره فإنه صفة أخرى لرجال أو حال من مفعول { لاَّ تُلْهِيهِمْ } أو استئناف مسوق للتعليل. وأياً مّا كان فليس خوفهم مقصوراً على كونهم في المساجد.

وقوله تعالى: { يَوْماً } مفعول ليخافون على تقدير مضاف أي عقاب يوم وهو له أو بدونه، وجعله ظرفاً لمفعول محذوف بعيد وأما جعله ظرفاً ليخافون والمفعول محذوف فليس بشيء أصلاً، إذ المراد أنهم يخافون في الدنيا يوماً { تَتَقَلَّبُ فِيهِ ٱلْقُلُوبُ وَٱلأَبْصَـٰرُ } لا أنهم يخافون شيئاً في ذلك اليوم الموصوف بأنه تتقلب فيه الخ، والمراد به يوم القيامة ومعنى تقلب القلوب والأبصار فيه اضطرابها وتغيرها أنفسها فيه من الهول والفزع كما في قوله تعالى: { { وَإِذْ زَاغَتِ ٱلأَبْصَـٰرُ وَبَلَغَتِ ٱلْقُلُوبُ ٱلْحَنَاجِرَ } [الأحزاب: 10] أو تغير أحوالها بأن تفقه القلوب ما لم تكن تفقه وتبصر الأبصار ما لم تكن تبصر أو بأن تتوقع القلوب النجاة تارة وتخاف الهلاك أخرى وتنظر الأبصار يميناً تارة وشمالاً أخرى لما أن أغلب أهل الجمع لا يدرون من أي ناحية يؤخذ بهم ولا من / أي جهة يؤتون كتبهم، وقيل: المراد تقلب فيه القلوب والأبصار على جمر جهنم وليس بشيء، ومثله قول الجبائي: إن المراد تنتقل من حال إلى حال فتلفحها النار ثم تنضجها ثم تحرقها، وقرأ ابن محيصن { تتقلب } بإسكان التاء الثانية.