خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَٱلَّذِينَ كَفَرُوۤاْ أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ ٱلظَّمْآنُ مَآءً حَتَّىٰ إِذَا جَآءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ ٱللَّهَ عِندَهُ فَوَفَّـٰهُ حِسَابَهُ وَٱللَّهُ سَرِيعُ ٱلْحِسَابِ
٣٩
-النور

روح المعاني

{ وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ } إلى آخره عطف على ما قبله عطف القصة على القصة أو على مقدر ينساق إليه ما قبله كأنه قيل الذين آمنوا أعمالهم حالاً ومآلاً كما وصف والذين كفروا { أَعْمَـٰلُهُمْ كَسَرَابٍ } أي أعمالهم التي هي من أبواب البر كصلة الأرحام وفك العناة / وسقاية الحاج وعمارة البيت وإغاثة الملهوفين وقرى الأضياف ونحو ذلك على ما قيل، وقيل أعمالهم التي يظنون الانتفاع بها سواء كان مما يشترط فيها الإيمان كالحج أم كانت مما لا يشترط فيها ذلك كسقاية الحاج وسائر ما تقدم، وقيل المراد بها ما يشمل الحسن والقبيح ليتأتى التشبيهان، وسيأتي إن شاء الله تعالى الكلام في ذلك. والسراب بخار رقيق يرتفع من قعور القيعان فإذا اتصل به ضوء الشمس أشبه من بعيد الماء السارب أي الجاري، واشترط فيه الفراء اللصوق في الأرض، وقيل هو ما ترقرق من الهواء في الهجير في فيافي الأرض المنبسطة، وقيل: هو الشعاع الذي يرى نصف النهار عند اشتداد الحر في البر يخيل للناظر أنه ماء سارب، قال الشاعر:

فلما كففنا الحرب كانت عهودكم كلمع سراب في الفلا متألق

وإلى هذا ذهب الطبرسي، وفسر الآل بأنه شعاع يرتفع بين السماء والأرض كالماء ضحوة النهار { بِقِيعَةٍ } متعلق بمحذوف هو صفة لسراب أي كائن بقيعة وهي الأرض المنبسطة المستوية، وقيل هي جمع قاع كجيرة في جار ونيرة في نار. وقرأ مسلمة بن محارب { بقيعات } بتاء طويلة على أنه جمع قيعة كديمات وقيمات في ديمة وقيمة، وعنه أيضاً أنه قرأ { بقيعاة } بتاء مدورة ويقف عليها بالهاء فيحتمل أن يكون جمع قيعة ووقف بالهاء على لغة طيء كما قالوا: البناه والأخواه، ويحتمل كما قال صاحب «اللوامح» أن يكون مفرداً وأصله قيعة كما في قراءة الجمهور لكنه أشبع الفتحة فتولدت منها الألف.

{ يَحْسَبُهُ ٱلظَّمْآنُ مَآءً } صفة أخرى لسراب. وجوز أن يكون هو الصفة وبقيعة ظرفاً لما يتعلق به الكاف وهو الخبر؛ والحسبان الظن على المشهور وفرق بينهما الراغب بأن الظن أن يخطر النقيضان بباله ويغلب أحدهما على الآخر والحسبان أن يحكم بأحدهما من غير أن يخطر الآخر بباله فيعقد عليه الأصبع ويكون بعرض أن يعتريه فيه شك. وتخصيص الحسبان بالظمآن مع شموله لكل من يراه كائناً من كان من العطشان والريان لتكميل التشبيه بتحقيق شركة طرفية في وجه الشبه الذي هو المطلع المطمع والمقطع المؤيس. وقرأ شيبة وأبو جعفر ونافع بخلاف عنهما { الظمان } بحذف الهمزة ونقل حركتها إلى الميم.

{ حَتَّىٰ إِذَا جَاءهُ } أي إذا جاء العطشان ما حسبه ماء، وقيل إذا جاء موضعه { لَمْ يَجدْهُ } أي لم يجد ما حسبه ماء وعلق رجاءه به { شَيْئاً } أصلاً لا محققاً ولا مظنوناً [كما] كان يراه من قبل فضلاً عن وجدانه ماء، ونصب { شَيْئاً } قيل على الحالية، وأمر الاشتقاق سهل، وقيل على أنه مفعول ثان لوجد بناء على أنها من أخوات ظن، وجوز أن يكون منصوباً على البدلية من الضمير، ويجوز إبدال النكرة من المعرفة بلا نعت إذا كان مفيداً كما صرح به الرضي، واختار أبو البقاء أنه منصوب على المصدرية كأنه قيل لم يجده وجداناً وهو كما ترى.

{ وَوَجَدَ ٱللَّهَ عِندَهُ } عطف على جملة { لَمْ يَجِدْهُ } فهو داخل في التشبيه أي ووجد الظمآن مقدوره تعالى من الهلاك عند السراب المذكور، وقيل أي وجد الله تعالى محاسباً إياه على أن العندية بمعنى الحساب لذكر التوفية بعد بقوله سبحانه: { فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ } أي أعطاه وافياً كاملاً حساب عمله وجزاءه أو أتم حسابه بعرض الكتبة ما قدمه { وَٱللَّهُ سَرِيعُ ٱلْحِسَابِ } لا يشغله حساب عن حساب.

وفي «إرشاد العقل السليم» أن بيان أحوال الكفرة بطريق التمثيل قد تم بقوله سبحانه: { لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً }، وقوله / تعالى: { وَوَجَدَ } الخ بيان لبقية أحوالهم العارضة لهم بعد ذلك بطريق التكملة لئلا يتوهم أن قصارى أمرهم هو الخيبة والقنوط فقط كما هو شأن الظمآن. ويظهر أنه يعتريهم بعد ذلك من سوء الحال ما لا قدر للخيبة عنده أصلاً فليست الجملة معطوفة على { لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً } بل على ما يفهم منه بطريق التمثيل من عدم وجدان الكفرة من أعمالهم [المذكورة] عيناً ولا أثراً كما في قوله تعالى: { { وَقَدِمْنَا إِلَىٰ مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُوراً } [الفرقان: 23] كيف لا وأن الحكم بأن أعمال الكفرة كسراب يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئاً حكم بأنها بحيث يحسبونها في الدنيا نافعة لهم في الآخرة حتى إذا جاءوها لم يجدوها شيئاً كأنه قيل: حتى إذا جاء الكفرة يوم القيامة أعمالهم التي كانوا في الدنيا يحسبونها نافعة لهم في الآخرة لم يجدوها شيئاً ووجدوا الله أي حكمه وقضاءه عند المجيء، وقيل: عند العمل فوفاهم أي أعطاهم وافياً حسابهم أي حساب أعمالهم المذكورة وجزاءها فإن اعتقادهم لنفعها بغير إيمان وعملهم بموجبه كفر على كفر موجب للعقاب قطعاً، وإفراد الضميرين الراجعين إلى { ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ } إما لإرادة الجنس كالظمآن الواقع في التمثيل وإما للحمل على كل واحد منهم، وكذا إفراد ما يرجع إلى أعمالهم انتهى، ولا يخفى ما فيه من البعد وارتكاب خلاف الظاهر.

وأياً ما كان فالمراد بالظمآن مطلق الظمآن، وقيل المراد به الكافر، وإليه ذهب الزمخشري قال: «شبه سبحانه ما يعمله من لا يعتقد الإيمان بسراب يراه الكافر بالساهرة وقد غلبه عطش [يوم] القيامة فيحسبه ماء فيأتيه فلا يجده ويجد زبانية الله تعالى عنده يأخذونه فيسقونه الحميم والغساق» وكأنه مأخوذ مما أخرجه عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبـي حاتم من طريق السدي في غرائبه عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الكفار يبعثون يوم القيامة ورداً عطاشاً فيقولون أين الماء فيمثل لهم السراب فيحسبونه ماء فينطلقون إليه فيجدون الله تعالى عنده فيوفيهم حسابهم والله سريع الحساب" ،واستطيب ذلك العلامة الطيبـي حيث قال: إنما قيد المشبه به برؤية الكافر وجعل أحواله ما يلقاه يوم القيامة ولم يطلق لقوله تعالى: { وَوَجَدَ ٱللَّهَ عِندَهُ } الخ لأنه من تتمة أحوال المشبه به، وهذا الأسلوب أبلغ لأن خيبة الكافر أدخل وحصوله على خلاف ما يؤمله أعرق. وتعقبه أبو حيان بأنه يلزم من حمل الظمآن على الكافر تشبيه الشيء بنفسه. ورد بأن التشبيه على ما ذكره جار الله تمثيلي أو مقيد لا مفرق كما توهم فلا يلزم من اتحاد بعض المفردات في الطرفين تشبيه الشيء بنفسه كاتحاد الفاعل في ـ أراك تقدم رجلاً وتؤخر أخرى ـ، وبالجملة هو أحسن مما في «الإرشاد» كما لا يخفى على من سلم ذهنه من غبار العناد.

والآية على ما روي عن مقاتل نزلت في عتبة بن ربيعة بن أمية كان تعبد ولبس المسوح والتمس الدين في الجاهلية ثم كفر في الإسلام ولا يأبـى ذلك قوله تعالى: { وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ } لأنه غير خاص بسبب النزول وإن دخل فيه دخولاً أولياً، ولا يرد عليه أن الآية مدنية نزلت بعد بدر وعتبة قتل في بدر فإن كثيراً من الآيات نزل بسبب الأموات وليس في ذلك محذور أصلاً، ثم لا يبعد أن يكون في حكم هؤلاء الكفرة الفلاسفة ومتبعوهم من المتزيين بزي الإسلام فإن اعتقاداتهم وأعمالهم حيث لم تكن على وفق الشرع كسراب بقيعة.