خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

لاَ تَحْسَبَنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مُعْجِزِينَ فِي ٱلأَرْضِ وَمَأْوَٰهُمُ ٱلنَّارُ وَلَبِئْسَ ٱلْمَصِيرُ
٥٧
-النور

روح المعاني

وقوله تعالى: { لاَ تَحْسَبَنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ } الخ بيان لمآل الكفرة في الدنيا والآخرة بعد بيان تناهيهم في الفسق وفوز أضدادهم بالرحمة المطلقة المستتبعة لسعادة الدارين، وفي ذلك أيضاً رفع استبعاد تحقق الوعد السابق مع كثرة عدد الكفرة وعددهم والخطاب لكل من يتأتى منه الحسبان نظير ما في قوله تعالى: { { وَلَوْ تَرَىٰ إِذِ ٱلْمُجْرِمُونَ نَاكِسُواْ رُؤُوسِهُمْ } [السجدة: 12]. وجوز أن يكون للرسول صلى الله عليه وسلم على سبيل التعريض بمن صدر منه ذلك كقوله:

إياك أعني فاسمعي يا جارة

أو الإشارة إلى أن الحسبان المذكور بلغ في القبح والمحذورية إلى حيث ينهي من يمتنع صدوره عنه فكيف بمن يكن ذلك منه كما قيل في قوله تعالى: { { وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ ٱلْمُشْرِكِينَ } [الأنعام: 14] فقول أبـي حيان: إن جعل الخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم ليس بجيد لأن مثل هذا الحسبان لا يتصور وقوعه منه عليه الصلاة والسلام ليس بجيد لما فيه من الغفلة عما ذكر؛ ومحل الموصول نصب على أنه مفعول أول للحسبان وقوله تعالى: { مُعَـٰجِزِينَ } ثانيهما وقوله تعالى: { فِى ٱلاْرْضِ } ظرف لمعجزين لكن لا لإفادة كون الإعجاز المقصود بالنفي فيها لا في غيرها فإن ذلك غني عن البيان بل لإفادة شمول عدم الإعجاز لجميع أجزائها أي لا تحسبنهم معجزين الله تعالى عن إدراكهم وإهلاكهم في قطر من أقطار الأرض بما رحبت وإن هربوا منها كل مهرب. وقرأ حمزة وابن عامر { يَحْسَبَنَّ } بالياء آخر الحروف على أن الفاعل كل أحد كأنه قيل لا يحسبن حاسب الكافرين معجزين له عز وجل في الأرض أو ضميره صلى الله عليه وسلم لتقدم ذكره عليه الصلاة والسلام في قوله تعالى: { { وَأَطِيعُواْ ٱلرَّسُولَ } [النور: 56] وإليه ذهب أبو علي.

وزعم أبـي حيان أنه ليس بجيد لما تقدم ليس بجيد لما تقدم أو ضمير الكافر أي لا يحسبن الكافر الذين كفروا معجزين، ونقل ذلك عن علي بن سليمان أو الموصول والمفعول الأول محذوف كأنه قيل: لا يحسبن الذين كفروا أنفسهم معجزين في الأرض، وذكر أن الأصل على هذا لا يحسبنهم الذين كفروا معجزين ثم حذف الضمير الذي هو المفعول الأول وكأن الذي سوغ ذلك أن الفاعل والمفعولين لما كانت كالشيء الواحد اقتنع بذكر اثنين عن ذكر الثالث، وتعقبه في «البحر» بأن هذا الضمير ليس من الضمائر التي يفسرها ما بعدها فلا يجوز كون الأصل لا يحسبهم الذين الخ كما لا يجوز ظنه زيد قائماً، وقال الكوفيون { مُعَـٰجِزِينَ } المفعول الأول و { فِى ٱلاْرْضِ } المفعول الثاني، والمعنى لا يحسبن الذين كفروا أحداً يعجز الله تعالى في الأرض حتى يطمعوا في مثل ذلك، قال الزمخشري: وهذا معنى قوي جيد، وتعقب بأنه بمعزل عن المطابقة لمقتضى المقام ضرورة أن مصب الفائدة هو المفعول الثاني ولا فائدة في بيان كون المعجزين في الأرض. ورد بأنه وإن كان / مصب الفائدة جعل مفروغاً منه وإنما المطلوب بيان المحل أي لا يعجزوه سبحانه في الأرض والإنصاف أن ما ذكر خلاف الظاهر، والظاهر إنما هو تعلق { فِى ٱلاْرْضِ } بمعجزين وأياً ما كان فالقراءة المذكورة صحيحة وإن اختلفت مراتب تخريجاتها قوة وضعفاً، ومن ذلك يعلم ما في قول النحاس ما علمت أحداً من أهل العربية بصرياً ولا كوفياً إلا وهو يخطىء قراءة حمزة، فمنهم من يقول: هي لحن لأنه لم يأت إلا بمفعول واحد ليحسبن، وممن قال هذا أبو حاتم انتهى من قلة الوقوف ومزيد الهذيان والجسارة على الطعن في متواتر من القرآن، ولعمري لو كانت القراءة بالرأي لكان اللائق بمن خفي عليه وجه قراءة حمزة أن لا يتكلم بمثل ذلك الكلام ويتهم نفسه ويحجم عن الطعن في ذلك الإمام.

وقوله تعالى: { وَمَأْوَاهُمُ ٱلنَّارِ } عطف على جملة النهي بتأويلها بجملة خبرية لأن المقصود بالنهي عن الحسبان تحقيق نفي الحسبان كأنه قيل [ليس] الذين كفروا معجزين ومأواهم النار. وجوز أن يكون عطفاً على مقدر لأن الأول وعيد الدنيا كأنه قيل فهم مقهورون في الدنيا بالاستئصال ومخزون في الآخرة بعذاب النار؛ وعن صاحب «النظم» تقديره بل هم مقدور عليهم ومحاسبون ومأواهم النار. قال في «الكشف»: وجعله حالاً على معنى لا ينبغي الحسبان لمن مأواه النار كأنه قيل أني للكافر هذا الحسبان وقد أعد له النار، والعدول إلى { وَمَأْوَاهُمُ ٱلنَّارُ } للمبالغة في التحقق وأن ذلك معلوم لهم لا ريب وجه حسن خال عن كلف الكلفة ألم به بعض الأئمة انتهى، ولا يخفى أن في ظاهره ميلاً إلى بعض تخريجات قراءة { يحسبن } بياء الغيبة. وتعقب في «البحر» تأويل جملة النهي لتصحيح العطف عليها بقوله: «الصحيح أنه يجوز عطف الجمل على اختلافها بعضاً على بعض وإن لم تتحد في النوعية وهو مذهب سيبويه». والمأوى اسم مكان، وجوز فيه المصدرية والأول أظهر، وقوله تعالى: { وَلَبِئْسَ ٱلْمَصِيرُ } جواب لقسم مقدر والمخصوص بالذم محذوف أي وبالله لبئس المصير هي أي النار، والجملة اعتراض تذييلي مقرر لما قبله، وفي إيراد النار بعنوان كونها مأوى ومصيراً لهم إثر نفي فوتهم بالهرب في الأرض كل مهرب من الجزالة ما لا غاية وراءه فلله تعالى در شأن التنزيل.