خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَقَدِمْنَآ إِلَىٰ مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَآءً مَّنثُوراً
٢٣
-الفرقان

روح المعاني

{ وَقَدِمْنَا } أي عمدنا وقصدنا كما روي عن ابن عباس وأخرجه ابن أبـي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبـي حاتم عن مجاهد { إِلَىٰ مَا عَمِلُواْ } في الدنيا { مِنْ عَمَلٍ } فخيم كصلة رحم وإغاثة ملهوف وقرى ضيف ومن على أسير وغير ذلك من مكارمهم ومحاسنهم التي لو كانوا عملوها مع الإيمان لنالوا ثوابها، والجار والمجرور بيان لما وصحة البيان باعتبار التنكير كصحة الاستثناء في { { إِن نَّظُنُّ إِلاَّ ظَنّاً } [الجاثية: 32] لكن التنكير هٰهنا للتفخيم كما أشرنا إليه. وجوز أن يكون للتعميم ودفع ما يتوهم من العهد في الموصول أي عمدنا إلى كل عمل عملوه خال عن الإيمان، ولعل الأول أنسب بقوله تعالى: { فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً } مثل هباء في الحقارة وعدم الجدوى، وهو على ما أخرج عبد الرزاق والفريابـي وابن أبـي حاتم عن علي كرم الله تعالى وجهه وهج الغبار يسطع ثم يذهب. وأخرج ابن أبـي حاتم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه الشرر الذي يطير من النار إذا اضطرمت، وفي رواية أخرى عنه أنه الماء المهراق. وعن يعلى بن عبيد أنه الرماد. وأخرج جماعة عن مجاهد والحسن وعكرمة وأبـي مالك وعامر أنه شعاع الشمس في الكوة وكأنهم أرادوا ما يرى فيه من الغبار كما هو المشهور عند اللغويين، قال الراغب: الهباء دقاق التراب وما انبث في الهواء فلا يبدو إلا في أثناء ضوء الشمس في الكوة ويقال: هبا الغبار يهبو إذا ثار وسطع، ووصف بقوله تعالى: { مَّنثُوراً } مبالغة في إلغاء أعمالهم فإن الهباء تراه منتظماً مع الضوء فإذا حركته الريح تناثر وذهب كل مذهب فلم يكف أن شبه أعمالهم بالهباء حتى جعل متناثراً لا يمكن جمعه والانتفاع به أصلاً، ومثل هذا الإرداف يسمى في البديع بالتتميم والإيغال، ومنه قول الخنساء:

أغر أبلج تأتم الهداة به كأنه علم في رأسه نار

حيث لم يكفها أن جعلته علماً في الهداية حتى جعلته في رأسه نار، وقيل: وصف بالمنثور أي المتفرق لما أن أغراضهم في أعمالهم متفرقة فيكون جعل أعمالهم هباء متفرقاً جزاءً من جنس العمل، وجوز أن يكون مفعولاً بعد مفعول لجعل وهو مراد من قال: مفعولاً ثالثاً لها على معنى جعلناه جامعاً لحقارة الهباء والتناثر، ونظير ذلك قوله تعالى: { { كُونُواْ قِرَدَةً خَـٰسِئِينَ } [البقرة: 65] أي جامعين للمسخ والخسء، وفيه خلاف ابن درستويه حيث لم يجوز أن يكون لكان خبران وقياس قوله: أن يمنع أن يكون لجعل مفعول ثالث، ومع هذا الظاهر الوصفية، وفي الكلام استعارة تمثيلية حيث مثلت حال هؤلاء الكفرة وحال أعمالهم التي عملوها / في كفرهم بحال قوم خالفوا سلطانهم واستعصوا عليه فقدم إلى أشيائهم وقصد إلى ما تحت أيديهم فأفسدها وجعلها شذر مذر ولم يترك لها من عين ولا أثر، واللفظ المستعار وقع فيه استعمال ـ قدم ـ بمعنى عمد وقصد لاشتهاره فيه وإن كان مجازاً كما يشير إليه كلام «الأساس»، ويسمى القصد الموصل إلى المقصد قدوماً لأنه مقدمته، وتضمن التمثيل تشبيه أعمالهم المحبطة بالهباء المنثور بدون استعارة، فلا إشكال على ما قيل، والكلام في ذلك طويل فليطلب من محله.

وجعل بعضهم القدوم في حقه عز وجل عبارة عن حكمه، وقيل: الكلام على حذف مضاف أي قدم ملائكتنا، وأسند ذلك إليه عز وجل لأنه عن أمره سبحانه، ونقل عن بعض السلف أنه لا يؤول في قوله تعالى: { وَجَاء رَبُّكَ } [الفجر: 22] وقوله سبحانه: { { هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ ٱللَّهُ فِي ظُلَلٍ مّنَ ٱلْغَمَامِ } [البقرة: 210] على ما هو عادتهم في الصفات المتشابهة، وقياس ذلك عدم التأويل في الآية، ولعله من هنا قيل: إن تأويل الزمخشري لها بناءً على معتقده من إنكار الصفات، والقلب إلى التأويل فيها أميل. وأنت إن لم تؤول القدوم فلا بد لك أن تؤول جعلها هباءً منثوراً بإظهار بطلانها بالكلية وإلغائها عن درجة الاعتبار بوجه من الوجوه، ولا يأبـى ذلك السلف.