خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَعِبَادُ ٱلرَّحْمَـٰنِ ٱلَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَىٰ ٱلأَرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجَاهِلُونَ قَالُواْ سَلاَماً
٦٣
-الفرقان

روح المعاني

{ وَعِبَادُ ٱلرَّحْمَـٰنِ } كلام مستأنف لبيان أوصاف خلص عباد الله تعالى وأحوالهم الدنيوية والأخروية بعد بيان حال النافرين عن عبادته سبحانه والسجود له عز وجل، وإضافتهم إلى الرحمن دون غيره من أسمائه تعالى وضمائره عز وجل لتخصيصهم برحمته أو لتفضيلهم على من عداهم لكونهم مرحومين منعماً عليهم كما يفهم من فحوى الإضافة إلى مشتق. وفي ذلك أيضاً تعريض بمن قالوا: { وَمَا ٱلرَّحْمَـٰنُ } [الفرقان: 60] والأكثرون أن عباداً هنا جمع عبد، وقال ابن بحر: جمع عابد كصاحب وصحاب وراجل ورجال ويوافقه قراءة اليماني { وعباد } بضم العين وتشديد الباء فإنه جمع عابد بالإجماع وهو على هذا من العبادة وهي أن يفعل ما يرضاه الرب وعلى الأول من العبودية وهي أن يرضي ما يفعله الرب، وقال الراغب: العبودية إظهار التذلل والعبادة أبلغ منها لأنها غاية التذلل. وفرق بعضهم بينهما بأن العبادة فعل المأمورات وترك المنهيات رجاء الثواب والنجاة من العقاب بذلك والعبودية فعل المأمورات وترك المنهيات لا لما ذكر بل لمجرد إِحسان الله تعالى عليه. قيل: وفوق ذلك العبودة وهو فعل وترك ما ذكر لمجرد أمره سبحانه ونهيه عز وجل واستحقاقه سبحانه الذاتي لأن يعظم ويطاع، وإليه الإشارة بقوله تعالى: { { فَصَلّ لِرَبّكَ } [الكوثر: 2] وقرأ الحسن { وعبد } بضم العين والباء وهو كما قال الأخفش جمع عبد كسقف وسقف وأنشد:

أنسب العبد إلى آبائه أسود الجلدة من قوم عبد

وهو على كل حال مبتدأ وفي خبره قولان: الأول أنه ما في آخر السورة الكريمة من الجملة المصدرة باسم الإشارة، والثاني وهو الأقرب أنه قوله تعالى: { ٱلَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَىٰ ٱلأَرْضِ هَوْناً } والهون مصدر بمعنى اللين والرفق. ونصبه إما على أنه نعت لمصدر محذوف أي مشياً هوناً أو على أنه حال من ضمير { يَمْشُونَ } والمراد يمشون هينين في تؤدة وسكينة ووقار وحسن سمت لا يضربون بأقدامهم ولا يخفقون بنعالهم أشراً وبطراً، وروي نحو هذا عن ابن عباس ومجاهد وعكرمة والفصيل بن عياض وغيرهم، وعن الإمام أبي عبد الله رضي الله تعالى عنه أن الهون مشي الرجل بسجيته التي جبل عليها لا يتكلف ولا يتبختر. وأخرج الآمدي في «شرح ديوان الأعشى» بسنده عن عمر رضي الله تعالى عنه أنه رأى غلاماً يتبختر في مشيته فقال له: إن البخترة مشية تكره إلا في سبيل الله تعالى وقد مدح الله تعالى أقواماً بقوله سبحانه: { وَعِبَادُ ٱلرَّحْمَـٰنِ ٱلَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَىٰ ٱلأَرْضِ هَوْناً } فاقصد في مشيتك. وقيل: المشي الهون مقابل السريع وهو مذموم. فقد أخرج أبو نعيم في «الحلية» عن أبـي هريرة وابن النجار عن ابن عباس قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "سرعة المشي تذهب بهاء المؤمن" . وأخرج ابن أبـي حاتم عن ميمون بن مهران إن { هَوْناً } بمعنى حلماء بالسريانية فيكون حالاً لا غير. والظاهر / أنه عربـي بمعنى اللين والرفق. وفسره الراغب بتذلل الإنسان في نفسه لما لا يلحق به غضاضة وهو الممدوح ومنه الحديث "المؤمن هين لين" والظاهر بقاء المشي على حقيقته وأن المراد مدحهم بالسكينة والوقار فيه من غير تعميم. نعم يلزم من كونهم يمشون كذلك أنهم هينون لينون في سائر أمورهم بحكم العادة على ما قيل. واختار ابن عطية أن المراد مدحهم بعدم الخشونة والفظاظة في سائر أمورهم وتصرفاتهم. والمراد أنهم يعيشون بين الناس هينين في كل أمورهم. وذكر المشي لما أنه انتقال في الأرض وهو يستدعي معاشرة الناس ومخالطتهم واللين مطلوب فيها غاية الطلب. ثم قال: وإما أن يكون المراد مدحهم بالمشي وحده هوناً فباطل فكم ماش هوناً رويداً وهو ذئب أطلس. وقد كان صلى الله عليه وسلم يتكفأ في مشيه كأنما يمشي في صبب وهو عليه الصلاة والسلام الصدر في هذه الآية. وفيه بحث من وجهين فلا تغفل. وقرأ اليماني والسلمي { يَمْشُونَ } مبنياً للمفعول مشدداً.

{ وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجَـٰهِلُونَ } أي السفهاء وقليلو الأدب كما في قوله:

ألا لا يجهلن أحد علينا فنجهل فوق جهل الجاهلينا

{ قَالُواْ سَلاَماً } بيان لحالهم في المعاملة مع غيرهم إثر بيان حالهم في أنفسهم أو بيان لحسن معاملتهم وتحقيق للينهم عند تحقق ما يقتضي خلاف ذلك إذا خلي الإنسان وطبعه أي إذا خاطبوهم بالسوء قالوا تسلماً منكم ومتاركة لا خير بيننا وبينكم ولا شر، فسلاماً مصدر أقيم مقام التسليم وهو مصدر مؤكد لفعله المضمر، والتقدير نتسلم تسلماً منكم، والجملة مقول القول. وإلى هذا ذهب سيبويه في «الكتاب» ومنع أن يراد السلام المعروف بأن الآية مكية والسلام في النساء وهي مدنية ولم يؤمر المسلمون بمكة أن يسلموا على المشركين. وقال الأصم: هو سلام توديع لا تحية كقول إبراهيم عليه السلام لأبيه { سَلَـٰمٌ عَلَيْكَ } [مريم: 47] ولا يخفى أنه راجع إلى المتاركة وهو كثير في كلام العرب. وقال مجاهد: المراد قالوا قولاً سديداً. وتعقب بأن هذا تفسير غير سديد لأن المراد هٰهنا يقولون هذه اللفظة لا أنهم يقولون قولاً ذا سداد بدليل قوله تعالى: { { سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ لاَ نَبْتَغِي ٱلْجَاهِلِينَ } [القصص: 55]. ورده صاحب «الكشف» بأن تلك الآية لا تخالف هذا التفسير فإن قولهم { سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ } من سداد القول أيضاً كيف والظاهر أن خصوص اللفظ غير مقصود بل هو أو ما يؤدي مؤداه أيضاً من كل قول يدل على المتاركة مع الخلو عن الإثم واللغو وهو حسن لا غبار عليه.

وفي بعض التواريخ كما في «البحر» أن إبراهيم بن المهدي كان منحرفاً عن علي كرم الله تعالى وجهه فرآه في النوم قد تقدم إلى عبور قنطرة فقال له: إنما تدعي هذا الأمر بامرأة ونحن أحق به منك فحكى ذلك على المأمون ثم قال: ما رأيت له بلاغة في الجواب كما يذكر عنه فقال له المأمون: فما أجابك به قال: كان يقول لي: سلاماً سلاماً فقال المأمون: يا عم قد أجابك بأبلغ جواب ونبهه على هذه الآية فخزي إبراهيم واستحي عليه من الله تعالى ما يستحق، والظاهر أن المراد مدحهم بالإغضاء عن السفهاء وترك مقابلتهم في الكلام ولا تعرض في الآية لمعاملتهم مع الكفرة فلا تنافي آية القتال ليدعي نسخها بها لأنها مكية وتلك مدنية. ونقل عن أبـي العالية واختاره ابن عطية أنها نسخت بالنظر إلى الكفرة بآية القتال.