خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

قَالَ ٱلَّذِي عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ ٱلْكِتَابِ أَنَاْ آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرّاً عِندَهُ قَالَ هَـٰذَا مِن فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِيۤ أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَن شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ
٤٠
-النمل

روح المعاني

{ قَالَ ٱلَّذِى عِندَهُ عِلْمٌ مّنَ ٱلْكِتَـٰبِ } فصله عما قبله للإيذان بما بين القائلين ومقالتيهما وكيفيتي قدرتيهما على الإتيان به من كمال التباين أو لإسقاط الأول عن درجة الاعتبار. واختلف في تعيين هذا القائل فالجمهور ومنهم ابن عباس ويزيد بن رومان والحسن على أنه آصف بن برخيا بن شمعيا بن منكيل، واسم أمه باطورا من بني إسرائيل كان وزير سليمان على المشهور، وفي «مجمع البيان» أنه وزيره وابن أخته وكان صديقاً يعلم الاسم الأعظم، وقيل كان كاتبه. وأخرج ابن أبـي حاتم عن مجاهد أنه رجل اسمه اسطوم، وقيل: اسطورس. وأخرج ابن أبـي حاتم عن زهير بن محمد أنه رجل يقال له ذو النور. وأخرج هو أيضاً عن ابن لهيعة أنه الخضر عليه السلام، وعن قتادة أن اسمه مليخا؛ وقيل: ملخ. وقيل: تمليخا. وقيل: هود. وقالت جماعة هو ضبة بن أد جد بني ضبة من العرب وكان فاضلاً يخدم سليمان كان على قطعة من خيله، وقال النخعي هو جبريل عليه السلام، وقيل: هو ملك آخر أيد الله تعالى به سليمان عليه السلام، وقال الجبائي: هو سليمان نفسه عليه السلام. ووجه الفصل عليه واضح فإن الجملة حينئذٍ مستأنفة استئنافاً بيانياً كأنه قيل: فما قال سليمان عليه السلام حين قال العفريت ذلك؟ فقيل: قال الخ ويكون التعبير عنه بما في النظم الكريم للدلالة على شرف العلم وأن هذه الكرامة كانت بسببه، ويكون الخطاب في قوله: { أَنَاْ ءاتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ } للعفريت وإنما لم يأت به أولاً بل استفهم القوم بقوله: { أَيُّكُمْ يَأْتِينِى بِعَرْشِهَا } [النمل: 38] ثم قال ما قال وأتى به قصداً لأن يريهم أنه يتأتى له ما لا يتهيأ لعفاريت الجن فضلاً عن غيرهم.

وتخصيص الخطاب بالعفريت لأنه الذي تصدى لدعوى القدرة على الإتيان به من بينهم، وجعله لكل أحد كما في قوله تعالى: { ذَلِكَ أَدْنَىٰ أَن لا تَعُولُواْ } [النساء: 3] غير ظاهر بالنسبة إلى ما ذكر. وآثر هذا القول الإمام وقال إنه أقرب لوجوه. الأول: أن الموصول موضوع في اللغة لشخص معين بمضمون الصلة المعلومة عند المخاطب والشخص المعلوم بأن عنده علم الكتاب هو سليمان وقد تقدم في هذ السورة ما يستأنس به لذلك فوجب إرادته وصرف اللفظ إليه وآصف وإن شاركه في مضمون الصلة لكن هو فيه أتم لأنه نبـي وهو أعلم بالكتاب من أمته. الثاني: أن إحضار العرش في تلك الساعة اللطيفة درجة عالية فلو حصلت لأحد من أمته دونه لاقتضى تفضيل ذلك عليه عليه السلام وأنه غير جائز. الثالث: أنه لو افتقر في إحضاره إلى أحد من أمته لاقتضى قصور حاله في أعين الناس. الرابع: أن ظاهر قوله عليه السلام فيما بعد { هَـٰذَا مِن فَضْلِ رَبّى } الخ يقتضي أن ذلك الخارق قد أظهره الله تعالى بدعائه عليه السلام اهـ. وللمناقشة فيه مجال.

واعترض على هذا القول بعضهم بأن الخطاب في { ءاتِيكَ } يأباه فإن حق الكلام عليه أن يقال: أنا آتي به قبل أن يرتد إلى الشخص طرفه مثلاً، وقد علمت دفعه. وبأن المناسب أن يقال فيما بعد - فلما أتى به - دون { فَلَمَّا رَءاهُ } الخ. وأجيب عن هذا بأن قوله ذاك للإشارة إلى أنه لا حول ولا قوة له فيه، ولعل الأظهر أن القائل أحد أتباعه. ولا يلزم من ذلك أنه عليه السلام لم يكن قادراً على الإتيان به / كذلك فإن عادة الملوك تكليف أتباعهم بمصالح لهم لا يعجزهم فعلها بأنفسهم فليكن ما نحن فيه جارياً على هذه العادة، ولا يضر في ذلك كون الغرض مما يتم بالقول وهو الدعاء ولا يحتاج إلى إعمال البدن وإتعابه كما لا يخفى.

وفي «فصوص الحكم» كان ذلك على يد بعض أصحاب سليمان عليه السلام ليكون أعظم لسليمان في نفوس الحاضرين، وقال القيصري: كان سليمان قطب وقته ومتصرفاً وخليفة على العالم وكان آصف وزيره وكان كاملاً وخوارق العادات قلما تصدر من الأقطاب والخلفاء بل من وراثهم وخلفائهم لقيامهم بالعبودية التامة واتصافهم بالفقر الكلي فلا يتصرفون لأنفسهم في شيء، ومن منن الله تعالى عليهم أن يرزقهم صحبة العلماء الأمناء يحملون منهم أثقالهم وينفذون أحكامهم وأقوالهم اهـ، وما في «الفصوص» أقرب لمشرب أمثالنا على أن ما ذكر لا يخلو عن بحث على مشرب القوم أيضاً. وفي «مجمع البيان» روى العياشي بإسناده قال: التقى موسى بن محمد بن علي بن موسى ويحيـى بن أكثم فسأله عن مسائل منها: هل كان سليمان محتاجاً إلى علم آصف؟ فلم يجب حتى سأل أخاه علي بن محمد فقال: اكتب له لم يعجز سليمان عن معرفة ما عرف آصف لكنه عليه السلام أحب أن يعرف أمته من الجن والإنس أنه الحجة من بعده، وذلك من علم سليمان أودعه آصف بأمر الله ففهمه الله تعالى ذلك لئلا يختلف في إمامته كما فهم سليمان في حياة داود لتعرف إمامته من بعده لتأكيد الحجة على الخلق اهـ وهو كما ترى.

والمراد بالكتاب الجنس المنتظم لجميع الكتب المنزلة؛ وقيل: اللوح المحفوظ، وكون المراد به ذلك على جميع الأقوال السابقة في الموصول بعيد جداً، وقيل: المراد به الذي أرسل إلى بلقيس، و(من) ابتدائية وتنكير { عِلْم } للتفخيم والرمز إلى أنه علم غير معهود، قيل: كان ذلك العلم باسم الله تعالى الأعظم الذي إذا سئل به أجاب، وقد دعا ذلك العالم به فحصل غرضه، وهو يا حي يا قيوم، وقيل يا ذا الحلال والإكرام، وقيل الله الرحمن وقيل: هو بالعبرانية آهياً شراهياً. وأخرج ابن جرير وابن أبـي حاتم عن الزهري أنه دعا بقوله: يا إلهنا وإله كل شيء إلهاً واحداً لا إله إلا أنت ائتني بعرشها.

والطرف تحريك الأجفان وفتحها للنظر إلى شيء ثم تجوز به عن النظر وارتداده انقطاعه بانضمام الأجفان ولكونه أمراً طبيعياً غير منوط بالقصد أوثر الارتداد على الرد، فالمعنى آتيك به قبل أن ينضم جفن عينك بعد فتحه، وقيل: لا حاجة إلى اعتبار التجوز في الطرف إذ المراد قبل ارتداد تحريك الأجفان بطبقها بعد فتحها وفيه نظر، والكلام جار على حقيقته وليس من باب التمثيل للسرعة، فقد روي أن آصف قال لسليمان عليه السلام: مد عينيك حتى ينتهي طرفك فمد طرفه فنظر نحو اليمن فقبل أن يرتد إليه حضر العرش عنده. وقيل: هو من باب التمثيل فيحتمل أن يكون قد أتى به في مدة طلوع درجة أو درجتين أو نحو ذلك. وعن ابن جبير وقتادة أن الطرف بمعنى المطروف أي من يقع إليه النظر، وأن المعنى قبل أن يصل إليك من يقع طرفك عليه في أبعد ما ترى إذا نظرت أمامك وهو كما ترى.

{ فَلَمَّا رَءاهُ مُسْتَقِرّاً عِندَهُ } أي فلما / رأى سليمان عليه السلام العرش ساكناً عنده قاراً على حاله التي كان عليها { قَالَ } تلقياً للنعمة بالشكر جرياً على سنن إخوانه الأنبياء عليهم السلام وخلص عباد الله عز وجل { هَـٰذَا } أي الإتيان بالعرش أو حضوره بين يدي في هذه المدة القصيرة، وقيل: أي التمكن من إحضاره بالواسطة أو بالذات { مِن فَضْلِ رَبّى } أي تفضله جل شأنه عليَّ من غير استحقاق ذاتي لي له ولا عمل مني يوجبه عليه سبحانه وتعالى، وفي الكلام حذف أي فأتاه به فرآه فلما رآه الخ وحذف ما حذف للدلالة على كمال ظهوره واستغنائه عن الإخبار به وللإيذان بكمال سرعة الإتيان به كأنه لم يقع بين الوعد به ورؤيته عليه السلام إياه شيء ما أصلاً، وفي تقييد رؤيته باستقراره عنده تأكيد لهذا المعنى لإيهامه أنه لم يتوسط بينهما ابتداء الإتيان أيضاً كأنه لم يزل موجوداً عنده. فمستقراً منتصب على الحال و { عِندَهُ } متعلق به. وهو على ما أشرنا إليه كون خاص ولذا ساغ ذكره. وظن بعضهم أنه كون عام فأشكل عليهم ذكره مع قول جمهور النحاة: إن متعلق الظرف إذا كان كوناً عاماً وجب حذفه فالتزم بعضهم لذلك كون الظرف متعلقاً برآه لا به. ومنهم من ذهب كابن مالك إلى أن حذف ذلك أغلبـي وأنه قد يظهر كما في هذه الآية. وقوله:

لك العز إن مولاك عز وإن يهن فأنت لدى بحبوحة الهون كائن

وأنت تعلم أنه يمكن اعتبار ما في البيت كوناً خاصاً كالذي في الآية.

وفي كيفية وصول العرش إليه عليه السلام حتى رآه مستقراً عنده خلاف. فأخرج ابن أبـي شيبة وابن المنذر وابن عساكر عن ابن عباس أنه قال لم يجر عرش صاحبة سبأ بين السماء والأرض ولكن انشقت به الأرض فجرى تحت الأرض حتى ظهر بين يدي سليمان وإلى هذا ذهب مجاهد وابن سابط وغيرهما. وقيل نزل بين يدي سليمان عليه السلام من السماء وكان عليه السلام إذ ذاك في أرض الشام على ما قيل رجع إليها من صنعاء وبينها وبين مأرب محل العرش نحو من مسافة شهرين. وعلى القول بأنه كان في صنعاء فالمسافة بين محله ومحل العرش نحو ثلاثة أيام. وأياً ما كان فقطعه المسافة الطويلة في الزمن القصير أمر ممكن وقد أخبر بوقوعه الصادق فيجب قبوله. وقد اتفق البر والفاجر على وقوع ما هو أعظم من ذلك وهو قطع الشمس في طرفة عين آلافاً من الفراسخ مع أن نسبة عرش بلقيس إلى جرمها نسبة الذرة إلى الجبل، وقال الشيخ الأكبر قدس سره: إن آصف تصرف في عين العرش فأعدمه في موضعه وأوجده عند سليمان من حيث لا يشعر أحد بذلك إلا من عرف الخلق الجديد الحاصل في كل آن وكان زمان وجوده عين زمان عدمه وكل منهما في آن وكان عين قول آصف عين الفعل في الزمان فإن القول من الكامل بمنزلة كن من الله تعالى. ومسألة حصول العرش من أشكل المسائل إلا عند من عرف ما ذكرناه من الإيجاد والإعدام فما قطع العرش مسافة ولا زويت له أرض ولا خرقها اهـ ملخصاً. وله تتمة ستأتي إن شاء الله تعالى. وما ذكره من أنه كان بالإعدام والإيجاد مما يجوز عندي وإن لم أقل بتجدد الجواهر تجدد الأعراض عند الأشعري إلا أنه خلاف ظاهر الآية. واستدل بها على ثبوت الكرامات. وأنت تعلم أن الاحتمال يسقط الاستدلال.

وعلل عليه السلام تفضله تعالى بذلك عليه بقوله: { لِيَبْلُوَنِى } أي ليعاملني معاملة المبتلى أي المختبر { ءَأَشْكُرُ } على ذلك بأن أراه محض فضله تعالى من غير حول من جهتي / ولا قوة وأقوم بحقه { أَمْ أَكْفُرُ } بأن أجد لنفسي مدخلاً في البين أو أقصر في إقامة مواجبه كما هو شأن سائر النعم الفائضة على العباد، وأخرج ابن المنذر وابن جرير عن ابن جريج أن المعنى ليبلوني أأشكر إذا أتيت بالعرش أم أكفر إذا رأيت من هو أدنى مني في الدنيا أعلم مني، ونقل مثله في «البحر» عن ابن عباس والظاهر عدم صحته، وأبعد منه عن الصحة ما أخرجه ابن أبـي حاتم عن السدي أنه قال لما رآه مستقراً عنده جزع وقال: رجل غيري أقدر على ما عند الله عز وجل مني، ولعل الحق الجزم بكذب ذلك، وجملة { أأشَكَرَ } الخ في موضع نصب على أنها مفعول ثان لفعل البلوى وهو معلق بالهمزة عنها إجراء له مجرى العلم وإن لم يكن مرادفاً له. وقيل: محله النصب على البدل من الياء.

{ وَمَن شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ } أي لنفعها لأنه يربط به القيد ويستجلب المزيد ويحط به عن ذمته عبء الواجب ويتخلص عن وصمة الكفران { وَمَن كَفَرَ } أي لم يشكر { فَإِنَّ رَبّى غَنِىٌّ } عن شكره { كَرِيمٌ } بترك تعجيل العقوبة والإنعام مع عدم الشكر أيضاً، والظاهر أن (من) شرطية والجملة المقرونة بالفاء جواب الشرط، وجوز أن يكون الجواب محذوفاً دل عليه ما قبله من قسيمه والمذكور قائم مقامه أي ومن كفر فعلى نفسه أي فضرر كفرانه عليها. وتعقب بأنه لا يناسب قوله: { كَرِيمٌ } وجوز أيضاً أن تكون (من) موصولة ودخلت الفاء في الخبر لتضمنها معنى الشرط.