خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَتَرَى ٱلْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ ٱلسَّحَابِ صُنْعَ ٱللَّهِ ٱلَّذِيۤ أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ
٨٨
-النمل

روح المعاني

وقوله سبحانه: { وَتَرَى ٱلْجِبَالَ } عطف على { { يُنفَخُ } [النمل: 87] داخل في حكم التذكير؛ وترى من رؤية العين، وقوله تعالى: { تَحْسَبُهَا جَامِدَةً } أي ثابتة في أماكنها لا تتحرك حال من فاعل { تَرَى } أو من مفعوله، وجوز أن يكون بدلاً من سابقه، وقوله عز وجل. { وَهِىَ تَمُرُّ مَرَّ ٱلسَّحَابِ } حال من ضمير { الجبال } في { تحسبها }، وجوز أن يكون حالاً من ضميرها في { جامدة } ومنعه أبو البقاء لاستلزامه أن تكون جامدة ومارة في وقت واحدة أي وترى الجبال رأي العين ساكنة والحال أنها تمر في الجور مر السحاب التي تسيرها الرياح سيراً حثيثاً، وذلك أن الأجرام المجتمعة المتكاثرة العدد على وجه الالتصاق إذا تحركت نحو سمت لا تكاد تبين حركتها، وعليه قول النابغة الجعدي في وصف جيش:

بأرعن مثل الطود تحسب أنهم وقوف لحاج والركاب تهملج

وقيل: شبه مرها بمر السحاب في كونها تسير سيراً وسطاً كما قال الأعشى:

كأن مشيتها من بيت جارتها مر السحائب لا ريث ولا عجل

والمشهور في وجه الشبه السرعة وأن منشأ الحسبان المذكور ما سمعت، وقيل: إن حسبان الرائي إياها جامدة مع مرورها لهول ذلك اليوم فليس له ثبوت ذهن في الفكر في ذلك حتى يتحقق كونها جامدة وليس بذاك وقد أدمج في التشبيه المذكور تشبيه حال الجبال بحال السحاب في تخلخل الأجزاء وانتفاشها كما في قوله تعالى: { { وَتَكُونُ ٱلْجِبَالُ كَٱلْعِهْنِ ٱلْمَنفُوشِ } [القارعة: 5].

واختلف في وقت هذا، ففي «إرشاد العقل السليم» أنه مما يقع بعد النفخة الثانية - كالفزع المذكور - عند حشر الخلق يبدل الله تعالى شأنه الأرض غير الأرض ويغير هيئتها ويسير الجبال عن مقارها على ما ذكر من الهيئة الهائلة ليشاهدها أهل المحشر وهي وإن اندكت وتصدعت عند النفخة الأولى لكن تسييرها وتسوية الأرض إنما يكونان بعد النفخة الثانية كما نطق به قوله تعالى: { { وَيَسْـئَلُونَكَ عَنِ ٱلْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبّى نَسْفاً * فَيَذَرُهَا قَاعاً صَفْصَفاً * لاَّ تَرَىٰ فِيهَا عِوَجاً وَلا أَمْتاً * يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ ٱلدَّاعِىَ } [طه: 105-108]، وقوله سبحانه: { { يَوْمَ تُبَدَّلُ ٱلأَرْضُ غَيْرَ ٱلأَرْضِ وَٱلسَّمَـٰوٰتُ وَبَرَزُواْ للَّهِ ٱلْوَاحِدِ الْقَهَّارِ } [إبراهيم: 48] فإن اتباع الداعي الذي هو إسرافيل وبروز الخلق لله تعالى لا يكونان إلا بعد النفخة الثانية وقد قالوا في تفسير قوله تعالى: { { وَيَوْمَ نُسَيّرُ ٱلْجِبَالَ وَتَرَى ٱلأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَـٰهُمْ } [الكهف: 47] إن صيغة الماضي في المعطوف مع كون المعطوف عليه مستقبلاً للدلالة على تقدم الحشر على التسيير والرؤية كأنه قيل: وحشرناهم قبل ذلك اهـ.

وقال بعضهم إنه مما يقع عند النفخة الأولى وذلك أنه ترجف الأرض والجبال ثم تنفصل الجبال عن الأرض وتسير في الجو ثم تسقط فتصير كثيباً مهيلاً ثم هباءً منبثاً، ويرشد إلى أن هذه الصيرورة مما لا يترتب على الرجفة ولا تعقبها بلا مهلة العطف بالواو دون الفاء في قوله تعالى: { { يَوْمَ تَرْجُفُ ٱلأَرْضُ وَٱلْجِبَالُ وَكَانَتِ ٱلْجِبَالُ كَثِيباً مَّهِيلاً } [المزمل: 14] والتعبير بالماضي في قوله تعالى: { وَتَرَى ٱلأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَـٰهُمْ } [الكهف: 47] لتحقق الوقوع كما مر آنفاً واليوم في قوله تعالى: { { وَيَسْـئَلُونَكَ عَنِ ٱلْجِبَالِ } [طه: 105] الآية، وقوله تعالى: { يَوْمَ تُبَدَّلُ ٱلأَرْضُ } [إبراهيم: 48] الخ يجوز أن يجعل اسماً للحين الواسع الذي يقع فيه ما يكون عند النفخة الأولى من النسف والتبديل وما يكون عند النفخة الثانية من اتباع الداعي والبروز لله تعالى الواحد القهار، وقد حمل اليوم على ما يسع ما يكون عند النفختين في قوله تعالى: { فَإِذَا نُفِخَ فِى ٱلصُّورِ نَفْخَةٌ وٰحِدَةٌ * وَحُمِلَتِ ٱلأَرْضُ وَٱلْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وٰحِدَةً * فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ ٱلْوَاقِعَةُ } [الحاقة: 13-15] { يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ } [الحاقة: 18] وهذا كما تقول جئته عام كذا وإنما مجيئك في وقت من أوقاته وقد ذهب غير واحد إلى أن تبديل الأرض كالبروز بعد النفخة الثانية لما في «صحيح مسلم» "عن عائشة قلت يا رسول الله أرأيت قول الله تعالى { يَوْمَ تُبَدَّلُ ٱلأَرْضُ غَيْرَ ٱلأَرْضِ } [إبراهيم: 48] فأين يكون الناس [يومئذ]؟ قال على الصراط" وجاء في غير خبر ما يدل على أنه قبل النفخة الأولى، وجمع صاحب «الإفصاح» بين الأخبار بأن التبديل يقع مرتين مرة قبل النفخة الأولى وأخرى بعد النفخة الثانية، وحكي في «البحر» أن أول الصفات ارتجاجها ثم صيرورتها كالعهن المنفوش ثم كالهباء بأن تتقطع بعد أن كانت كالعهن ثم نسفها بإرسال الرياح عليها ثم تطييرها بالريح في الجو كأنها غبار ثم كونها سراباً، وهذا كله على ما يقتضيه كلام السفاريني قبل النفخة الثانية، ومن تتبع الأخبار وجدها ظاهرة في ذلك، والآية هنا تحتمل كون الرؤية المذكورة فيها قبل النفخة الثانية وكونها قبلها فتأمل.

{ صُنْعَ ٱللَّهِ } الظاهر أنه مصدر مؤكد لمضمون الجملة السابقة وهي جملة الحال والعامل فيه ما دلت عليه من كون ذلك من صنعه تعالى فكأنه قيل: صنع الله تعالى ذلك صنعاً وهذا نحو له على ألف عرفاً ويسمى في اصطلاحهم المؤكد لنفسه وإلى هذا ذهب الزجاج وأبو البقاء. وقال بعض المحققين: مؤكد لمضمون ما قبله على أنه عبارة عما ذكر من النفخ في الصور وما ترتب عليه جميعاً قصد به التنبيه على عظم شأن تلك الأفاعيل وتهويل أمرها والإيذان بأنها ليست بطريق إخلال نظام العالم وإفساد أحوال الكائنات بالكلية من غير أن يكون فيه حكمة بل هي من قبيل بدائع صنع الله تعالى المبنية على أساس الحكمة المستتبعة للغايات الجميلة التي لأجلها رتبت مقدمات الخلق ومبادي الإبداع على الوجه المتين والنهج الرصين كما يعرب عنه قوله تعالى: { ٱلَّذِى أَتْقَنَ كُلَّ شَىْء } أي أتقن خلقه وسواه على ما تقتضيه الحكمة اهـ، وحسنه ظاهر.

وقال الزمخشري هو من المصادر المؤكدة إلا أن مؤكده محذوف وهو الناصب لـِ { { وَيَوْمَ يُنفَخُ } [النمل: 87] والمعنى ويوم ينفخ في الصور فكان كيت وكيت أثاب الله تعالى المحسنين وعاقب المجرمين ثم قال سبحانه: { صنع الله } يريد / عز وجل به الإثابة والمعاقبة إلى آخر ما قال، وهو يدل على أنه فرض اليوم ممتداً شاملاً لزمان النفختين وما بعدهما وجعل المصدر مؤكداً لهذا المحذوف المدلول عليه بالتفصيل في قوله تعالى الآتي: { { وَمَن جَاء } [النمل: 89] { { وَمَن جَاء } [النمل: 90 ] وباستدعاء { { وَيَوْمَ يُنفَخُ } [النمل: 87] ناصباً وفرع عليه ما فرع وتعقبه أبو حيان بأن المصدر المؤكد لمضمون الجملة لا يجوز حذف جملته لأنه منصوب بفعل من لفظه فيجتمع حذف الفعل الناصب وحذف الجملة التي أكد مضمونها بالمصدر وذلك حذف كثير مخل ومن تتبع مساق هذه المصادر التي تؤكد مضمون الجملة وجد الجمل مصرحاً بها لم يرد الحذف في شيء منها إذ الأصل أن لا يحذف المؤكد إذ الحذف ينافي التأكيد لأنه من حيث أكد معتنى به ومن حيث حذف غير معتنى به، وكأن الداعي له إلى العدول عن الظاهر على ما قيل أن الصنع المتقن لا يناسب تسيير الجبال ظاهراً وأنت تعلم أن هذا على طرف الثمام نعم الأحسن جعله مؤكداً لمضمون ما ذكر من النفخ في الصور وما بعده وجىء به للتنبيه على عظم شأن تلك الأفاعيل على ما سمعته عن بعض المحققين. وقيل هو منصوب على الإغراء بمعنى انظروا صنع الله وهو كما ترى.

واستدل بالآية على جواز إطلاق الصانع على الله عز وجل وهو مبني على مذهب من يرى أن ورود الفعل كاف. واستدل بعضهم على الجواز المذكور بالخبر الصحيح "إن الله صانع كل صانع وصنعته" وتعقب بأن الشرط أن لا يكون الوارد على جهة المقابلة نحو { { أأنتم تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ ٱلزارِعُونَ } [الواقعة: 64] خلافاً للحليمي على ما يقتضيه قوله يستحب لمن ألقى بذراً في أرض أن يقول الله تعالى الزارع والمنبت والمبلغ، وما في هذا الحديث من هذا القبيل وأيضاً ما في الخبر بالإضافة فلا يدل على جواز الخالي عنها ألا ترى أن "قوله صلى الله عليه وسلم يا صاحب كل نجوى أنت الصاحب في السفر" لم يأخذوا منه أن الصاحب من غير قيد من أسمائه تعالى فكذا هو لا يؤخذ منه أن الصانع من غير قيد من أسمائه تعالى فتأمله، ونحو هذا الاستدلال بخبر مسلم "ليعزم في الدعاء فإن الله تعالى صانع ما شاء لا مكره له" فإن ما فيه من قبيل المضاف أو المقيد والأولى الاستدلال بما صح في حديث الطبراني والحاكم "اتقوا الله تعالى فإن الله تعالى فاتح لكم وصانع" ولا فرق بين المعرف والمنكر عند الفقهاء لأن تعريف المنكر لا يغير معناه ولذا يجوزون في تكبيرة الإحرام: الله الأكبر.

واستدل القاضي عبد الجبار بعموم قوله سبحانه: { أَتْقَنَ كُلَّ شَىْء } على أن قبائح العبد ليست من خلقه سبحانه وإلا وجب وصفها بأنها متقنة والإجماع مانع منه وأجيب بأن الآية مخصوصة بغير الأعراض لأن الإتقان بمعنى الإحكام وهو من أوصاف المركبات ولو سلم فوصف كل الأعراض به ممنوع فما من عام إلا وقد خص ولو سلم فالإجماع المذكور ممنوع بل هي متقنة أيضاً بمعنى أن الحكمة اقتضتها.

{ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ } جعله بعض المحققين تعليلاً لكون ما ذكر من النفخ في الصور وما بعده صنعاً محكماً له تعالى ببيان أن علمه تعالى بظواهر أفعال المكلفين وبواطنها مما يستدعي إظهارها وبيان كيفياتها على ما هي عليه من الحسن والسوء وترتيب أجزيتها عليها بعد بعثهم وحشرهم وتسيير الجبال حسبما نطق به التنزيل.