خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

أَحَسِبَ ٱلنَّاسُ أَن يُتْرَكُوۤاْ أَن يَقُولُوۤاْ آمَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ
٢
-العنكبوت

روح المعاني

{ أَحَسِبَ ٱلنَّاسُ } إلى آخر السورة صح فلا يقال أيضاً إن المانع منه عدم صحة ارتباطه بما قبله معنى. نعم الارتباط خلاف الظاهر، والاستفهام للإنكار، والحسبان مصدر كالغفران مما يتعلق بمضامين الجمل لأنه من الأفعال الداخلة على المبتدأ والخبر وذلك للدلالة على وجه ثبوتها في الذهن أو في الخارج من كونها مظنونة أو متيقنة فتقتضي مفعولين أصلهما المبتدأ والخبر أو ما يسد مسدهما وقد سد مسدهما هنا على ما قاله الحوفي وابن عطية وأبو البقاء: قوله تعالى: { أَن يُتْرَكُواْ } وسد (أن) المصدرية الناصبة للفعل مع مدخولها مسد الجزأين مما قاله ابن مالك، ونقله عنه الدماميني في «شرح التسهيل»، وزعم بعضهم أن ذلك إنما هو في أن المفتوحة مشددة ومثقلة مع مدخولها، والترك هنا على ما ذكره الزمخشري بمعنى التصيير المتعدي لمفعولين كما في قوله تعالى: { وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَـٰتٍ لاَّ يُبْصِرُونَ } [البقرة: 17] وقول الشاعر:

فتركته جزر السباع ينشنه يقضمن قلة رأسه والمعصم

فضمير الجمع نائب مفعول أول والمفعول الثاني متروك بدلالة الحال الآتية أي كما هم أو على ما هم عليه كما في قوله تعالى: { أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تُتْرَكُواْ وَلَمَّا يَعْلَمِ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ جَـٰهَدُواْ مِنكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُواْ } [التوبة: 16] على ما قدره الزمخشري فيه وقوله سبحانه: { أَن يَقُولُواْ ءَامَنَّا } بمعنى لأن يقولوا متعلق بيتركوا على أنه غير مستقر، وقوله تعالى: { وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ } في موضع الحال من ضمير { يتركوا }، ويجوز أن لا يعتبر كون المفعول الثاني ليتركوا متروكاً بل تجعل هذه الجملة الحالية سادة مسده، ألا ترى أنك لو قلت: علمت ضربـي زيداً قائماً صح، على أن ترك ليس كأفعال القلوب في جميع الأحكام، بل القياس أن يجوز الاكتفاء فيه بالحال من غير نظر إلى أنه قائم مقام الثاني لأن قولك: تركته وهو جزر السباع كلام صحيح كما تقول أبقيته على هذه الحالة، وهو نظير سمعته يتحدث في أنه يتم بالحال بعده أو الوصف، وهٰهنا زاد أنه يتم أيضاً بما يجري مجرى الخبر، وجوز أن تكون هذه الجملة هي المفعول الثاني لا سادة مسده وتوسط الواو بين المفعولين جائز كما في قوله:

وصيرني هواك وبـي لحيني يضرب المثل

وقد نص شارح أبيات «المفصل» على أنه حكي عن الأخفش أنه كان يجوز كان زيد وأبوه قائم على نقصان كان وجعل الجملة خبراً مع الواو تشبيهاً لخبر كان بالحال فمتى جاز في الخبر عنده فليجز في المفعول الثاني وهو كما نرى، واستظهر الطيبـي كون الترك هنا متعدياً لواحد على أنه بمعنى التخلية وليس بذاك، وجوز الحوفي. وأبو البقاء أن يكون { أَن يَقُولُواْ } بدلاً من { أن يتركوا } وجوز أن يكون { أَن يُتْرَكُواْ } هو المفعول الأول لحسب و { هُمْ لا يُفْتَنُونَ } في موضع الحال من الضمير { أَِن يَقُولُواْ } بتقدير اللام هو المفعول الثاني، وكونه علة لا ينافي ذلك كما في قولك: حسبت ضربه للتأديب، والتقدير أحسب الناس تركهم غير مفتونين لقولهم: آمنا، والمفعول الثاني ليتركوا متروك بدلالة الحال.

واعترضه صاحب «التقريب» بما حاصله أن الحسبان لتعلقه بمضامين الجمل إذا أنكر يكون باعتبار المفعول الثاني، فإذا قلت: أحسبته قائماً؟ فالمنكر حسبان قيامه، كذلك إذا قيل: أحسب الناس تركهم غير مفتونين لقولهم آمنا أفاد إنكار حسبان أن الترك غير مفتونين لهذه العلة بل إنما هو لعلة أخرى ولا يلائم سبب النزول ولا مقصود الآية. واختار أن يكون { أَن يُتْرَكُواْ } ساداً مسد المفعولين و { أَن يَقُولُواْ } علة للحسبان أي أحسبوا لقولهم آمنا / أن يتركوا غير مفتونين، وأجيب بأن أصل الكلام ألا يفتنون لقولهم { آمنا } على إنكار أن يكون سبباً لعدم الفتن، ثم قيل: أيتركون غير مفتونين لقولهم آمنا مبالغة في إنكار أن يبقوا من غير فتن لذلك ثم أدخل على حسبان الترك مبالغة على مبالغة، وإنما يرد ما أورد إذا لم يلاحظ أصل الكلام ويجعل مصب الإنكار الحسبان من أول الأمر. وقيل: إنما يلزم ما ذكر لو لم يقدر أحسبوا تركهم غير مفتونين بمجرد قولهم: آمنا دون إخلاص وعمل صالح أما لو قدر ذلك استقام كما صرح به الزجاج، على أن ذلك مبني على اعتبار المفهوم، واعترض ذلك بعضهم من حيث اللفظ بأن فيه الفصل بين الحال وذيها بثاني مفعولي حسب وهو أجنبـي؛ وأجيب بأن الفصل غير ممتنع بل الأحسن أن لا يقع فصل إلا إذا اعترض ما يوجبه، وهٰهنا الاهتمام بشأن الخبر حسن التقديم لأن مصب الإنكار ذلك، ولا يخفى أنه يحتاج إلى مثل هذا الجواب على ما يقتضيه الظاهر من جعل { أَن يُتْرَكُواْ } في تأويل مصدر وقع مفعولاً أولاً { أَن يَقُولُواْ } في تأويل مصدر أيضاً مجرور بلام مقدرة والجار والمجرور في موقع المفعول الثاني، وأما على ما ذكره بعض المحققين من أنهما لم يجعلا كذلك وإنما جعل { أَن يَقُولُواْ } معمولاً ليتركوا بتقدير اللام وجعل { أَن يُتْرَكُواْ } ساداً مسد المفعولين واقتضى المعنى أن يقال أحسب الناس تركهم غير مفتونين لقولهم آمنا بجعل تركهم مفعولاً أولاً ولقولهم مفعولاً ثانياً فلا يحتاج إليه لأنه إن جرينا مع اللفظ كان { أَن يُتْرَكُواْ } ساداً مسد المفعولين فلا يكون فيه مفعول ثان فاصل بين الحال وذيها وإن جرينا مع المعنى واعتبرنا الكلام مجرداً عن { أن } المصدرية وجىء به كما سمعت كانت الحال متصلة بذيها، وقيل: يجوز أن يكون المفعول الأول لحسب محذوفاً أي أحسب الناس أنفسهم و { أَن يُتْرَكُواْ } في موضع المفعول الثاني على أنه في تأويل مصدر وهو في تأويل اسم المفعول أي متروكين { وهم لا يفتنون } في موضع الحال كما تقدم وأن يؤمنوا بتقدير لأن يؤمنوا متعلق بيتركوا فكأنه قيل: أحسب الناس أنفسهم متروكين غير مفتونين لقولهم آمنا، وقيل: إن هذا المعنى حاصل على تقدير سد { أَن يُتْرَكُواْ } مسد المفعولين فتأمل فيه وفيما قبله، ولعل الأبعد عن التكلف ما ذكرناه أولاً، والمراد إنكار حسبانهم أن يتركوا غير مفتونين بمجرد أن يقولوا آمنا واستبعاد له له وتحقيق أنه تعالى يمتحنهم بمشاق التكاليف كالمهاجرة والمجاهدة ورفض الشهوات ووظائف الطاعات وفنون المصائب في الأنفس والأموال ليتميز المخلص من المنافق والراسخ في الدين من المتزلزل فيه فيعامل كل بما يقتضيه ويجازيهم سبحانه بحسب مراتب أعمالهم فإن مجرد الإيمان وإن كان عن خلوص لا يقتضي غير الخلاص من الخلود في النار. وذكر بعضهم أنه سبحانه لو أثاب المؤمن يوم القيامة من غير أن يفتنه في الدنيا لقال الكافر المعذب: ربـي لو أنك كنت فتنته في الدنيا لكفر مثلي فإيمانه الذي تثيبه عليه مما لا يستحق الثواب له فبالفتنة يلجم الكافر عن مثل هذا القول ويعوض المؤمن بدلها ما يعوض بحيث يتمنى لو كانت فتنته أعظم مما كانت.

والآية على ما أخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبـي حاتم عن الشعبـي نزلت في أناس كانوا بمكة قد أقروا بالإسلام فكتب إليهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة لما نزلت آية الهجرة أنه لا يقبل منكم إقرار ولا إسلام حتى تهاجروا فخرجوا عامدين إلى المدينة فاتبعهم المشركون فردوهم فنزلت فيهم هذه الآية فكتبوا إليهم أنزلت فيكم آية كذا وكذا فقالوا: نخرج فإن اتبعنا أحد قاتلناه فخرجوا فاتبعهم المشركون فقاتلوهم / فمنهم من قتل ومنهم من نجا فأنزل الله تعالى فيهم { ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُواْ مِن بَعْدِ مَا فُتِنُواْ ثُمَّ جَـٰهَدُواْ وَصَبَرُواْ إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ } [النحل: 110]. وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج قال سمعت ابن عمير وغيره يقولون: كان أبو جهل يعذب عمار بن ياسر وأمه ويجعل على عمار درعاً من حديد في اليوم الصائف وطعن في فرج أمه برمح ففي ذلك نزلت { أَحَسِبَ ٱلنَّاسُ } الخ، وقيل: نزلت في مهجع مولى عمر بن الخطاب قتل ببدر فجزع عليه أبواه وامرأته وقال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم: "سيد الشهداء مهجع وهو أول من يدعى إلى باب الجنة" ، وقيل: نزلت في عياش أخي أبـي جهل غدر وعذب ليرتد كما سيأتي خبره إن شاء الله تعالى، وفسر الناس بمن نزلت فيهم الآية، وقال الحسن الناس هنا المنافقون.