خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَقَالَ إِنَّمَا ٱتَّخَذْتُمْ مِّن دُونِ ٱللَّهِ أَوْثَاناً مَّوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً وَمَأْوَاكُمُ ٱلنَّارُ وَمَا لَكُمْ مِّن نَّاصِرِينَ
٢٥
-العنكبوت

روح المعاني

{ وَقَالَ } إبراهيم عليه السلام مخاطباً لهم بعد أن أنجاه الله تعالى من النار. { إِنَّمَا ٱتَّخَذْتُمْ مّن دُونِ ٱللَّهِ أَوْثَـٰناً مَّوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي ٱلْحَيَٰوةِ ٱلدُّنْيَا } أي لتتوادوا بينكم وتتواصلوا لاجتماعكم على عبادتها واتفاقكم عليها وائتلافكم كما يتفق الناس على مذهب فيكون ذلك سبب تحابهم وتصادقهم، فالمفعول له غاية مترتبة على الفعل ومعلول له في الخارج، أو المعنى إن مودة بعضكم بعضاً هي التي دعتكم إلى اتخاذها بأن رأيتم بعض من تودّونه اتخذها فاتخذتموها موافقة له لمودتكم إياه، وهذا كما يرى الإنسان من يوده يفعل شيئاً فيفعله مودّة له، فالمفعول له على هذا علة باعثة على الفعل وليس معلولاً له في الخارج، والمراد نفي أن يكون فيها نفع أو ضر وأن الداعي لاتخاذها رجاء النفع أو خوف الضر، وكأنه لم يعتبر ما جعلوه علة لاتخاذها علة وهو ما أشاروا إليه في قولهم: { { مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرّبُونَا إِلَى ٱللَّهِ زُلْفَى } [الزمر: 3] للإشارة إلى أن ذلك لكونه أمراً موهوماً لا حقيقة له مما لا ينبغي أن يكون علة باعثة وسبباً حاملاً لمن له أدنى عقل. وقال بعضهم: يجوز أن يكون المخاطبون في هذه الآية أناساً مخصوصين، والقائلون: { مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرّبُونَا إِلَى ٱللَّهِ زُلْفَى } أناساً غيرهم، وقيل: إنّ الأوثان أول ما اتخذت بسبب المودة، وذلك أنه كان أناس صالحون فماتوا وأسف عليهم أهل زمانهم فصورا حجاراً بصورهم حباً لهم فكانوا يعظمونها في الجملة ولم يزل تعظيمها يزداد جيلاً فجيلاً حتى عبدت، فالآية إشارة إلى ذلك، والمعنى إنما اتخذ أسلافكم من دون الله أوثاناً الخ، ومثله في القرآن الكريم كثير.

وثاني مفعولي { اتخذتم } محذوف تقديره آلهة. وقال مكي: يجوز أن يكون اتخذ متعدياً إلى مفعول واحد كما في قوله تعالى: { إِنَّ ٱلَّذِينَ ٱتَّخَذُواْ ٱلْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ } [الأعراف: 152] ورد بأنه مما حذف مفعوله الثاني أيضاً، وجوز أن يكون { مودة } هو المفعول الثاني بتقدير مضاف أي ذات مودة وكونها ذات مودة باعتبار كونها سبب المودة، وظاهر كلام الكشاف أن المضاف المحذوف / هو لفظ سبب، وقد يستغنى عن التقدير بتأويل مودة بمودودة، أو بجعلها نفس المودة مبالغة، واعترض جعل { مودة } المفعول الثاني بأنه معرفة بالإضافة إلى المضاف إلى الضمير والمفعول الأول نكرة وذلك غير جائز لأنهما في الأصل مبتدأ وخبر. وأجيب بأنه لا يلزم من غير جواز ذلك في أصلهما عدم جوازه فيهما، وإذا سلم اللزوم فلا يسلم كون المفعول الثاني هنا معرفة بالإضافة لما أنها على الاتساع فهي من قبيل الإضافة اللفظية التي لا تفيد تعريفاً وإنما تفيد تخفيفاً في اللفظ، كذا قيل وهو كما ترى.

وقرأ نافع وابن عامر وأبو بكر { مَّوَدَّةَ } بالنصب والتنوين بينكم بالنصب، والوجه أن مودة منصوب على أحد الوجهين السابقين و { بَيْنِكُمْ } منصوب به أو بمحذوف وقع صفة له، وابن كثير وأبو عمرو والكسائي ورويس { مودَّةُ بَيْنِكُمْ } برفع مودة مضافة إلى بين وخفض بين بالإضافة، وخرج الرفع على أن مودة خبر مبتدأ محذوف أي هي مودة على أحد التأويلات المعروفة؛ والجملة صفة { أوثاناً }، وجوز كونها المفعول الثاني أو على أنها خبر إن على أن ما مصدرية، أي إن اتخاذكم، أو موصولة قد حذف عائدها وهو المفعول الأول، أي إن الذي اتخذتموه من دون الله أوثاناً مودة بينكم، ويجري فيه التأويلات التي أشرنا إليها. وقرأ الحسن وأبو حيوة وابن أبـي عبلة وأبو عمرو في رواية الأصمعي والأعشى عن أبـي بكر { مودّةٌ } بالرفع والتنوين { بَيْنَكُم } بالنصب، ووجه كل معلوم مما مر. وروي عن عاصم { مودةُ } بالرفع من غير تنوين و { بَيْنَكم } بفتح النون، جعله مبنياً لإضافته إلى لازم البناء فمحله الجر بإضافة مودة إليه، ولذا سقط التنوين منها.

وفي قوله تعالى: { فِي ٱلْحَيَـٰوةِ ٱلدُّنْيَا } على هذه القراءات والأوجه فيها أوجه من الإعراب ذكرها أبو البقاء. الأول: أن يتعلق باتخذتم على جعل (ما) كافة ونصب (مودة) لا على جعلها موصولة أو مصدرية، ورفع مودة لئلا يؤدي إلى الفصل بين الموصول وما في حيز الصلة بالخبر. الثاني: أن يتعلق بنفس مودة إذا لم يجعل بين صفة لها بناءً على أن المصدر إذا وصف لا يعمل مطلقاً، وأجاز ابن عطية هذا التعلق وإن جعل بين صفة لما أنه يتسع بالظرف ما لم يتسع في غيره، فيجوز عمل المصدر به بعد الوصف. الثالث: أن يتعلق بنفس { بينكم } لأن معناه اجتماعكم أو وصلكم. الرابع: أن يجعل حالاً من بينكم لتعرفه بالإضافة. وتعقب أبو حيان هذين الوجهين بعد نقلهما عن أبـي البقاء كما ذكرنا بأنهما إعرابان لا يتعقلان. الخامس: أن يجعل صفة ثانية لمودة إذا نونت وجعل { بينكم } صفة لها، وأجاز ذلك مكي وأبو حيان أيضاً. السادس: أن يتعلق بمودة ويجعل { بينكم } ظرفاً متعلقاً بها أيضاً، وعمل (مودة) في ظرفين لاختلافهما. السابع: أن يجعل حالاً من الضمير في { بينكم } إذا جعل وصفاً لمودة والعامل الظرف لأن العامل في ذي الحال هو العامل في الحال، ولا يجوز أن يكون العامل مودة لذلك. وقال مكي: لأنك قد وصفتها ومعمول المصدر متصل به فيكون قد فرقت بين الصلة والموصول بالصفة. وعن ابن مسعود أنه قرأ { إِنَّمَا ٱتَّخَذْتُمْ مّن دُونِ ٱللَّهِ أَوْثَـٰناً إِنَّمَا مَّوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِى ٱلْحَيَٰوةِ ٱلدُّنْيَا } بزيادة { إِنَّمَا } بعد أوثاناً ورفع { مودة } بلا تنوين وجر بين بالإضافة وخرجت على أن مودة مبتدأ و{ في الحياة الدنيا } خبره، والمعنى إنما توادكم عليها أو مودتكم إياها كائن أو كائنة في الحياة الدنيا.

{ ثُمَّ يَوْمَ ٱلْقِيَـٰمَةِ } يتبدل الحال حيث { يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ } وهم العبدة { بِبَعْضِ } وهم الأوثان { وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً } أي يلعن كل فريق منكم ومن الأوثان حيث ينطقها الله تعالى الفريق / الآخر، وفيه تغليب الخطاب وضمير العقلاء، وجوز أن يكون الخطاب للعبدة لا غير، والمراد بكفر بعضهم ببعض التناكر أي ثم يوم القيامة يظهر التناكر والتلاعن بينكم أيتها العبدة للأوثان. { وَمَأْوَاكُمُ ٱلنَّارُ } أي هي منزلكم الذي تأوون إليه ولا ترجعون منه أبداً. { وَمَا لَكُمْ مّن نَّـٰصِرِينَ } يخلصونكم منها كما خلصني ربـي من النار التي ألقيتموني فيها، وجمع الناصرين لوقوعه في مقابلة الجمع، أي ما لأحد منكم من ناصر أصلاً.