خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

ٱتْلُ مَا أُوْحِيَ إِلَيْكَ مِنَ ٱلْكِتَابِ وَأَقِمِ ٱلصَّلاَةَ إِنَّ ٱلصَّلاَةَ تَنْهَىٰ عَنِ ٱلْفَحْشَآءِ وَٱلْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ ٱللَّهِ أَكْبَرُ وَٱللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ
٤٥
-العنكبوت

روح المعاني

{ ٱتْلُ مَا أُوْحِىَ إِلَيْكَ مِنَ ٱلْكِتَـٰبِ } أي دم على تلاوة ذلك تقرباً إلى الله تعالى بتلاوته وتذكراً لما في تضاعيفه من المعاني وتذكيراً للناس وحملاً لهم على العمل بما فيه من الأحكام ومحاسن الآداب ومكارم الأخلاق { وَأَقِمِ ٱلصَّلَٰوةَ } أي داوم على إقامتها، وحيث كانت الصلاة منتظمة للصلوات المكتوبة المؤداة بالجماعة وكان أمره صلى الله عليه وسلم بإقامتها متضمناً لأمر الأمة بها علل بقوله تعالى: { إِنَّ ٱلصَّلاَةَ تَنْهَىٰ عَنِ ٱلْفَحْشَآءِ وَٱلْمُنْكَرِ } كأنه قيل: وصل بهم إن الصلاة تنهاهم عن الفحشاء والمنكر، ومعنى نهيها إياهم عن ذلك أنها لتضمنها صنوف العبادة من التكبير والتسبيح والقراءة والوقوف بين يدي الله عز وجل والركوع والسجود له سبحانه الدال على غاية الخضوع والتعظيم كأنها تقول لمن يأتي بها لا تفعل الفحشاء والمنكر ولا تعص رباً هو أهل لما أتيت به، وكيف يليق بك أن تفعل ذلك وتعصيه عز وجل وقد أتيت مما يدل على عظمته تعالى وكبريائه سبحانه من الأقوال والأفعال بما تكون به أن عصيت وفعلت الفحشاء أو المنكر كالمتناقض في أفعاله، وبما ذكر ينحل الأشكال المشهور وهو أنا نرى كثيراً من المرتكبين للفحشاء والمنكر يصلون ولا ينتهون عن ذلك، فإن نهيها إياهم عن الفحشاء والمنكر بهذا المعنى لا يستلزم انتهاءهم، ألا ترى أن الله تعالى ينهى عن ذلك أيضاً كما قال سبحانه: { { إِنَّ ٱللَّهَ يَأْمُرُ بِٱلْعَدْلِ وَٱلإِحْسَانِ وَإِيتَآء ذِى ٱلْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ ٱلْفَحْشَاء وَٱلْمُنْكَرِ وَٱلْبَغْى } [النحل: 90] والناس لا ينتهون وليس نهي الصلاة بأعظم من نهيه سبحانه وتعالى، فإذا لم يكن هناك استلزام فكيف يكون هنا. وما أرى هذا الإشكال إلا مبنياً على توهم استلزام النهي للانتهاء، وهو توهم باطل وتخيل عاطل لا يشهد له عقل ولا يؤيده نقل.

ونقل أبو حيان عن ابن عباس والكلبـي وابن جريج وحماد بن أبـي سليمان أن الصلاة تنهى عن ذلك ما دام المصلي فيها، وكأنهم أرادوا أنها كالناهية للمصلي القائلة له لا تفعل ذلك ما دام فيها لأنه إذا فرغ منها فقد انقطعت الأقوال والأفعال التي كان النهي بما تدل عليه من العظمة والكبرياء. ونقل عن القطب أنه قال في جواب الإشكال: إن الصلاة تقام لذكر الله تعالى كما قال عز من قائل: { أَقِمِ ٱلصَّلَٰوةَ لِذِكْرِى } [طه: 14] ومن كان ذاكراً لله عز وجل منعه ذلك عن / الإتيان بما يكرهه منه تعالى مما قل أو كثر وكل من تراه يصلي ويأتي الفحشاء والمنكر فهو بحيث لو لم يكن يصلي لكان أشد اتياناً فقد أثرت الصلاة في تقليل فحشائه ومنكره، وهو كما ترى، وقيل: إن المراد أن الصلاة سبب للانتهاء عن ذلك، وليس هذا كلياً لما أن الصلاة في حكم النكرة وهي في الإثبات لا يجب أن تعم فينحل الإشكال، وعلى ما قلنا لا يضر دعوى الكلية. نعم النهي الذي ذكرناه يتفاوت بحسب تفاوت أداء الصلاة فهو في صلاة أديت على أتم ما يكون من الخشوع والتدبر لما يتلى فيها مع الاتيان بفروضها وواجباتها وسننها وآدابها على أحسن أحوالها أتم، وقد يضعف النهي فيها حتى كأنها لا تنهى كما في الصلاة التي تؤدى مع الغفلة التامة والإخلال بما يليق فيها وهي الصلاة المردودة التي تلف كما يلف الثوب الخلق ويرمى بها وجه صاحبها فتقول له: ضيعك الله تعالى كما ضيعتني، وكأن مراد القائل: إن المراد بالصلاة التي تنهى عما ذكر هي الصلاة المقبولة هو هذا.

وقد يجعل الانتهاء علامة القبول. روى بعض الإمامية عن أبـي عبد الله رضي الله تعالى عنه أنه قال: من أحب أن يعلم قبلت صلاته أم لم تقبل فلينظر هل منعته عن الفحشاء والمنكر فبقدر ما منعته قبلت منه، وأخرج عبد بن حميد وابن جرير والبيهقي في «شعب الإيمان» عن الحسن قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "مَنْ لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر فلا صلاة له" وفي لفظ "لم يزدد بها من الله تعالى إلا بعداً" وأخرجه بهذا اللفظ ابن أبـي حاتم والطبراني وابن مردويه عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما مرفوعاً. وأخرج ابن أبـي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبـي حاتم والبيهقي عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه أنه قيل له: إن فلاناً يطيل الصلاة فقال: إن الصلاة لا تنفع إلا من أطاعها ثم قرأ { إِنَّ ٱلصَّلاَةَ تَنْهَىٰ عَنِ ٱلْفَحْشَآءِ وَٱلْمُنْكَرِ } وقد يتفق لمن يكثر الصلاة أن تقع بعض صلاته على الوجه اللائق فتقبل لطفاً من الله تعالى وكرماً، ويظهر أثر ذلك بالانتهاء عن المعاصي، ويشير إلى هذا ما أخرج أحمد وابن حبان والبيهقي "عن أبـي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: جاء رجل إلى النبـي صلى الله عليه وسلم فقال: إن فلاناً يصلي بالليل فإذا أصبح سرق قال سينهاه ما تقول" وأصرح منه فيما ذكرنا ما روي "أن فتى من الأنصار كان يصلي مع النبـي صلى الله عليه وسلم الصلاة ولا يدع شيئاً من الفواحش إلا ركبه فوصف له، فقال عليه الصلاة والسلام: إن صلاته ستنهاه فلم يلبث إلا أن تاب" . إلا أن ابن حجر ذكر فيه أنه لم يجده في كتب الحديث.

ثم إن حمل الصلاة في الآية على الصلاة المعروفة هو الظاهر المؤيد بالآثار والأخبار الصحيحية، وأخرج ابن جرير عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أن المراد بها هنا القرآن، وقال ابن بحر: إن المراد بها الدعاء أي أقم الدعاء إلى أمر الله تعالى إن الدعاء إلى أمره سبحانه ينهى عن الفحشاء والمنكر، وكل منهما عدول عن الظاهر من غير داع. وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن الربيع بن أنس أنه كان يقرأ { إن الصلاة تأمر بالمعروف وتنهى عن الفحشاء والمنكر }.

{ وَلَذِكْرُ ٱللَّهِ أَكْبَرُ } قال ابن عباس وابن مسعود وابن عمر وأبو قرة ومجاهد وعطية: المعنى لذكر الله تعالى إياكم أكبر من ذكركم إياه سبحانه، وفي لفظ لذكر الله تعالى العبد أكبر من ذكر العبد لله تعالى، وعن ابن عباس أنه قال ذلك ثم قرأ { ٱذْكُرُونِى أَذْكُرْكُمْ } [البقرة: 152]. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن أبـي مالك أنه قال: ذِكْرُ الله تعالى العبد في الصلاة أكبر من الصلاة، فذكر مصدر مضاف إلى الفاعل والمفعول محذوف وكذا المفضل عليه وهو خاص على ما سمعت، وجوز / أن يكون عاماً أي أكبر من كل شيء، وقيل: المعنى ولذكر العبد لله تعالى في الصلاة أكبر من سائر أركان الصلاة، وقيل: أي ولذكر العبد لله تعالى في الصلاة أكبر من ذكره إياه سبحانه خارج الصلاة، وقيل: أي ولذكر العبد لله تعالى أكبر من سائر أعماله، وروي عن جماعة من السلف ما يقتضيه. أخرج أحمد في «الزهد» وابن المنذر عن معاذ بن جبل قال: «ما عمل آدمي عملاً أنجى له من عذاب الله تعالى من ذكر الله تعالى، قالوا: ولا الجهاد في سبيل الله تعالى قال: ولا أن يضرب بسيفه حتى ينقطع لأن الله تعالى يقول في كتابه { وَلَذِكْرُ ٱللَّهِ أَكْبَرُ }.

وأخرج ابن أبـي شيبة وابن جرير عن أبـي الدرداء قال: «ألا أخبركم بخير أعمالكم وأحبها إلى مليككم وأسماها في درجاتكم وخير من أن تغزوا عدوكم فيضربوا رقابكم وتضربوا رقابهم وخير من إعطاء الدنانير والدراهم قالوا: وما هو يا أبا الدرداء؟ قال ذكر الله تعالى: { وَلَذِكْرُ ٱللَّهِ أَكْبَرُ }». وأخرج ابن جرير عن سلمان أنه سئل أي العمل أفضل؟ قال: أما تقرأ القرآن؟ { وَلَذِكْرُ ٱللَّهِ أَكْبَرُ } لا شيء أفضل من ذكر الله، ونسب في «البحر» إلى أبـي الدرداء وسلمان رضي الله تعالى عنهما القول الذي ذكرناه أولاً عمن سمعت، ولعل ذلك إحدى روايتين عنهما، وجاء عن ابن عباس أيضاً رواية تشعر بأن المراد بذكر الله تعالى ذكر العبد له سبحانه. أخرج سعيد بن منصور وابن أبـي شيبة وابن المنذر والحاكم في «الكنى» والبيهقي في «شعب الإيمان» عن عنترة قال: قلت لابن عباس رضي الله تعالى عنهما أي العمل أفضل؟ قال: ذكر الله أكبر وما قعد قوم في بيت من بيوت الله تعالى يدرسون كتاب الله ويتعاطونه بينهم إلا أظلتهم الملائكة بأجنحتها وكانوا أضياف الله تعالى ما داموا فيه حتى يفيضوا في حديث غيره وما سلك رجل طريقاً يلتمس فيه العلم إلا سهل الله تعالى له طريقاً إلى الجنة.

وقيل: المراد بذكر الله الصلاة كما في قوله تعالى: { { فَٱسْعَوْاْ إِلَىٰ ذِكْرِ ٱللَّهِ } [الجمعة: 9] أي وللصلاة أكبر من سائر الطاعات وإنما عبر عنها به للإيذان بأن ما فيها من ذكر الله تعالى هو العمدة في كونها مفضلة على الحسنات ناهية عن السيئات، وقيل: المعنى ولذكر الله تعالى عند الفحشاء والمنكر، وذكر نهيه عنهما ووعيده عليهما أكبر في الزجر من الصلاة، { فَذَكّرْ } على هذه الأقوال مصدر مضاف للمفعول والمفضل عليه محذوف، وجوز أن لا يكون أفعل للتفضيل سواء كانت إضافة المصدر للفاعل أم للمفعول كما في الله أكبر.

{ وَٱللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ } من الخير والطاعة فيجازيكم بذلك أحسن المجازاة، وقال أبو حيان: { يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ } من الخير والشر فيجازيكم بحسبه ففيه وعد ووعيد وحث على المراقبة.