خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَوَصَّيْنَا ٱلإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْناً وَإِن جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَآ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ
٨
-العنكبوت

روح المعاني

{ وَوَصَّيْنَا ٱلإِنْسَـٰنَ بِوَالِدَيْهِ حُسْناً } أي أمرناه بتعهدهما ومراعاتهما، وانتصب { حسناً } على أنه وصف لمصدر محذوف أي إيصاء حسناً أي ذا حسن أو هو في حد ذاته حسن لفرط حسنه كقوله تعالى: { { وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْنًا } [البقرة: 83] وهذا ما اختاره أبو حيان ولا يخلو عن حسن، وقال الزمخشري { حسناً } مفعول به لمصدر محذوف مضاف إلى والديه أي وصيناه بإيتاء والديه أو بإيلاء والديه حسناً، وفيه إعمال المصدر محذوفاً وإبقاء عمله وهو لا يجوز عند البصريين، وجوز أن يكون { حسناً } مصدراً لفعل محذوف أي أحسن حسناً، والجملة في موضع المفعول لوصى لتضمنه معنى القول، وهذا على مذهب الكوفيين القائلين بأن ما يتضمن معنى القول يجوز أن يعمل في الجمل من غير تقدير للقول، وعند البصريين يقدر القول في مثل ذلك وعليه يجوز أن يكون مفعولاً به لفعل محذوف والجملة مقول القول وجملة القول مفسرة للتوصية أي قلنا أولهما أو افعل بهما حسناً، وعلى هذا يحسن الوقف على { بوالديه } لاستئناف الجملة بعده، ورجح تقدير الأمر بأنه أوفق لما بعده من الخطاب والنهي الذي هو أخوه لكن ضعف ما فيه كثرة تقدير بكثرة التقدير، ونقل ابن عطية عن الكوفيين أنهم يجعلون { حسناً } مفعولاً لفعل محذوف ويقدرون أن يفعل حسناً، وفيه حذف أن وصلتها وإبقاء المعمول وهو لا يجوز عند البصريين، وقيل: إن { حسناً } منصوب بنزع الخافض و{ بوالديه } متعلق بوصينا والباء فيه بمعنى في أي وصينا الإنسان في أمر والديه بحسن وهو كما ترى، وقرأ عيسى والجحدري { حَسَنًا } بفتحتين وفي مصحف أبـي (إحساناً).

{ وَإِن جَـٰهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِى مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَا } عطف على ما قبله ولا بد من إضمار القول إن لم يضمر قبل أي وقلنا: إن جاهداك الخ لئلا يلزم عطف الإنشاء على الخبر لأن الجملة الشرطية إذ كان جوابها إنشاء فهي إنشائية كما صرحوا به فإذا لم يضمر القول لا يليق عطفها على وصينا لما ذكر ولا على ما عمل فيه لكونه في معنى القول وهو أحسن وإن توافقاً في الإنشائية لأنه ليس من الوصية بالوالدين لأنه منهي عن مطاوعتهما، وأما عطفه على قلنا المفسر للتوصية فلا يضر لما فيه من تقييدها بعدم الإفضاء إلى المعصية مآلاً فكأنه قيل: أحسن إليهما وأطعهما ما لم يأمراك بمعصية فتأمل.

والظاهر الذي يقتضيه المقام أن { مَا } عام لما سواه تعالى شأنه وقوله سبحانه: { بِهِ } على حذف مضاف أي ما ليس لك بإلهيته علم، وتنكير { علم } للتحقير. والمراد لتشرك بـي شيئاً لا يصح أن يكون إلهاً ولا يستقيم، وفي العدول عنه إلى ما في النظم الجليل إيذان / بأن ما لا يعلم صحته ولو إجمالاً كما في التقليد لا يجوز اتباعه وإن لم يعلم بطلانه فكيف بما علم على أتم وجه بطلانه، وجعل العلامة الطيبـي نفي العلم كناية عن نفي المعلوم، وعلل ذلك بأن هذا الأسلوب يستعمل غالباً في حق الله تعالى نحو أتعلمون الله بما لا يعلم ثم قال: وفيه إشارة إلى أن نفي الشرك من العلوم الضرورية وأن الفطرة السليمة مجبولة عليه على ما ورد "كل مولود يولد على الفطرة" وذلك أن المخاطب بقوله تعالى: { وَوَصَّيْنَا ٱلإِنسَـٰنَ } جنس الإنسان انتهى، وفيه بحث. ومتعلق { تطعهما } محذوف لوضوح دلالة الكلام عليه أي وإن استفرغا جهدهما في تكليفك لتشرك بـي غيري مما لا إلهية له فلا تطعهما في ذلك فإنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، وفي تعليق النهي عن طاعتهما بمجاهدتهما في التكليف إشعار بأن موجب النهي فيما دونها من التكليف ثابت بطريق الأولوية وكذا موجبه في مجاهدة أحدهما.

{ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ } أي مرجع من آمن منكم ومن أشرك ومن بر ومن عق والجملة مقررة لما قبلها ولذا لم تعطف { فَأُنَبِئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } بأن أجازي كلاً منكم بعمله إن خيراً فخير وإن شراً فشر.

والآية نزلت في سعد بن أبـي وقاص، وذلك أنه رضي الله تعالى عنه حين أسلم قالت أمه حمنة بنت أبـي سفيان بن أمية بن عبد شمس: يا سعد بلغني أنك صبأت فوالله تعالى لا يظلني سقف بيت من الضح والريح وإن الطعام والشراب علي حرام حتى تكفر بمحمد وكان أحب ولدها إليها فأبى سعد وبقيت ثلاثة أيام كذلك فجاء سعد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فشكا إليه فنزلت هذه الآية والتي في لقمان والتي في الأحقاف فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يداريها ويترضاها بالإحسان.

وروي أنها نزلت في عياش بن أبـي ربيعة المخزومي، وذلك أنه هاجر مع عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنهما مترافقين حتى نزلا المدينة فخرج أبو جعل بن هشام والحرث بن هشام أخواه لأمه أسماء بنت مخرمة امرأة من بني تميم من بني حنظلة فنزلا بعياش وقالا له: إن من دين محمد صلة الأرحام وبر الوالدين وقد تركت أمك لا تطعم ولا تشرب ولا تأوي بيتاً حتى تراك وهي أشد حباً لك منا فاخرج معنا وفتلا منه في الذروة والغارب فاستشار عمر رضي الله تعالى عنه فقال هما يخدعانك ولك عليَّ أن أقسم مالي بيني وبينك فما زالا به حتى أطاعهما وعصى عمر رضي الله تعالى عنه فقال عمر رضي الله تعالى عنه: أما إذا عصيتني فخذ ناقتي فليس في الدنيا بعير يلحقها فإن رابك منهم ريب فارجع، فلما انتهوا إلى البيداء قال أبو جهل: إن ناقتي قد كلت فاحملني معك، قال: نعم. فنزل ليوطىء لنفسه وله فأخذاه فشداه وثاقاً وجلده كل واحد [منهما] مائة جلدة وذهبا به إلى أمه، فقالت: لا تزال بعذاب حتى ترجع عن دين محمد فنزلت.