خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ ٱلرُّسُلُ أَفإِنْ مَّاتَ أَوْ قُتِلَ ٱنْقَلَبْتُمْ عَلَىٰ أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ ٱللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي ٱللَّهُ ٱلشَّاكِرِينَ
١٤٤
-آل عمران

روح المعاني

{ وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ ٱلرُّسُلُ } روي أنه لما التقى الفئتان يوم أحد وحميت الحرب قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من يأخذ هذا السيف بحقه ويضرب به العدو حتى ينحني؟ فأخذه أبو دجانة سماك بن خرشة الأنصاري ثم تعمم بعمامة حمراء وجعل يتبختر ويقول:

* أنا الذي عاهدني خليلي * ونحن بالسفح لدى النحيل *

* أن لا أقوم الدهر في الكبول * أضرب بسيف الله والرسول *

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنها لمشية يبغضها الله تعالى ورسوله إلا في هذا الموضع" فجعل لا يلقى أحداً إلا قتله وقاتل علي كرم الله تعالى وجهه قتالاً شديداً حتى التوى سيفه وأنزل الله تعالى النصر على المسلمين وأدبر المشركون فلما نظر الرماة إلى القوم قد انكشفوا والمسلمون ينتهبون الغنيمة خالفوا أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا قليلاً منهم فانطلقوا إلى العسكر فلما رأى خالد بن الوليد قلة الرماة واشتغال الناس بالغنيمة ورأى ظهورهم خالية صاح في خيله من المشركين وحمل على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من خلفهم في مائتين وخمسين فارساً ففرقوهم وقتلوا نحواً من ثلاثين رجلاً ورمى عبد الله بن قميئة الحارثي رسول الله صلى الله عليه وسلم بحجر فكسر رباعيته وشج وجهه الكريم وأقبل يريد قتله فذب عنه مصعب بن عمير صاحب الراية رضي الله تعالى عنه حتى قتله ابن قميئة.

وقيل: إن الرامي عتبة بن أبـي وقاص فرجع وهو يرى أنه قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إني قتلت محمداً وصرخ صارخ لا يدري من هو حتى قيل: إنه إبليس ألا إن محمداً قد قتل فانكفأ الناس وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو: إليّ عباد الله فاجتمع إليه ثلاثون رجلاً فحموه حتى كشفوا عنه المشركين ورمى سعد بن أبـي وقاص حتى اندقت سية قوسه ونثل له رسول الله صلى الله عليه وسلم كنانته وكان يقول ارم فداك أبـي وأمي وأصيبت يد طلحة بن عبيد الله فيبست وعين قتادة حتى وقعت على وجنته فأعادها رسول الله صلى الله عليه وسلم فعادت كأحسن ما كانت فلما انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم أدركه أبـيّ بن خلف الجمحي وهو يقول: لا نجوت إن نجوت فقال القوم: يا رسول الله ألا يعطف عليه رجل منا، فقال: دعوه حتى إذا دنا منه تناول رسول الله صلى الله عليه وسلم الحربة من الحرث بن الصمة ثم استقبله فطعنه في عنقه وخدشه خدشة فتدهدى من فرسه وهو يخور كما يخور الثور وهو يقول: قتلني محمد وكان أبـيّ قبل ذلك يلقى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقول: عندي رمكة أعلفها كل يوم فرق ذرة أقتلك عليها ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول له: بل أنا أقتلك إن شاء الله تعالى فاحتمله أصحابه وقالوا: ليس عليك بأس قال: بلى لو كانت هذه الطعنة بربيعة ومضر لقتلتهم أليس قال لي: أقتلك؟ فلو بزق عليَّ بعد تلك المقالة قتلني فلم يلبث إلا يوماً حتى مات بموضع يقال له سرف. ولما فشا في الناس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قتل قال بعض المسلمين: ليت لنا رسولاً إلى عبد الله بن أبـيّ فيأخذ لنا أماناً من أبـي سفيان، وبعضهم جلسوا وألقوا بأيديهم. وقال أناس من أهل النفاق إن كان محمد قد قتل فالحقوا بدينكم الأول، فقال أنس بن النضر عم أنس بن مالك: إن كان محمد قد قتل فإن رب محمد لم يقتل وما تصنعون بالحياة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقاتلوا على ما قاتل عليه وموتوا على ما مات عليه / ثم قال: اللهم إني أعتذر إليك مما قال هؤلاء ـ يعني المسلمين ـ وأبرأ إليك عما قال هؤلاء ـ يعني المنافقين ـ ثم شد بسيفه فقاتل حتى قتل رضي الله تعالى عنه. وروي أن أول من عرف رسول الله صلى الله عليه وسلم كعب بن مالك قال: «عرفت عينيه تحت المغفر تزهران فناديت بأعلى صوتي يا معشر المسلمين أبشروا هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأشار إليّ أن اسكت فانحازت إليه طائفة من أصحابه رضي الله تعالى عنهم فلامهم النبـي صلى الله عليه وسلم على الفرار فقالوا: يا رسول الله فديناك بآبائنا وأبنائنا أتانا الخبر بأنك قتلت فرعبت قلوبنا فولينا مدبرين» فأنزل الله تعالى هذه الآية.

ومحمد علم لنبينا صلى الله عليه وسلم منقول من اسم المفعول من حمد المضاعف لغة سماه به جده عبد المطلب لسابع ولادته لموت أبيه قبلها ولما سئل عن ذلك قال لرؤية رآها: رجوت أن يحمد في السماء والأرض، ومعناه قبل النقل من يحمد كثيراً وضده المذمم، وفي الخبر أنه صلى الله عليه وسلم قال: "ألم تروا كيف صرف الله تعالى عني لعن قريش وشتمهم يشتمون مذمماً وأنا محمد" . وقد جمع هذا الاسم الكريم من الأسرار ما لا يحصى حتى قيل: إنه يشير إلى عدة الأنبياء كإشارته إلى المرسلين منهم عليهم الصلاة والسلام وعبر عنه صلى الله عليه وسلم بهذا الاسم هنا لأنه أول أسمائه وأشهرها وبه صرخ الصارخ، وهو مرفوع على الابتداء وخبره ما بعد إلا ولا عمل ـ لما ـ بالاتفاق لانتقاض نفيه بإلا، واختلفوا في القصر هل هو قصر قلب أم قصر إفراد؟ فذهب العلامة الطيبـي وجماعة إلى أنه قصر قلب لأنه جعل المخاطبون بسبب ما صدر عنهم من النكوص على أعقابهم عند الإرجاف بقتل النبـي صلى الله عليه وسلم كأنهم اعتقدوا أن محمداً صلى الله عليه وسلم ليس حكمه حكم سائر الرسل المتقدمة في وجوب اتباع دينهم بعد موتهم بل حكمه على خلاف حكمهم فأنكر الله تعالى عليهم ذلك وبين أن حكم النبـي صلى الله عليه وسلم حكم من سبق من الأنبياء صلوات الله تعالى وسلامه عليهم أجمعين في أنهم ماتوا وبقي أتباعهم متمسكين بدينهم ثابتين عليه فتكون جملة { قَدْ خَلَتْ } الخ صفة لرسول منبئة عن كونه صلى الله عليه وسلم في شرف الخلو فإن خلو مشاركيه في منصب الرسالة من شواهد خلوه لا محالة كأنه قيل: قد خلت من قبله أمثاله فسيخلو كما خلوا، والقصر منصب على هذه الصفة فلا يرد أنه يلزم من قصر القلب أن يكون المخاطبون منكرين للرسالة لأن ذلك ناشىء من الذهول عن الوصف، وقيل: الجملة في موضع الحال من الضمير في { رَّسُولٍ } والانصباب هو الانصباب.

وذهب صاحب «المفتاح» إلى أنه قصر إفراد إخراجاً للكلام على خلاف مقتضى الظاهر بتنزيل استعظامهم عدم بقائه صلى الله عليه وسلم منزلة استبعادهم إياه وإنكارهم له حتى كأنهم اعتقدوا فيه وصفين الرسالة والبعد عن الهلاك فقصر على الرسالة نفياً للبعد عن الهلاك، واعترض بأنه يتعين على هذا جعل جملة { قد خلت } مستأنفة لبيان أنه صلى الله عليه وسلم ليس بعيداً عن عدم البقاء كسائر الرسل إذ على اعتبار الوصف لا يكون إلا قصر قلب لانصباب القصر عليه، وكون الجملة مستأنفة بعيد لمخالفته القاعدة في الجمل بعد النكرات، وأجيب بأن ذلك ليس بمتعين لجواز أن تكون صفة أيضاً مؤكدة لمعنى القصر متأخرة عنه في التقدير، وقرأ ابن عباس ـ رسل ـ بالتنكير.

{ أَفَإيْن مَّاتَ أَوْ قُتلَ ٱنقَلَبْتُمْ عَلَىٰ أَعْقَـٰبكُمْ } الهمزة للإنكار والفاء استئنافية أو لمجرد التعقيب، والانقلاب على الأعقاب في الأصل الرجوع القهقرى، وأريد به الارتداد والرجوع إلى ما كانوا عليه من الكفر في المشهور، والغرض إنكار ارتدادهم عن الدين بخلوه صلى الله عليه وسلم بموت أو قتل بعد علمهم بخلو الرسل قبله وبقاء دينهم متمسكاً به، واستشكل بأن القوم لم يرتدوا فكيف عبر بالانقلاب على الأعقاب المتبادر منه ذلك؟ وأجيب بأنه ليس المراد ارتداداً حقيقة وإنما هو تغليظ عليهم فيما كان منهم من الفرار والانكشاف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وإسلامهم إياه للهلك، وقيل: الإنكار هنا بمعنى أنه لم يكن ذلك ولا ينبغي لا إنكار لما وقع، وقيل: هو إخبار عما وقع لأهل الردة بعد موته صلى الله عليه وسلم وتعريض بما وقع من الهزيمة لشبهه به.

وحمل بعضهم الانقلاب هنا على نقص الإيمان لا الكفر بعده احتجاجاً بما أخرجه ابن المنذر عن الزهري قال: «لما نزلت هذه الآية { لِيَزْدَادُواْ إِيمَـٰناً مَّعَ إِيمَـٰنِهِمْ } [الفتح: 4] قالوا: "يا رسول الله قد علمنا أن الإيمان يزداد فهل ينقص؟ قال: إي والذي بعثني بالحق إنه لينقص قالوا: فهل لذلك دلالة في كتاب الله تعالى؟ قال: نعم، ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم { أَفإِيْن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ ٱنقَلَبْتُمْ عَلَىٰ أَعْقَـٰبِكُمْ }" والانقلاب نقصان لا كفر ولا يخفى أن هذا الخبر ليس من القوة إلى حيث يحتج به وإني لا أجد عليه طلاوة الأحاديث الصحيحة.

وذهب بعضهم إلى أن الفاء معلقة للجملة الشرطية بالجملة التي قبلها على معنى التسبب، والهمزة لإنكار ذلك أي لا ينبغي أن تجعلوا خلو الرسل قبله سبباً لانقلابكم على أعقابكم بعد موته أو قتله بل اجعلوه سبباً للتمسك بدينه كما هو حكم سائر الأنبياء عليهم السلام ففي انقلابكم على أعقابكم تعكيس لموجب القضية المحققة التي هي كونه رسولاً يخلو كما خلت الرسل، وإيراد الموت بكلمة (إن) مع العلم [به] البتة لتنزيل المخاطبين منزلة المترددين فيه لما ذكر من استعظامهم إياه، قال المولى: وهكذا الحال في سائر الموارد فإن كلمة (إن) في كلام الله تعالى لا تجري على ظاهرها أصلاً ضرورة علمه تعالى بالوقوع أو اللاوقوع بل تحمل على اعتبار حال السامع، أو أمر آخر يناسب المقام.

والمراد من ـ الموت ـ الموت على الفراش و ـ بالقتل ـ الموت بواسطة نقض البنية وقدم تقدير الموت مع أن تقدير القتل هو الذي كاد يجرّ الموت الأحمر لما أن الموت في شرف الوقوع فزجر الناس عن الانقلاب عنده وحملهم على الثبات هناك أهم، ولأن الوصف الجامع في نفس الأمر بينه صلى الله عليه وسلم وبين الرسل عليهم الصلاة والسلام هو الموت دون القتل خلافاً لمن زعمه مستدلاً بما ورد من أكلة خيبر، وإن كان قد وقع فيهم قتل وموت وإنما ذكر القتل مع علمه سبحانه أنه لا يقتل لتجويز المخاطبين له وآية { وَٱللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ ٱلنَّاسِ } [المائدة: 67] على تقدير نزولها قبل أحد يحتمل أنها لم تصل هؤلاء المنهزمين، وبتقدير وصولها احتمال أن لا تحضرهم قائم في مثل ذلك المقام الهائل.

وقد غفل عمر رضي الله تعالى عنه عن هذه الآية يوم توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقد روى أبو هريرة أنه رضي الله تعالى عنه قام يومئذٍ فقال: إن رجالاً من المنافقين يزعمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توفي وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم والله ما مات ولكن ذهب إلى ربه كما ذهب موسى بن عمران فقد غاب عن قومه أربعين ليلة ثم رجع إليهم بعد أن قيل: قد مات والله ليرجعن رسول الله صلى الله عليه وسلم كما رجع موسى فليقطعن أيدي رجال وأرجلهم زعموا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مات، فخرج أبو بكر فقال: على رسلك يا عمر أنصت فحمد الله تعالى وأثنى عليه ثم قال: أيها الناس من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات ومن كان يعبد الله تعالى فإن الله تعالى حي لا يموت، ثم تلى هذه الآية { وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ } إلى آخرها فوالله لكأن الناس لم يعلموا أن هذه الآية نزلت حتى تلاها أبو بكر يومئذٍ فأخذها الناس من أبـي بكر، وقال عمر: فوالله ما هو إلا أن سمعت أبا بكر تلاها فعقرت حتى / وقعت إلى الأرض ما تحملني رجلاي وعرفت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد مات، والاعتذار باختصاص فهم آية العصمة بالعلماء من الصحابة وذوي البصيرة منهم مع ظهور معنى اللفظ كما اعتذر به الزمخشري لا يخفى ما فيه، وكون المراد منها العصمة من فتنة الناس وإضلالهم لا يخفى بعده لأن النبـي صلى الله عليه وسلم لا يظن به ذلك، وإنما يرد مثله في معرض الإلهاب والتعريض.

{ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ ٱللَّهَ } بما فعل من الانقلاب لأنه تعالى لا تجوز عليه المضار { شَيْئاً } من الضرر وإن قل وإنما يضر نفسه بتعريضها للسخط والعذاب أو بحرمانها مزيد الثواب، ويشير إلى ذلك توجه النفي إلى المفعول فإنه يفيد أنه يضر غير الله تعالى وليس إلا نفسه { وَسَيَجْزِى ٱللَّهُ ٱلشَّـٰكِرِينَ } أي سيثيب الثابتين على دين الإسلام، ووضع الشاكرين موضع الثابتين لأن الثبات عن ذلك ناشىء عن تيقن حقيته وذلك شكر له، وفيه إيماء إلى كفران المنقلبين، وإلى تفسير الشاكرين بالثابتين ذهب علي كرم الله تعالى وجهه وقد رواه عنه ابن جرير، وكان يقول: الثابتون هم أبو بكر وأصحابه وأبو بكر رضي الله تعالى عنه أمير الشاكرين، وعن ابن عباس أن المراد بهم الطائعون من المهاجرين والأنصار، وإظهار الاسم الجليل في موضع الإضمار للإعلان بمزيد الاعتناء بشأن جزائهم واتصال هذا بما قبله اتصال الوعد بالوعيد.