خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَللَّهِ مُلْكُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ
١٨٩
-آل عمران

روح المعاني

{ وَللَّهِ مُلْكُ ٱلسَّمَـٰوٰتِ وَٱلأَرْضِ } تقرير لما قبله حيث أفاد أن لله وحده السلطان القاهر في جميع العالم يتصرف فيه كيفما يشاء ويختار إيجاداً وإعداماً إحياءاً وإماتة تعذيباً وإثابة، ومن هو كذلك فهو مالك أمرهم لا راد له عما أراد بهم { وَٱللَّهُ عَلَىٰ كُلّ شَيْء قَدِيرٌ } تقرير إثر تقرير والإظهار في مقام الإضمار لتربية المهابة مع الإشعار بمناط الحكم فإن شمول القدرة لجميع الأشياء من أحكام الألوهية والرمز إلى استقلال كل من الجملتين بالتقرير، وقيل: مجموع الجملتين مسوق لرد قول اليهود السابق { إِنَّ ٱللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاء } [آل عمران: 181] وضعف بالبعد ـ ولو قيل ـ وفيه ردّ لهان الأمر.

هذا ومن باب الإشارة في الآيات: { وَلاَ يَحْزُنكَ } لتوقع الضرر، أو لشدة الغيرة { ٱلَّذِينَ يُسَـٰرِعُونَ فِى ٱلْكُفْرِ } لحجابهم الأصلي وظلمتهم الذاتية { إِنَّهُمْ لَن يَضُرُّواْ ٱللَّهَ شَيْئاً } فإن ساحة الكبرياء مقدسة عن هجوم ظلال الضلال، أو المراد لن يضروك أيها المظهر الأعظم إلا أنه تعالى أقام نفسه تعالى مقام نفسه صلى الله عليه وسلم، وفي الآية إشارة إلى الفرق والجمع { يُرِيدُ ٱللَّهُ } إظهاراً لصفة قهره { { ألا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظّاً فِى ٱلأَخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } [آل عمران: 176] لعظم حجابهم ونظرهم إلى الأغيار { إِنَّ ٱلَّذِينَ ٱشْتَرَوُاْ ٱلْكُفْرَ } وأخذوه { بِٱلإِيمَانِ } بدله لقبح استعدادهم وسوء اختيارهم الغير المجعول { لَن يَضُرُّواْ ٱللَّهَ شَيْئاً } ولكن يضرون أنفسهم لحرمانها تجلي الجمال { { وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } [آل عمران: 177] لكونهم غدوا بذلك مظهر الجلال { وَلاَ يَحْسَبَنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِى لَهُمْ } ونزيد في مددهم { خَيْرٌ لأَِنفُسِهِمْ } ينتفعون به في القرب إلينا { إِنَّمَا نُمْلِى لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْمَاً }بسبب ذلك لازديادهم حجاباً على حجاب وبعداً على بعد { وَلَهْمُ عَذَابٌ مُّهِينٌ } [آل عمران: 178] لفرط بعدهم عن منبع العز { مَّا كَانَ ٱللَّهُ لِيَذَرَ ٱلْمُؤْمِنِينَ عَلَىٰ مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ } من ظاهر الإسلام وتصديق اللسان { حَتَّىٰ يَمِيزَ ٱلْخَبِيثَ } من صفات النفس وحظوظ الشيطان ودواعي الهوى { مِنَ ٱلطَّيّبِ } وهو صفات القلب كالإخلاص، واليقين، والمكاشفة، ومشاهدة الروح، ومناغاة السر ومسامراته، وذلك بوقوع الفتن والمصائب بينكم { وَمَا كَانَ ٱللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى ٱلْغَيْبِ } أي غيب وجودكم من الحقائق الكامنة فيكم بلا واسطة الرسول للبعد وعدم المناسبة وانتفاء استعداد التلقي منه سبحانه { وَلَكِنَّ ٱللَّهَ يَجْتَبِى مِن رُّسُلِهِ مَن يَشَاء } فيطلعه على ذلك ويهديكم إلى ما غاب عنكم من كنوز وجودكم وأسراره للجنسية التي بينكم وبينه { فَآمِنُواْ بِٱللَّهِ وَرُسُلِهِ } بالتصديق والتمسك بالشريعة ليمكنكم التلقي منهم { وَإِن تُؤْمِنُواْ } بعد ذلك الإيمان الحقيقي الحاصل بالسلوك والمتابعة في الطريقة { وَتَتَّقُواْ } الحجب والموانع { فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ } [آل عمران: 179] من كشف الحقيقة، وقد يقال: إن لله تعالى غيوباً، غيب الظاهر، وغيب الباطن وغيب الغيب، وسر الغيب، وغيب السر، فغيب الظاهر هو ما أخبر به سبحانه عن أمر الآخرة، وغيب الباطن هو غيب المقدورات المكنونة عن قلوب الأغيار، وغيب الغيب هو سر الصفات في الأفعال، وسر الغيب هو نور الذات في الصفة، وغيب السر هو غيب القدم وسر الحقيقة والإطلاع بالواسطة على ما عدا الأخير واقع للسالكين على حسب مراتبهم، وأما الاطلاع على الأخير فغير واقع لأحد أصلاً فإن الأزلية منزهة عن الإدراك وخاصة بنبينا صلى الله عليه وسلم من ذلك المعنى رؤيته بنعت الكشف له وابتسام صباح الأزل في وجهه لا بنعت الإحاطة والإدراك { وَلاَ يَحْسَبَنَّ ٱلَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا ءاتَـٰهُمُ ٱللَّهُ مِن فَضْلِهِ } من المال، أو العلم، أو القدرة، أو النفس فلا ينفقونه في سبيل الله على المستحقين، أو المستعدين، أو الأنبياء، والصديقين في الذب عنهم، أو في الفناء في الله تعالى { هُوَ خَيْراً لَّهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَّهُمْ } لاحتجابهم به { سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِ يَوْمَ ٱلْقِيَـٰمَةِ } ويلزمون وباله ويبقى ذلك حسرة في قلوبهم عند هلاكهم على ما يشير قوله تعالى: { { وَلِلَّهِ مِيرَاثُ ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلأَرْضِ } [آل عمران: 180] وقد ذكر بعض العارفين إن من أعظم أنواع البخل كتم الأسرار عن أهلها وعدم إظهار مواهب الله تعالى على المريدين وإبقائهم في مهامه الطريق مع التمكن من إرشادهم ويقال: إن مبنى الطريق على السخاء وإن السخاء بالمال وصف المريدين، والسخاء بالنفس وصف المحبين، وبالروح وصف العارفين. وقال ابن عطاء: السخاء بذل النفس والسر والروح والكل، ومن بخل في طريق الحق بماله حجب وبقي / معه، ومن نظر إلى الغير حرم فوائد الحق وسواطع أنوار القرب { لَّقَدْ سَمِعَ ٱللَّهُ قَوْلَ ٱلَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ ٱللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاء } [آل عمران: 181] وهم اليهود حيث سمعوا الاستقراض ولم يفهموا سره فوقعوا فيما وقعوا وقالوا ما قالوا، وهذا القول إنما يجر إليه الطغيان وغلبة الصفات الذميمة واستيلاء سلطان الهوى على النفس الأمارة فتطلب حينئذ الارتداء برداء الربوبية، ومن هنا تقول: (أنا ربكم الأعلى) أحياناً مع حجابها وبعدها عن الحضرة { ٱلَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ ٱللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلاَّ نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّىٰ يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ ٱلنَّارُ } قيل: إنه روي أن أنبياء بني إسرائيل كانت معجزتهم أن يأتوا بقربان فيدعوا الله تعالى فتأتي نار من السماء فتأكله، وتأويله أن يأتوا بنفوسهم يتقربون بها إلى الله تعالى ويدعون بالزهد والعبادة فتأتي نار العشق من سماء الروح فتأكله وتفنيه في الوحدة وبعد ذلك تصح نبوتهم وتظهر فلما سمع بذلك عوام بني إسرائيل اعتقدوا ظاهره الممكن في عالم القدرة فاقترحوا على كل نبـي تلك الآية إلى أن جاء نبينا صلى الله عليه وسلم فاقترحوا عليه ونقل الله تعالى ذلك لنا ورده عليهم، وأولى من هذا في باب التأويل أن يهود صفات النفس البهيمية والشيطانية قالوا لرسول الخاطر الرحماني والإلهام الرباني لا ننقاد لك { حَتَّىٰ يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ } هو الدنيا وما فيها تجعلها نسيكة لله عز وجل فتأكلها نار المحبة { قُلْ } يا وارد الحق { قَدْ جَاءكُمْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِى } أي واردات الحق { بِٱلْبَيِّنَـٰتِ } بالحجج الباهرة { وَبِٱلَّذِى قُلْتُمْ } وهو جعل الدنيا وما فيها قرباناً { فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ } أي غلبتموهم ومحوتموهم حتى لم تبقوا أثراً لتلك الواردات { { إِن كُنتُمْ صَـٰدِقِينَ } [آل عمران: 183] في أنكم تؤمنون لمن يأتيكم بذلك { فَإِن كَذَّبُوكَ } خطاب للرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم { فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مّن قَبْلِكَ جَاءوا بِٱلْبَيّنَـٰتِ } للعوام { وَٱلزُّبُرِ } للمتوسطين { وَٱلْكِتَـٰبِ ٱلْمُنِيرِ } [آل عمران: 184] للخواص، ويحتمل أن يكون الأول: إشارة إلى توحيد الأفعال والثاني: إلى توحيد الصفات، والثالث: إلى توحيد الذات المشار إليه بقوله تعالى: { ٱللَّهُ نُورُ ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلأَرْضِ } [النور: 35] ولهذا أتى بالكتاب مفرداً ووصفه بالمنير، وجوز أن يكون الخطاب للوارد الرحماني والرسل إشارة إلى الواردات المختلفة المتنوعة { كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ ٱلْمَوْتِ } حكم شامل لجميع الأنفس مجردة كانت أو بسيطة بحمل الموت على ما يشمل الموت الطبيعي والفناء في الله سبحانه وتعالى { ثُمَّ تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ } على اختلافها { يوم القيامة فَمَن زُحْزِحَ عَنِ ٱلنَّارِ } أي نار الحجاب أو ما يعمها والنار المعروفة { وَأُدْخِلَ ٱلْجَنَّةَ } المتنوعة إلى ما قدمناه غير مرة، أو الجنة بالمعنى الأعم { فَقَدْ فَازَ وَما ٱلْحَيَٰوةُ ٱلدُّنْيَا } ولذاتها الفانية { إِلاَّ مَتَـٰعُ ٱلْغُرُورِ } [آل عمران: 185] لأنها الحجاب الأعظم لمن نظر إليها من حيث هي { لَتُبْلَوُنَّ } لتختبرن { فِيۤ أَمْوَالِكُمْ } بإيجاب إنفاقها مع ميلكم إليها { وأنفسكم } بتعريضها لما يكاد يجر إلى إتلافها مع حبكم لها. وقال بعض العارفين: إن الله تعالى أظهر النفس وزينها بكسوة الربوبية وملأها باللطف والقهر وكساها زينة الملك من الأموال ابتلاءاً وامتحاناً فمن نظر إلى نفسه بعين زينة الربوبية فنيت نفسه فيها ونطق لسان الربوبية منه وصار كشجرة موسى عليه السلام حيث نطق الحق منها وذلك مثل الحلاج القائل: أنا الحق، ومن نظر إلى زينة الأموال التي هي زينة الملك صار حاله كحال سليمان عليه السلام حيث كان ينظر إلى عظم جلال المولى من خلال تلك الزينة، ومن نظر إلى نفسه من حيث أنها نفسه واغتر بالسراب ولم يحقق بالذوق ما عنده صار حاله كحال فرعون إذ نادى { { أَنَاْ رَبُّكُمُ ٱلأَعْلَىٰ } [النازعات: 24]، ومن نظر إلى خضرة الدنيا وحسا كأس شهواتها وسكر بها صار كبلعام { فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ ٱلْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث } [الأعراف: 176] وهذا وجه الابتلاء بالأموال والأنفس، وأي ابتلاء أعظم من رؤية الملك ورؤية الربوبية في الكون الذي هو محل الالتباس { وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ ٱلَّذِينَ / أُوتُواْ ٱلْكِتَـٰبَ مِن قَبْلِكُمْ } وهم أهل مقام الجمع { وَمِنَ ٱلَّذِينَ أَشْرَكُواْ } وهم أهل الكثرة { أَذًى كَثِيراً } لنطقهم بما يخالف مشربكم والخطاب للمتوسطين من السالكين فإنهم ينكرون على أهل مقام الجمع وعلى أهل الكثرة جميعاً ما داموا غير واصلين إلى توحيد الذات وغير كارعين من بحار الفرق بعد الجمع { وَأَن تَصْبِرُواْ } على مجاهدة أنفسكم { وَتَتَّقُواْ } النظر إلى الأغيار { { فَإِنَّ ذٰلِكَ مِنْ عَزْمِ ٱلأُمُورِ } [آل عمران: 186] أي من الأمور المطلوبة التي تجرّ إلى المقصود والفوز بالمطلوب { وَإِذْ أَخَذَ ٱللَّهُ مِيثَـٰقَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَـٰبَ لَتُبَيّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ } الظاهر هنا عدم صحة إرادة المعنى الذي أريد { { مِنَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَـٰبَ } [آل عمران: 186] آنفاً ومن حمله عليه تكلف جداً فلعله باق على ظاهره أو أنه إشارة إلى العلماء مطلقاً وضمير { { فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ } [آل عمران: 187] الخ راجع إليهم باعتبار البعض فتدبر و { لاَ تَحْسَبَنَّ ٱلَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْاْ } أي يعجبون بما فعلوا من طاعة ويحجبون برؤيته { وَّيُحِبُّونَ أَن يُحْمَدُواْ } أي يحمدهم الناس فهم محجوبون بغرض الحمد والثناء من الناس، أو أن يكونوا محمودين عند الله { بِمَا لَمْ يَفْعَلُواْ } بل فعله الله تعالى على أيديهم إذ لا فعل حقيقة إلا لله تعالى { { فَلاَ تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مّنَ ٱلْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } [آل عمران: 188] وهو عذاب الحرمان والحجاب { وَللَّهِ مُلْكُ ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلأَرْضِ } ليس لأحد فيهما شيء وهو المتصرف فيهما وفيما اشتملتا عليه فكيف يعجب من ظهر على يده فعل بما ظهر { وَٱللَّهُ عَلَىٰ كُلّ شَيْء قَدِيرٌ } [آل عمران: 189] لا يقدر سواه على فعل ما حتى يحجب برؤيته.