خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

يُدَبِّرُ ٱلأَمْرَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ إِلَى ٱلأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ
٥
-السجدة

روح المعاني

{ يُدَبّرُ ٱلأَمْرَ } قيل: أي أمر الدنيا وشؤونها، وأصل التدبير النظر في دابر الأمر والتفكر فيه ليجىء محمود العاقبة وهو في حقه عز وجل مجاز عن إرادة الشيء على وجه الإتقان ومراعاة الحكمة والفعل مضمن معنى الإنزال والجاران في قوله تعالى: { مِنَ ٱلسَّمَاء إِلَى ٱلأَرْضِ } متعلقان به و(من) ابتدائية و(إلى) انتهائية أي يريده تعالى على وجه الإتقان ومراعاة الحكمة منزلاً له من السماء إلى الأرض، وإنزاله من السماء باعتبار أسبابه فإن أسبابه سماوية من الملائكة عليهم السلام وغيرهم { ثُمَّ يَعْرُجُ } أي يصعد ويرتفع ذلك الأمر بعد تدبيره { إِلَيْهِ } عز وجل وهذا العروج مجاز عن ثبوته في علمه تعالى أي تعلق علمه سبحانه به تعلقاً تنجيزياً بأن يعلمه جل وعلا موجوداً بالفعل أو عن كتابته في صحف الملائكة عليهم السلام القائمين بأمره عز وجل موجوداً كذلك.

{ فِى يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مّمَّا تَعُدُّونَ } أي في برهة متطاولة من الزمان فليس المراد حقيقة العدد، وعبر عن المدة المتطاولة بالألف لأنها منتهى المراتب وأقصى الغايات وليس مرتبة فوقها إلا ما يتفرع منها من أعداد مراتبها، والفعلان متنازعان في الجار والمجرور وقد أعمل الثاني منهما فيه فتفيد الآية طول امتداد الزمان بين تعلق إرادته سبحانه بوجود الحوادث في أوقاتها متقنة مراعى فيها الحكمة وبين وجودها كذلك، وظاهرها يقتضي أن وجودها لا يتوقف على تعلق الإرادة مرة أخرى بل يكفي فيه التعلق السابق وقيل: { فِى يَوْمٍ } متعلق بيعرج وليس الفعلان متنازعين فيه، والمراد بعروج الأمر إليه بعد تدبيره سبحانه إياه وصول خبر وجوده بالفعل كما دبر جل وعلا بواسطة الملك وعرضه ذلك في حضرة قد أعدها سبحانه للاختبار بما هو جل جلاله أعلم به إظهاراً لكمال عظمته تبارك وتعالى وعظيم سلطنته جلت سلطنته؛ وهذا كعرض الملائكة عليهم السلام أعمال العباد الوارد في الأخبار، وألف سنة على حقيقتها وهي مسافة ما بين الأرض ومحدب السماء الدنيا بالسير المعهود للبشر فإن ما بين السماء والأرض خمسمائة عام وثخن السماء كذلك كما جاء في الأخبار الصحيحة والملك يقطع ذلك في زمان يسير فالكلام على التشبيه فكأنه قيل: يريد تعالى الأمر متقناً مراعى فيه الحكمة بأسباب سماوية نازلة آثارها وأحكامها إلى الأرض فيكون كما أراد سبحانه فيعرج ذلك الأمر مع الملك ويرتفع خبره إلى حضرته سبحانه في زمان هو كألف سنة مما تعدون، وقيل: العروج إليه تعالى صعود خبر الأمر مع الملك إليه عز وجل كما هو مروي عن ابن عباس وقتادة ومجاهد وعكرمة والضحاك والفعلان متنازعان في { يَوْمٍ } والمراد أنه زمان تدبير الأمر لو دبره البشر وزمان العروج لو كان منهم أيضاً / وإلا فزمان التدبير والعروج يسير، وقيل: المعنى يدبر أمر الدنيا بإظهاره في اللوح المحفوظ فينزل الملك الموكل به من السماء إلى الأرض ثم يرجع الملك أو الأمر مع الملك إليه تعالى في زمان هو نظراً للنزول والعروج كألف سنة مما تعدون، وأريد به مقدار ما بين الأرض ومقعر سماء الدنيا ذهاباً وإياباً، والظاهر أن { يُدَبّرُ } عليه مضمن معنى الإنزال، والجاران متعلقان به لا بفعل محذوف أي فينزل به الملك من السماء إلى الأرض كما قيل، وزعم بعضهم أن ضمير { إِلَيْهِ } للسماء وهي قد تذكر كما في قوله تعالى: { السَّمَاء مُنفَطِرٌ بِهِ } [المزمل: 18] وقيل: المعنى يدبر سبحان أمر الدنيا كلها من السماء إلى الأرض لكل يوم من أيام الرب جل شأنه وهو ألف سنة كما قال سبحانه: { وَإِنَّ يَوْماً عِندَ رَبّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مّمَّا تَعُدُّونَ } [الحج: 47] ثم يصير إليه تعالى ويثبت عنده عز وجل ويكتب في صحف ملائكته جل وعلا كل وقت من أوقات هذه المدة ما يرتفع من ذلك الأمر ويدخل تحت الوجود إلى أن تبلغ المدة آخرها ثم يدبر أيضاً ليوم آخر وهلم جرا إلى أن تقوم الساعة، ويشير إلى هذا ما روي عن مجاهد قال: إنه تعالى يدبر ويلقي إلى الملائكة أمور ألف سنة من سنيننا وهو اليوم عنده تعالى فإذا فرغت ألقى إليهم مثلها، وعليه الأمر بمعنى الشأن والجاران متعلقان به أو بمحذوف حال منه ولا تضمين في { يُدَبّرُ } والعروج إليه تعالى مجاز عن ثبوته وكتبه في صحف الملائكة و { أَلْفَ سَنَةٍ } على ظاهره و { فِى يَوْمٍ } يتعلق بالفعلين واعمل الثاني كأنه قيل: يدبر الأمر ليوم مقداره كذا ثم يعرج إليه تعالى فيه كما تقول: قصدت ونظرت في الكتاب أي قصدت إلى الكتاب ونظرت فيه، ولا يمنع اختلاف الصلتين من التنازع، وتكرار التدبير إلى يوم القيامة يدل عليه العدول إلى المضارع مع أن الأمر ماض كأنه قيل: يجدد هذا الأمر مستمراً؛ وقيل: المعنى يدبر أمر الدنيا من السماء إلى الأرض إلى أن تقوم الساعة ثم يعرج إليه تعالى ذلك الأمر كله أي يصير إليه سبحانه ليحكم فيه في يوم كان مقداره ألف سنة وهو يوم القيامة، وعليه الأمر بمعنى الشأن والجاران متعلقان به أو بمحذوف حال منه كما في سابقه، والعروج إليه تعالى الصيرورة إليه سبحانه لا ليثبت في صحف الملائكة بل ليحكم جل وعلا فيه.

و { في يوم } متعلق بالعروج ولا تنازع، والمراد بيوم مقداره كذا يوم القيامة، ولا ينافي هذا قوله تعالى: { كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ } بناء على أحد الوجهين فيه لتفاوت الاستطالة على حسب الشدة أو لأن ثم خمسين موطناً كل موطن ألف سنة، وقيل: المعنى ينزل الوحي مع جبريل عليه السلام من السماء إلى الأرض ثم يرجع إليه تعالى ما كان من قبوله أو رده مع جبريل عليه السلام في يوم مقدار مسافة السير فيه ألف سنة وهو ما بين السماء والأرض هبوطاً وصعوداً، فالأمر عليه مراد به الوحي كما في قوله تعالى: { يُلْقِى ٱلرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ } [غافر: 15] والعروج إليه تعالى عبارة عن خبر القبول والرد مع عروج جبريل عليه السلام والتدبير والعروج في اليوم لكن على التوسع والتوزيع فالفعلان متنازعان في الظرف ولكن لا اختلاف في الصلة ولا تنافي الآية على هذا قوله تعالى شأنه: { { تَعْرُجُ ٱلْمَلَـٰئِكَةُ وَٱلرُّوحُ إِلَيْهِ فِى يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ } [المعارج: 4] بناء على الوجه الآخر فيه وستعرفهما إن شاء الله تعالى لأن العروج فيه إلى العرش وفيها إلى السماء الدنيا وكلاهما عروج إلى الله تعالى على التجوز.

وقيل: المراد بالأمر المأمور به من الطاعات والأعمال الصالحات، والمعنى ينزل سبحانه ذلك مدبراً من السماء إلى الأرض ثم لا يعمل به ولا يصعد إليه تعالى ذلك المأمور به خالصاً كما يرتضيه إلا في مدة متطاولة لقلة الخلص من العباد وعليه { يُدَبّرُ } مضمن معنى الإنزال و(من) و(إلى) متعلقان به، ومعنى العروج الصعود كما في قوله / تعالى: { إِلَيْهِ يَصْعَدُ ٱلْكَلِمُ ٱلطَّيّبُ } [فاطر: 10] والغرض من الألف استطالة المدة، والمعنى استقلال عبادة الخلص واستطالة مدة ما بين التدبير والوقوع، و { ثُمَّ } للاستبعاد، واستدل لهذا المعنى بقوله تعالى إثر ذلك: { قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ } [السجدة: 9] لأن الكلام بعضه مربوط بالبعض وقلة الشكر مع وجود تلك الإنعامات دالة على الاستقلال المذكور. وقيل: المعنى يدبر أمر الشمس في طلوعها من المشرق وغروبها في المغرب ومدارها في العالم من السماء إلى الأرض وزمان طلوعها إلى أن تغرب وترجع إلى موضعها من الطلوع مقداره في المسافة ألف سنة وهي تقطع ذلك في يوم وليلة. هذا ما قالوه في الآية الكريمة في بيان المراد منها، ولا يخفى على ذي لب تكلف أكثر هذه الأقوال ومخالفته للظاهر جداً وهي بين يديك فاختر لنفسك ما يحلو.

ويظهر لي أن المراد بالسماء جهة العلو مثلها في قوله تعالى: { { أأمنتم مَّن فِى ٱلسَّمَاء } [الملك: 16] وبعروج الأمر إليه تعالى صعود خبره كما سمعت عن الجماعة و { فِى يَوْمٍ } متعلق بالعروج بلا تنازع، وأقول: إن الآية من المتشابه وأعتقد أن الله تعالى يدبر أمور الدنيا وشؤونها ويريدها متقنة وهو سبحانه مستو على عرشه وذلك هو التدبير من جهة العلو ثم يصعد خبر ذلك مع الملك إليه عز وجل إظهاراً لمزيد عظمته جلت عظمته وعظيم سلطنته عظمت سلطنته إلى حكم هو جل وعلا أعلم بها وكل ذلك بمعنى لائق به تعالى مجامع للتنزيه مباين للتشبيه حسبما يقوله السلف في أمثاله، وقول بعضهم: العرش موضع التدبير وما دون موضع التفصيل وما دون السماوات موضع التصريف فيه رائحة ما مما ذكرنا، وأما تقدير يوم العروج هنا بألف سنة وفي آية أخرى بخمسين ألف سنة فقد كثر الكلام في توجيهه وقد تقدم لك بعض منه.

وأخرج عبد الرزاق وسعيد بن منصور وابن المنذر وابن أبـي حاتم وابن الأنباري في «المصاحف» والحاكم وصححه عن عبد الله بن أبـي مليكة قال: دخلت على ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنا وعبد الله بن فيروز مولى عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه فسأله عن قوله تعالى: { يُدَبّرُ ٱلأَمْرَ مِنَ ٱلسَّمَاء إِلَى ٱلأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِى يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ } فكأن ابن عباس اتهمه فقال: ما يوم كان مقداره خمسين ألف سنة؟ فقال: إنما سألتك لتخبرني فقال رضي الله تعالى عنه: هما يومان ذكرهما الله تعالى في كتابه الله تعالى أعلم بهما وأكره أن أقول في كتاب الله ما لا أعلم فضرب الدهر من ضرباته حتى جلست إلى ابن المسيب فسأله عنهما إنسان فلم يخبر ولم يدر فقلت: ألا أخبرك بما سمعت من ابن عباس؟ قال: بلى فأخبرته فقال للسائل: هذا ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أبى أن يقول فيهما وهو أعلم مني.

وبعض المتصوفة يسمون اليوم المقدر بألف سنة باليوم الربوبـي واليوم المقدر بخمسين ألف سنة باليوم الإلهي، ومحـي الدين قدس سره يسمى الأول يوم الرب والثاني يوم المعارج، وقد ذكر ذلك وأياماً أخر كيوم الشأن ويوم المثل ويوم القمر ويوم الشمس ويوم زحل وأيام سائر السيارة ويوم الحمل وأيام سائر البروج في «الفتوحات»، وقد سألت رئيس الطائفة الكشفية الحادثة في عصرنا في كربلاء عن مسألة فكتب في جوابها ما كتب واستطرد بيان إطلاقات اليوم وعد من ذلك أربعة وستين إطلاقاً، منها إطلاقه على اليوم الربوبـي وإطلاقه على اليوم الإلهي وأطال الكلام في ذلك المقام، ولعلنا إن شاء الله تعالى ننقل لك منه شيئاً معتداً به في موضع آخر، وسنذكر إن شاء الله تعالى أيضاً تمام الكلام فيما يتعلق بالجمع بني هذه الآية وقوله سبحانه: { { تَعْرُجُ ٱلْمَلَٰئِكَةُ وَٱلرُّوحُ إِلَيْهِ فِى يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ } [المعارج: 4] وقوله تعالى: { مّمَّا تَعُدُّونَ } صفة { أَلْفٍ } أو صفة { سَنَةٍ }.

وقرأ ابن أبـي عبلة { يَعْرُجُ } بالبناء للمفعول والأصل يعرج به فحذف الجار واستتر الضمير. وقرأ جناح بن حبيش { ثم يعرج ٱلْمَلَـٰئِكَةَ إليه } بزيادة الملائكة قال أبو حيان: ولعله تفسير منه لسقوطه في سواد المصحف.

/ وقرأ السلمي وابن وثاب والأعمش والحسن بخلاف عنه { يَعْدُونَ } بياء الغيبة.