خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

ٱلنَّبِيُّ أَوْلَىٰ بِٱلْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ وَأُوْلُواْ ٱلأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَىٰ بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ ٱللَّهِ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ وَٱلْمُهَاجِرِينَ إِلاَّ أَن تَفْعَلُوۤاْ إِلَىٰ أَوْلِيَآئِكُمْ مَّعْرُوفاً كَانَ ذَلِكَ فِي ٱلْكِتَابِ مَسْطُوراً
٦
-الأحزاب

روح المعاني

{ ٱلنَّبِىُّ أَوْلَىٰ بِٱلْمُؤْمِنِينَ } أي أحق وأقرب إليهم { مّنْ أَنفُسِهِمْ } أو أشد ولاية ونصرة لهم منها فإنه عليه الصلاة والسلام لا يأمرهم ولا يرضى منهم إلا بما فيه صلاحهم ونجاحهم بخلاف النفس فإنها إما أمارة بالسوء وحالها ظاهر أو لا فقد تجهل بعض المصالح وتخفى عليها بعض المنافع وأطلقت الأولوية ليفيد الكلام أولويته عليه الصلاة والسلام في جميع الأمور ويعلم من كونه صلى الله عليه وسلم أولى بهم من أنفسهم كونه عليه الصلاة والسلام أولى بهم من كل من الناس، وقد أخرج البخاري وغيره عن أبـي هريرة عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ما من مؤمن إلا وأنا أولى الناس به في الدنيا والآخرة اقرؤا إن شئتم النبـي أولى بالمؤمنين من أنفسهم فأيما مؤمن ترك مالاً فليرثه عصبته من كانوا فإن ترك ديناً أو ضياعاً فليأتني فأنا مولاه" ولا يلزم عليه كون الأنفس هنا مثلها في قوله تعالى: { وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ } [النساء: 29] لأن إفادة الآية المدعى على الظاهر ظاهرة أيضاً، وإذا كان صلى الله عليه وسلم بهذه المثابة في حق المؤمنين يجب عليهم أن يكون أحب إليهم من أنفسهم وحكمه عليه الصلاة والسلام عليهم أنفذ من حكمها وحقه آثر لديهم من حقوقها وشفقتهم عليه أقدم من شفقتهم عليها.

وسبب نزول الآية على ما قيل ما روي من أنه عليه الصلاة والسلام أراد غزوة تبوك فأمر الناس بالخروج فقال أناس منهم: نستأذن آباءنا وأمهاتنا فنزلت، ووجه دلالتها على السبب أنه صلى الله عليه وسلم إذا كان أولى من أنفسهم فهو أولى من الأبوين بالطريق الأولى ولا حاجة إلى حمل { أنفسهم } عليه على خلاف المعنى المتبادر كما أشرنا إليه آنفاً.

{ وَأَزْوٰجُهُ أُمَّهَـٰتُهُمْ } أي منزلات منزلة أمهاتهم في تحريم النكاح واستحقاق التعظيم وأما فيما عدا ذلك من النظر إليهن والخلوة بهن وإرثهن ونحو ذلك فهن كالأجنبيات، وفرع على هذ القسطلاني في «المواهب» أنه لا يقال لبناتهن أخوات المؤمنين في الأصح، والطبرسي وهو شيعي أنه لا يقال لإخوانهن أخوال المؤمنين، ولا يخفى أنه يسر حسوا بارتغاء، وفي «المواهب» أن في جواز النظر إليهن وجهين أشهرهما المنع، ولكون وجه الشبه مجموع ما ذكر قالت عائشة رضي الله تعالى عنها لامرأة قالت لها يا أمه: أنا أم رجالكم لا أم نسائكم أخرجه ابن سعد وابن المنذر والبيهقي في «سننه» عنها، ولا ينافي هذا استحقاق التعظيم منهن أيضاً. وأخرج ابن سعد عن أم سلمة رضي الله تعالى عنها أنها قالت أنا أم الرجال منكم والنساء وعليه يكون ما ذكر وجه الشبه بالنسبة إلى الرجال وأما بالنسبة إلى النساء فهو استحقاق التعظيم.

والظاهر أن المراد من أزواجه كل من أطلق عليها أنها زوجة له صلى الله عليه وسلم من طلقها ومن لم يطلقها، وروى ذلك ابن أبـي حاتم عن مقاتل فيثبت الحكم لكلهن وهو الذي نص عليه الإمام الشافعي وصححه في «الروضة»، وقيل: لا يثبت الحكم لمن فارقها عليه الصلاة والسلام في الحياة كالمستعيذة والتي رأى بكشحها بياضاً، وصحح إمام الحرمين والرافعي في «الصغير» تحريم المدخول بها فقط لما روي أن الأشعث بن قيس نكح المستعيذة في زمن عمر رضي الله تعالى عنه فهم عمر برجمه فأخبره أنها لم تكن مدخولاً بها فكف، وفي رواية أنه رضي الله تعالى عنه هم برجمها فقالت له: ولم هذا؟ وما ضرب عليَّ حجاب ولا سميت للمسلمين أماً فكف عنها، وذكر في «المواهب» أن في حل من اختارت منهن الدنيا للأزواج طريقين. أحدهما: طرد الخلاف والثاني: القطع بالحل، واختار هذا الإمام / والغزالي، وحكي القول بأن المطلقة لا يثبت لها هذا الحكم عن الشيعة، وقد رأيت في بعض كتبهم نفي الأمومة عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالوا: لأن النبـي صلى الله عليه وسلم فوض إلى علي كرم الله تعالى وجهه أن يبقى من يشاء من أزواجه ويطلق من يشاء منهن بعد وفاته وكالة عنه عليه الصلاة والسلام وقد طلق رضي الله تعالى عنه عائشة يوم الجمل فخرجت عن الأزواج ولم يبق لها حكمهن وبعد أن كتبت هذا اتفق لي أن نظرت في كتاب ألفه سليمان بن عبد الله البحراني عليه من الله تعالى ما يستحق في مثالب جمعٍ من الصحابة - حاشى رضي الله تعالى عنهم - فرأيت ما نصه:

روى أبو منصور أحمد بن أبـي طالب الطبرسي في كتاب «الاحتجاج» عن سعد بن عبد الله أنه سأل القائم المنتظر وهو طفل في حياة أبيه فقال له يا مولانا وابن مولانا روي لنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل طلاق نسائه إلى أمير المؤمنين علي كرم الله تعالى وجهه حتى أنه بعث في يوم الجمل رسولاً إلى عائشة وقال: إنك أدخلت الهلاك على الإسلام وأهله بالغش الذي حصل منك وأوردت أولادك في موضع الهلاك بالجهالة فإن امتنعت وإلا طلقتك فأخبرنا يا مولانا عن معنى الطلاق الذي فوض حكمه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أمير المؤمنين فقال: إن الله تقدس اسمه عظم شأن نساء النبـي صلى الله عليه وسلم فخصهن بشرف الأمهات فقال عليه الصلاة والسلام: يا أبا الحسن إن هذا الشرف باق ما دمنا على طاعة الله تعالى فأيتهن عصت الله تعالى بعدي بالخروج عليك فطلقها من الأزواج وأسقطها من شرف أمهات المؤمنين، ثم قال: وروى الطبرسي أيضاً في «الاحتجاج» عن الباقر أنه قال: لما كان يوم الجمل وقد رشق هودج عائشة بالنبل قال علي كرم الله تعالى وجهه: والله ما أراني إلا مطلقها فأنشد الله تعالى رجلاً سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: يا علي أمر نسائي بيدك من بعدي لما قام فشهد فقام ثلاثة عشر رجلاً فشهدوا بذلك الحديث، ورأيت في بعض الأخبار التي لا تحضرني الآن ما هو صريح في وقوع الطلاق اهـ ما قاله البحراني عامله الله تعالى بعدله. وهذا لعمري من السفاهة والوقاحة والجسارة على الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم بمكان وبطلانه أظهر من أن يخفى وركاكة ألفاظه تنادي على كذبه بأعلى صوت ولا أظنه قولاً مرضياً عند من له أدنى عقل منهم فلعن الله تعالى من اختلقه وكذا من يعتقده.

وأخرج الفريابـي والحاكم وابن مردويه والبيهقي في «سننه» عن ابن عباس أنه كان يقرأ: { ٱلنَّبِىُّ أَوْلَىٰ بِٱلْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَهُوَ أب لهم وَأَزْوٰجُهُ أُمَّهَـٰتُهُمْ } وأخرج ابن أبـي حاتم عن عكرمة أنه قال: كان في الحرف الأول { ٱلنَّبِىُّ أَوْلَىٰ بِٱلْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وهو أبوهم } وفي مصحف أبـي رضي الله تعالى عنه كما روى عبد الرزاق وابن المنذر وغيرهما { ٱلنَّبِىُّ أَوْلَىٰ بِٱلْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوٰجُهُ أُمَّهَـٰتُهُمْ وهو أب لهم } وإطلاق الأب عليه صلى الله عليه وسلم لأنه سبب للحياة الأبدية كما أن الأب سبب للحياة أيضاً بل هو عليه الصلاة والسلام أحق بالأبوة منه وعن مجاهد كل نبـي أب لأمته، ومن هنا قيل في قول لوط { هؤلاء بناتي } [هود: 78] أنه أراد المؤمنات ووجه ما ذكر، ويلزم من هذه الأبوة على ما قيل أخوة المؤمنين. ويعلم مما روي عن مجاهد أن الأبوة ليست من خصوصياته عليه الصلاة والسلام وهذا ليس كأمومة أزواجه فإنها على ما في «المواهب» من الخصوصيات فلا يحرم نكاح أزواج من عداه صلى الله عليه وسلم من الأنبياء عليهم السلام من بعدهم على أحد من أممهم.

{ وَأُوْلُواْ ٱلأَرْحَامِ } أي ذوو القرابات الشاملون للعصبات / لا ما يقابلهم { بَعْضُهُمْ أَوْلَىٰ بِبَعْضٍ } في النفع بميراث وغيره من النفع المالي أو في التوارث ويؤيده سبب النزول الآتي ذكره { فِى كِتَـٰبِ ٱللَّهِ } أي فيما كتبه في اللوح أو فيما أنزله وهي آية المواريث أو هذه الآية أو فيما كتبه سبحانه وفرضه وقضاه { مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ وَٱلْمُهَـٰجِرِينَ } صلة لأولى فمدخول { مِنْ } هو المفضل عليه وهي ابتدائية مثلها في قولك: زيد أفضل من عمرو أي أولو الأرحام بحق القرابة أولى في كل نفع أو بالميراث من المؤمنين بحق الدين ومن المهاجرين بحق الهجرة، وقال الزمخشري: يجوز أن يكون بياناً لأولو الأرحام أي الأقرباء من هؤلاء بعضهم أولى بأن يرث بعضاً من الأجانب، والأول هو الظاهر؛ وكان في المدينة توارث بالهجرة وبالموالاة في الدين فنسخ ذلك بآية آخر الأنفال أو بهذه الآية، وقيل: بالإجماع وأرادوا كشفه عن الناسخ وإلا فهو لا يكون ناسخاً كما لا يخفى، ورفع { بعضهم } يجوز أن يكون على البدلية وأن يكون على الابتداء و { فِى كِتَـٰبِ } متعلق بأولى ويجوز أن يكون حالاً والعامل فيه معنى { أُوْلِى } ولا يجوز على ما قال أبو البقاء أن يكون حالاً من { أُوْلُو } للفصل بالخبر ولأنه لا عامل إذاً.

وقوله تعالى: { إِلاَّ أَن تَفْعَلُواْ إِلَىٰ أَوْلِيَائِكُمْ مَّعْرُوفاً } إما استثناء متصل من أعم ما تقدر الأولوية فيه من النفع كأنه قيل: القريب أولى من الأجنبـي من المؤمنين والمهاجرين في كل نفع من ميراث وصدقة وهدية ونحو ذلك إلا في الوصية فإنها المرادة بالمعروف فالأجنبـي أحق بها من القريب الوارث فإنها لا تصح لوارث، وإما استثناء منقطع بناءً على أن المراد بما فيه الأولوية هو التوارث فيكون الاستثناء من خلاف الجنس المدلول عليه بفحوى الكلام كأنه قيل: لا تورثوا غير أولي الأرحام لكن فعلكم إلى أوليائكم من المؤمنين والمهاجرين الأجانب معروفاً وهو أن توصوا لمن أحببتم منهم بشيء جائز فيكون ذلك له بالوصية لا بالميراث، ويجوز أن يكون المعروف عاماً لما عدا الميراث، والمتبادر إلى الذهن انقطاع الاستثناء واقتصر عليه أبو البقاء ومكي وكذا الطبرسي وجعل المصدر مبتدأ محذوف الخبر كما أشرنا إليه.

وتفسير الأولياء بمن كان من المؤمنين والمهاجرين هو الذي يقتضيه السياق فهو من وضع الظاهر موضع الضمير بناءً على أن { مِنْ } فيما تقدم للابتداء لا للبيان، وأخرج ابن جرير وغيره عن مجاهد تفسيره بالذين والى بينهم النبـي صلى الله عليه وسلم من المهاجرين والأنصار، وأخرج ابن المنذر وابن جرير وابن أبـي حاتم عن محمد بن الحنفية أنه قال: نزلت هذه الآية في جواز وصية المسلم لليهودي والنصراني، وأخرجوا عن قتادة أنه قال: الأولياء القرابة من أهل الشرك والمعروف الوصية؛ وحكى في «البحر» عن جماعة منهم الحسن وعطاء أن الأولياء يشمل القريب والأجنبـي المؤمن والكافر وأن المعروف أعم من الوصية، وقد أجازها للكافر القريب وكذا الأجنبـي جماعة من الفقهاء والإمامية يجوزونها لبعض ذوي القرابة الكفار وهم الوالدان والولد لا غير، والنهي عن اتخاذ الكفار أولياء لا يقتضي النهي عن الإحسان إليهم والبر لهم. وعدى { تَفْعَلُواْ } بإلى لتضمنه معنى الإيصال والإسداء كأنه قيل: إلا أن تفعلوا مسدين إلى أوليائكم معروفاً.

{ كَانَ ذَلِكَ } أي ما ذكر في الآيتين أعني { ٱدْعُوهُمْ لأَِبَائِهِمْ } [الأحزاب: 5] و { ٱلنَّبِىُّ أَوْلَىٰ بِٱلْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ } وجوز أن يكون إشارة إلى ما سبق من أول السورة إلى هنا أو إلى ما بعد قوله تعالى: { مَّا جَعَلَ ٱللَّهُ لِرَجُلٍ مّن قَلْبَيْنِ } [الأحزاب: 4] أو إلى ما ذكر في الآية الأخيرة وفيه بحث { فِى ٱلْكِتَـٰبِ } أي في اللوح أو القرآن وقيل في التوراة { مَسْطُورًا } أي مثبتاً بالأسطار وعن / قتادة أنه قال في بعض القراءات: كان ذلك عند الله مكتوباً أن لا يرث المشرك المؤمن فلا تغفل.