خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَآفَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ ٱلنَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ
٢٨
-سبأ

روح المعاني

{ وَمَا أَرْسَلْنَـٰكَ إِلاَّ كَافَّةً لّلنَّاسِ } المتبادر أن { كَافَّةً } حال من (الناس) قدم مع (إلا) عليه للاهتمام / كما قال ابن عطية، وأصله من الكف بمعنى المنع وأريد به العموم لما فيه من المنع من الخروج واشتهر في ذلك حتى قطع النظر فيه عن معنى المنع بالكلية فمعنى جاء الناس كافة جاؤوا جميعاً، ويشير إلى هذا الإعراب ما أخرج ابن أبـي شيبة وابن المنذر عن مجاهد أنه قال في الآية: أي إلى الناس جميعاً، وما أخرج ابن أبـي حاتم عن محمد بن كعب أنه قال: أي للناس كافة، وكذا ما أخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن أبـي حاتم عن قتادة أنه قال في الآية: أرسل الله تعالى محمداً صلى الله عليه وسلم إلى العرب والعجم فاكرمهم على الله تعالى أطوعهم له، وما نقل عن ابن عباس أنه قال: أي إلى العرب والعجم وسائر الأمم، وهو مبني على جواز تقديم الحال على صاحبها المجرور بالحرف وهو الذي ذهب إليه خلافاً لكثير من النحاة أبو علي وابن كيسان وابن برهان والرضى وابن مالك حيث قال:

وسبق حال ما بحرف جرقد أبوا ولا أمنعه فقد ورد

وأبو حيان حيث قال بعد أن نقل الجواز عمن عدا الرضي من المذكورين: وهو الصحيح ومن أمثلة أبـي على زيد خير ما يكون خير منك، وقال الشاعر:

إذا المرء أعيته المروءة ناشئا فمطلبها كهلاً عليه شديد

وقال آخر:

تسليت طرا عنكم بعد بينكم بذكراكم حتى كأنكم عندي

وقد جاء تقديم الحال على صاحبها المجرور وعلى ما يتعلق به، ومن ذلك قوله:

مشغوفة بك قد شغفت وإنما حتم الفراق فما إليك سبيل

وقول آخر:

غافلاً تعرض المنية للمر ء فيدعى ولات حين إباء

وإذا جاز تقديمها على المجرور والعامل فتقديمها عليه دون العامل أجوز انتهى، وجعلوا هذا الوجه أحسن الأوجه في الآية وقالوا: إن ما عداه تكلف، واعترض بأنه يلزم عليه عمل ما قبل (إلا) وهو ـ أرسل ـ فيما بعدها وهو { لِلنَّاسِ } وليس بمستثنى ولا مستثنى منه ولا تابعاً له وقد منعوه، وأجيب بأن التقدير وما أرسلناك للناس إلا كافة فهو مقدم رتبة ومثله كاف في صحة العمل مع أنهم يتوسعون في الظرف ما لا يتوسعون في غيره.

وقال الخفاجي عليه الرحمة: الأحسن أن يجعل { لِلنَّاسِ } مستثنى على أن الاستثناء فيه مفرغ وأصله ما أرسلناك لشيء من الأشياء إلا لتبليغ الناس كافة، وأما تقديره بما أرسلناك للخالق مطلقاً إلا للناس كافة على أنه مستثنى فركيك جداً اهـ، ولا يخفى أن في الآية على ما استحسنه حذف المضاف والفصل بين أداة الاستثناء والمستثنى وتقديم الحال على صاحبها والكل خلاف الأصل وقلما يجتمع مثل ذلك في الكلام الفصيح. واعترض عليه أيضاً بأنه يلزم حينئذ جعل اللام في { لِلنَّاسِ } بمعنى إلى وليس بشيء لأن أرسل يتعدى باللام وإلى كما ذكره أبو حيان وغيره فلا حاجة إلى جعلها بمعنى إلى على أنه لو جعلت بمعناها لا يلزم خطأ أصلا لمجيء كل من اللام وإلى بمعنى الآخر، وكذا لا حاجة إلى جعلها تعليلية إلا على ما استحسنه الخفاجي.

وقال غيرو احد: إن { كَافَّةً } اسم فاعل من كف والتاء فيه للمبالغة كتاء راوية ونحو وهو حال من مفعول { أَرْسَلْنَـٰكَ } و { لِلنَّاسِ } متعلق به وإليه ذهب أبو حيان أي ما أرسلناك إلا كافاً ومانعاً للناس عن الكفر والمعاصي. وإلى الحالية من الكاف ذهب أبو علي أيضاً إلا أنه قال: المعنى إلا جامعاً للناس في الإبلاغ. وتعقبه أبو حيان بان اللغة لا تساعد على ذلك لأن كف ليس بمحفوظ أن معناه جمع، وفيه منع ظاهر لأنه يقال: كف القميص / إذا جمع حاشيته وكف الجرح إذا ربطه بخرقة تحيط به وقد قال ابن دريد: كل شيء جمعته فقد كففته مع أنه جوز أن يكون مجازاً من المنع لأن ما يجمع يمتنع تفرقه وانتشاره، وقيل إنه مصدر كالكاذبة والعاقبة والعافية وهو أيضاً حال من الكاف إما باق على مصدريته بلا تقدير شيء مبالغة وإما بتأويل اسم الفاعل أو بتقدير مضاف أي إلا ذا كافة أي ذا كف أي منع للناس من الكفر، وقيل ذا منع من أن يشذوا عن تبليغك.

وذهب بعضهم إلى أنه مصدر وقع مفعولاً له ولم يشترط في نصبه اتحاد الفاعل كما ارتضاه الرضى، وذهب العلامة الزمخشري إلى أنه اسم فاعل من الكف صفة لمصدر محذوف وتاؤه للتأنيث أي ما أرسلناك إلا إرسالة كافة أي عامة لهم محيطة بهم لأنها إذا شملتهم فقد كفتهم عن أن يخرج منها أحد منهم. واعترض عليه بأن كافة لم ترد عن العرب إلا منصوبة على الحال مختصة بالمتعدد من العقلاء وأن حذف الموصوف وإقامة الصفة مقامه إنما يكون لما عهد وصفه بها بحيث لا تصلح لغيره وأجيب بأن (كافة) هٰهنا غير ما التزم فيه الحالية وإن رجعا إلى معنى واحد، وما قيل من أنه لم تستعمله العرب إلا كذلك ليس بشيء وإقامة الصفة مقام موصوفها منقاس مطرد بدون شرط إذا قامت عليه قرينة، وذكر الفعل قبله دال على تقدير مصدره كما في قمت طويلاً وحسناً أي قياماً طويلاً وحسناً. وفي «الحواشي الخفاجية» قد صح أن عمر رضي الله تعالى عنه قال في كتابه لآل بني كاكلة: قد جعلت لآل بني كاكلة على كافة بيت المسلمين لكل عام مائتي مثقال ذهباً إبريزاً وقاله علي كرم الله تعالى وجهه حين أمضاه فقد استعمل هذان الإمامان كافة في غير العقلاء وغير منصوب على الحالية. ولا يخفى أن بعض ما اعترض به على هذا الوجه يعترض به على بعض الأوجه السابقة أيضاً، والجواب هو الجواب.

والذي اختاره في الآية ماهو المتبادر، ولا بأس بالتقدم والاستعمال وارد عليه ولا قياس يمنعه، وأمر تخطي العامل إلا إلى ما ليس مستثنى ولا مستثنى منه سهل لحديث التوسع في الظرف، والآية عليه أظهر في الاستدلال على عموم رسالته صلى الله عليه وسلم وهو في ذلك كقوله تعالى: { { قُلْ يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِنّى رَسُولُ ٱللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا } [الأعراف: 158] ولو استدل بها القاضي أبو سعيد لبهت اليهودي، وقد يستدل عليه بما لا يكاد ينكره من فعله صلى الله عليه وسلم مع اليهود في عصره ودعوته عليه الصلاة والسلام إياهم إلى الإسلام.

{ بَشِيراً } لمن أسلم بالثواب { وَنَذِيرًا } لمن لم يسلم بالعقاب، والوصفان حالان من مفعول { أَرْسَلْنَـٰكَ } وقد يجعلان على بعض الأوجه السابقة بدلاً من { كَافَّةً } نحو بدل المفصل من المجمل فتأمل. { وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ ٱلنَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ } ذلك فيحملهم جهلهم على الإصرار على ما هم عليه من الغي والضلال