خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

أَفْتَرَىٰ عَلَى ٱللَّهِ كَذِباً أَم بِهِ جِنَّةٌ بَلِ ٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِٱلآخِرَةِ فِي ٱلْعَذَابِ وَٱلضَّلاَلِ ٱلْبَعِيدِ
٨
-سبأ

روح المعاني

{ أَفْتَرَىٰ عَلَى ٱللَّهِ كَذِبًا } فيما ينسب إليه من أمر البعث { أَم بِهِ جِنَّةٌ } أي جنون يوهمه ذلك ويلقيه على لسانه، واستدل به أبو عمرو الجاحظ على ما ذهب إليه من أن صدق الخبر مطابقته للواقع مع الاعتقاد وكذبه عدمها معه وغيرهما ليس بصدق ولا كذب، وذلك أن الكفار وهم عقلاء من أهل اللسان عارفون باللغة حصروا أخبار النبـي صلى الله عليه وسلم بالبعث في الافتراء والاخبار حال الجنة على سبيل منع الخلو بالمعنى الأعم ولا شك أن المراد بالثاني غير الكذب لأنه قسيمه وغير الصدق لأنهم اعتقدوا عدمه، وأيضاً لا دلالة لقولهم { أَم بِهِ جِنَّةٌ } على معنى أم صدق بوجه من الوجوه فيجب أن يكون بعض الخبر ما ليس بصادق ولا كاذب ليكون ذلك منه بزعمهم وإن كان صادقاً في نفس الأمر، وتوضيحه أن ظاهر كلامهم هذا يدل على طلب تعيين أحد حالي النبـي صلى الله عليه وسلم المستويين في اعتقاد المتكلم حين الإخبار بالبعث وهو يستلزم تعيين أحد حالي الخبر والاستفهام هٰهنا للتقرير فيفيد ثبوت أحد الحالين للخبر ولا شك أن ثبوت أحدهما لا يثبت الواسطة ما لم يعتبر تنافيهما وكذا تنافيهما في الجمع لا يثبتها بل لا بد من تنافيهما في الارتفاع يعني أن خبره عليه الصلاة والسلام بالبعث لا يخلو عن أحد الأمرين المتنافيين فيكون المراد بالثاني ما هو مناف وقسيم للأول ومعلوم أنه غير الصدق فليس الصدق عبارة عن مطابقة الواقع فقط والكذب عن عدم المطابقة له كما يقول الجمهور أو عن مطابقة الاعتقاد له وعدم مطابقته له كما يقول النظام فيكونان عبارتين عن مطابقتهما وعدم مطابقتهما وتثبت الواسطة.

وأجيب بأن معنى { أَم بِهِ جِنَّةٌ } أم لم يفتر فعبر عن عدم الافتراء بالجنة لأن المجنون يلزمه أن لا افتراء له كما دل عليه نقل الأئمة واستعمال العرب الكذب عن عمد ولا عمد للمجنون فالثاني ليس قسيماً للكذب بل لما هو أخص منه أعني الافتراء فيكون ذلك حصراً للخبر الكاذب بزعمهم في نوعيه الكذب عن عمد والكذب لا عن عمد ولو سلم أن الافتراء بمعنى الكذب مطلقاً فالمعنى الافتراء أقصد الافتراء أي الكذب أم لم يقصد بل كذب بلا قصد لما به من الجنة. وقيل: المعنى افترى أم لم يفتر بل به جنون وكلام المجنون ليس بخبر لأنه لا قصد له يعتد به ولا شعور فيكون مرادهم حصره في جنونه خبراً كاذباً أو ليس بخبر فلا يثبت خبر لا يكون صادقاً ولا كاذباً، ونوقش فيه كما لا يخفى على من راجع كتب المعاني.

بقي هٰهنا بحث وهو أن الطيبي أشار إلى أن مبنى الاستدلال كون { أَمْ } متصلة واعترضه بأن الظاهر كونها منقطعة أما لفظاً فلاختلاف مدخول الهمزة وأم وأما معنى فلأن الكفرة المعاندين لما أخرجوا قولهم { هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَىٰ رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ } [سبأ: 7] مخرج الظن والسخرية متجاهلين برسول الله صلى الله عليه وسلم وبكلامه من إثبات الحشر والنشر وعقبوه بقولهم { أَفْتَرَىٰ عَلَى ٱللَّهِ كَذِبًا } أضربوا عنه إلى ما هو أبلغ منه ترقياً من الأهون إلى الأغلظ من نسبة الجنون إليه وحاشاه صلى الله عليه وسلم فكأنهم قالوا: دعوا حديث الافتراء فإن هٰهنا ما هو أطم منه لأن العاقل كيف يحدث بإنشاء خلق جديد بعد الرفات والتراب، ولما كان التعويل على ما بعد الإضراب من إثبات الجنون أوقع الإضراب الثاني في كلامه تعالى رداً لقولهم ونفياً للجنون عنه صلوات الله / تعالى وسلامه عليه وإثباتاً له فيهم إلى آخر ما قال.

ولم يرتض ذلك صاحب «الكشف» فقال في كلام «الكشاف» إشارة إلى أن (أم) متصلة وفائدة العدول عن الفعل في جن إيماء إلى أن الثابت هو ذلك الشق كأنه قيل: أعن افتراء هذا الكذب العجاب أم جنون، والتقابل لأن المجنون لا افتراء له فالاستدلال على الانقطاع بتخالف العديلين ساقط؛ وأما الترقي في الاتصال أيضاً على ما لوح إليه بوجه ألطف اهـ. وأنت تعلم أن ظاهر الاستدلال يقتضي الاتصال لكن قال الخفاجي: إن كون الاستدلال مبنياً على الاتصال غير مسلم فتأمل، والظاهر أفترى على الله كذباً أم به جنة من قول بعضهم لبعض. وفي «البحر» يحتمل أن يكون من كلام السامع المجيب لمن قال { { هَلْ نَدُلُّكُمْ } [سبأ: 7] ردد بين شيئين ولم يجزم بأحدهما لما في كل من الفظاعة.

{ بَلِ ٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِٱلأَخِرَةِ فِى ٱلْعَذَابِ وَٱلضَّلَـٰلِ ٱلْبَعِيدِ } إبطال من جهته تعالى لما قالوا بقسيميه وإثبت ما هو أشد وأفظع لهم ولذا وضع { ٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ } موضع الضمير توبيخاً لهم وإيماء إلى سبب الحكم بما بعده كأنه قيل: ليس الأمر كما زعموا بل هم في كمال اختلال العقل وغاية الضلال عن الفهم والإدراك الذي هو الجنون حقيقة وفيما يؤدي إليه ذلك من العذاب حيث أنكروا حكمة الله تعالى في خلق العالم وكذبوه عز وجل في وعده ووعيده وتعرضوا لسخطه سبحانه. وتقديم العذاب على ما يوجبه ويستتبعه للمسارعة إلى بيان ما يسوءهم ويفت في أعضادهم والإشعار بغاية سرعة ترتبه عليه كأنه يسابقه فيسبقه، ووصف الضلال بالبعيد الذي هو وصف الضال للمبالغة لأن ضلالهم إذا كان بعيداً في نفسه فكيف بهم أنفسهم.