خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدّاً ومِنْ خَلْفِهِمْ سَدّاً فَأغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ
٩
-يس

روح المعاني

{ وَجَعَلْنَا } عطف على { { جَعَلْنَا } [يس: 8] السابق { مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ } من قدامهم { سَدّا } عظيماً وقيل نوعاً من السد { وَمِنْ خَلْفِهِمْ } من ورائهم { سَدّا } كذلك والقدام والوراء كناية عن جميع الجهات { فَأغْشَيْنَـٰهُمْ } فغطينا بما جعلناه من السد أبصارهم، وعن مجاهد { فَأغْشَيْنَـٰهُمْ } فألبسنا أبصارهم غشاوة { فَهُمُ } بسبب ذلك { لاَّ يُبْصِرُونَ } لا يقدرون على إبصار شيء ما أصلاً.

وقرأ جمع من السبعة وغيرهم { سَدّا } بضم السين وهي لغة فيه، وقيل ما كان من عمل الناس فهو بالفتح وما كان من خلق الله تعالى فهو بالضم، وقيل بالعكس وقرأ ابن عباس وعمر بن عبد العزيز وابن يعمر وعكرمة والنخعي وابن سيرين والحسن وأبو رجاء وزيد بن علي وأبو حنيفة ويزيد البربري ويزيد بن المهلب وابن مقسم { فأغشيانهم } بالعين من العشا وهو ضعف البصر، ومجموع المتعاطفين من قوله تعالى: { إِنَّا جَعَلْنَا } الخ تأكيد وتقرير لما دل عليه قوله سبحانه: { لَقَدْ حَقَّ ٱلْقَوْلُ عَلَىٰ أَكْثَرِهِمْ } [يس: 7] الخ من / سوء اختيارهم وقبح حالهم فإن جعل الله تعالى إياهم بما أظهر فيهم من الإعجاب العظيم بأنفسهم مستكبرين عن اتباع الرسل عليهم السلام شامخين برؤوسهم غير خاضعين لما جاؤوا به وسد أبواب النظر فيما ينفعهم عليهم بالكلية ليس إلا لأنهم سيئو الاختيار وقبيحو الأحوال قد عشقت ذواتهم ما هم عليه عشقاً ذاتياً وطلبته طلباً استعدادياً فلم تكن لها قابلية لغيره ولم تلتفت إلى ما سواه، وإذا قايست بين ذواتهم وما هم عليه وبين الجسم والحيز أو الثلاثة والفردية مثلاً لم تكد تجد فرقاً { وَمَا ظَلَمَهُمُ ٱللَّهُ وَلـٰكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ } [النحل: 33] ففي الكلام تشبيهات متعددة كما لوحنا إليه، وهذا الوجه هو الذي يقتضيه ما عليه كثير من الأجلة وإن لم يذكروه في الآية؛ وفي «الانتصاف» إذا فرق التشبيه كان تصميمهم على الكفر مشبهاً بالأغلال وكان استكبارهم عن قبول الحق والتواضع لاستماعه مشبهاً بالإقماح لأن المقمح لا يطأطأ رأسه، وقوله تعالى: { { فَهِىَ إِلَى ٱلأَذْقَـٰنِ } [يس: 8] تتمة للزوم الإقماح لهم وكان عدم النظر في أحوال الأمم الخالية مشبهاً بسد من خلفهم وعدم النظر في العواقب المستقبلة مشبهاً بسد من قدامهم وفي «التيسير» جمع الأيدي إلى الأذقان بالأغلال عبارة عن منع التوفيق حتى استكبروا عن الحق لأن المتكبر يوصف برفع العنق والمتواضع بضده كما في قوله تعالى: { فَظَلَّتْ أَعْنَـٰقُهُمْ لَهَا خَـٰضِعِينَ } [الشعراء: 4] ولم يذكر المراد بجعل السد، وذكر الإمام أن المانع عن النظر في الآيات قسمان قسم يمنع عن النظر في الأنفس فشبه ذلك بالغل الذي يجعل صاحبه مقمحاً لا يرى نفسه ولا يقع بصره على بدنه وقسم يمنع عن النظر في الآفاق فشبه ذلك بالسد المحيط فإن المحاط بالسد لا يقع نظره على الآفاق فلا يظهر له ما فيها من الآيات فمن ابتلي بهما حرم عن النظر بالكلية.

واختار بعضهم كون { { إِنَّا جَعَلْنَا } [يس: 8] الخ تمثيلاً مسوقاً لتقرير تصميمهم على الكفر وعدم ارعوائهم عنه فيكون قد مثل حالهم في ذلك بحال الذين غلت أعناقهم، وجوز في قوله تعالى: { وَجَعَلْنَا } الخ أن يكون تتمة لذلك وتكميلاً له وأن يكون تمثيلاً مستقلاً فإن جعلهم محصورين بين سدين هائلين قد غطيا أبصارهم بحيث لا يبصرون شيئاً قطعاً كاف في الكشف عن كمال فظاعة حالهم وكونهم محبوسين في مطمورة الغي والجهالات.

وقال أبو حيان الظاهر أن قوله تعالى: { إِنَّا جَعَلْنَا } الآية على حقيقتها لما أخبر تعالى أنهم لا يؤمنون أخبر سبحانه عن شيء من أحوالهم في الآخرة إذا دخلوا النار، والتعبير بالماضي لتحقق الوقوع، ولا يضعف هذا كما زعم ابن عطية قوله تعالى: { فَأغْشَيْنَـٰهُمْ فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ } لأن بصر الكافر يومئذٍ حديد يرى قبح حاله، ألا ترى إلى قوله سبحانه: { وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ ٱلْقِيَـٰمَةِ عَلَىٰ وُجُوهِهِمْ عُمْيًا } [الإسراء: 97] وقوله سبحانه: { قَالَ رَبّ لِمَ حَشَرْتَنِى أَعْمَىٰ } [طه: 125] فإما أن يكون ذلك حالين وإما أن يكون قوله تعالى: { فَبَصَرُكَ ٱلْيَوْمَ حَدِيدٌ } [ق: 22] كناية عن إدراكه ما يؤول إليه حتى كأنه يبصره، واعترض بعضهم عليه بأنه يلزم أن يكون الكلام أجنبياً في البين وتوجيهه بأنه كالبيان لقوله تعالى: { لَقَدْ حَقَّ ٱلْقَوْلُ عَلَىٰ أَكْثَرِهِمْ } [يس: 7] قد دغدغ فيه، والإنصاف أنه خلاف الظاهر.

وقال الضحاك والفراء في قوله تعالى: { إِنَّا جَعَلْنَا فِى أَعْنـٰقِهِمْ أَغْلَـٰلاً } [يس: 8] استعارة لمنعهم من النفقة في سبيل الله تعالى كما قال سبحانه: { { وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَىٰ عُنُقِكَ } [الإسراء: 29] ولعله جعل الجملة الثانية استعارة لمنعهم عن رؤية الخير والسعي فيه، ولا يخفى أن كون الكلام على هذا أجنبياً في البين في غاية الظهور.

وأخرج ابن مردويه وأبو نعيم في «الدلائل» عن ابن عباس قال: كان النبـي صلى الله عليه وسلم يقرأ في المسجد فيجهر بالقراءة فتأذى به ناس من قريش حتى قاموا ليأخذوه فإذا أيديهم مجموعة إلى أعناقهم وإذا هم لا يبصرون فجاؤا إلى النبـي صلى الله عليه وسلم فقالوا: ننشدك الله تعالى والرحم يا محمد قال: ولم يكن بطن من بطون قريش إلا وللنبـي صلى الله عليه وسلم فيهم قرابة / فدعا النبـي عليه الصلاة والسلام حتى ذهب ذلك عنهم فنزلت { { يسۤ وَٱلْقُرْآنِ ٱلْحَكِيمِ } [يس: 1-2] ـ إلى قوله سبحانه: { أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ } [يس: 10] فلم يؤمن من ذلك النفر أحد.

وروي أن الآيتين نزلتا في بني مخزوم وذلك أن أبا جهل حمل حجراً لينال بها ما يريد برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلي فأثبتت يده إلى عنقه حتى عاد إلى أصحابه والحجر قد لزق بيده فما فكوه إلا بجهد فأخذه مخزومي آخر فلما دنا من الرسول صلى الله عليه وسلم طمس الله تعالى بصره فعاد إلى أصحابه فلم يبصرهم حتى نادوه فقام ثالث فقال: لأشدخن أنا رأسه ثم أخذ الحجر وانطلق فرجع القهقرى ينكص على عقبيه حتى خر على قفاه مغشياً عليه فقيل له: ما شأنك؟ قال: عظيم رأيت الرجل فلما دنوت منه فإذا فحل ما رأيت فحلاً أعظم منه حال بيني وبينه فواللات والعزى لو دنوت منه لأكلني فجعل الغل يكون استعارة عن منع من أراد أذاه عليه الصلاة والسلام وجعل السد استعارة عن سلب قوة الإبصار كما قيل، وقال السدي: السد ظلمة حالت فمنعت الرؤية، وجاء في الآثار غير ذلك مما يقرب منه والربط عليها غير ظاهر، ولعله باعتبار إشارة الآيتين إلى ما هو عليه من التصميم على الكفر وشدة العناد؛ ومع هذا الأرجح في نظر البليغ حمل الكلام على غير ما تقتضيه ظواهر الآثار مما سمعت وليس فيها ما ينافيه عند التحقيق فتأمل.