خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَىٰ إِسْحَاقَ وَمِن ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ مُبِينٌ
١١٣
-الصافات

روح المعاني

{ وَبَـٰرَكْنَا عَلَيْهِ } أي على إبراهيم عليه السلام { وَعَلَىٰ إِسْحَـٰقَ } أي أفضنا عليهما بركات الدين والدنيا بأن كثرنا نسلهما وجعلنا منهم أنبياء ورسلاً. وقرىء { بركنا } بالتشديد للمبالغة { وَمِن ذُرّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ } في عمله أو على نفسه بالإيمان والطاعة.

{ وَظَـٰلِمٌ لّنَفْسِهِ } بالكفر والمعاصي ويدخل فيها ظلم الغير { مُّبِينٌ } ظاهر ظلمه، وفي ذلك تنبيه على أن النسب لا أثر له في الهدى والضلال وأن الظلم في الأعقاب لا يعود على الأصول بنقيصة وعيب.

هذا وفي الآيات بعد أبحاث الأول أنهم اختلفوا في الذبيح فقال ـ على ما ذكره الجلال السيوطي في رسالته "القول الفصيح في تعيين الذبيح" ـ علي وابن عمر وأبو هريرة وأبو الطفيل وسعيد بن جبير ومجاهد والشعبـي ويوسف بن مهران والحسن البصري ومحمد بن كعب القرظي وسعيد بن المسيب وأبو جعفر الباقر وأبو صالح والربيع بن أنس والكلبـي وأبو عمرو بن العلاء وأحمد بن حنبل وغيرهم أنه إسماعيل عليه السلام لا إسحاق عليه السلام وهو إحدى الروايتين عن ابن عباس ورجحه جماعة خصوصاً غالب المحدثين وقال أبو حاتم: هو الصحيح. وفي "الهدي" أنه الصواب عند علماء الصحابة والتابعين فمن بعدهم. وسئل أبو سعيد الضرير عن ذلك فأنشد:

إن الذبيح هديت إسماعيل نص الكتاب بذاك والتنزيل
شرف به خص الإله نبينا وأتى به التفسير والتأويل
إن كنت أمته فلا تنكر له شرفاً به قد خصه التفضيل

وفي دعواه النص نظر وهو المشهور عند العرب قبل البعثة أيضاً كما يشعر به أبيات نقلها الثعالبـي في "تفسيره" عن أمية بن أبـي الصلت واستدل له بأنه الذي وهب لإبراهيم عليه السلام إثر الهجرة وبان البشارة بإسحاق/ بعد معطوفة على البشارة بهذا الغلام، والظاهر التغاير فيتعين كونه إسماعيل وبأنه بشر بأن يوجد وينبأ فلا يجوز ابتلاء إبراهيم عليه السلام بذبحه لأنه علم أن شرط وقوعه منتف. والجواب بأن الأول بشارة بالوجود وهذا بشارة بالنبوة ولكن بعد الذبح، قال صاحب "الكشف": ضعيف لأن نظم الآية لا يدل على أن البشارة بنبوته بل على أن البشارة بأمر مقيد بالنبوة فإما أن يقدر بوجود إسحاق بعد الذبح ولا دلالة في اللفظ عليه وإما أن يقدر الوجود مطلقاً وهو المطلوب، فإن قلت: يكفي الدلالة تقدم البشارة بالوجود أولاً قلت: ذاك عليك لا لك ومن يسلم أن المتقدم بشارة بإسحاق حتى يستتب لك المرام وبأن البشارة به وقعت مقرونة بولادة يعقوب منه على ما هو الظاهر في قوله تعالى في هود [71]: { { فَبَشَّرْنَـٰهَا بِإِسْحَـٰقَ وَمِن وَرَاء إِسْحَـٰقَ يَعْقُوبَ } ومتى بشر بالولد وولد الولد دفعة كيف يتصور الأمر بذبح الولد مراهقاً قبل ولادة ولده؟ ومنع كونه إذ ذاك مراهقاً لجواز أن يكون بالغاً كما ذهب إليه اليهود قد ولد له يعقوب وغيره مكابرة لا يلتفت إليها وبأنه تعالى وصف إسماعيل عليه السلام بالصبر في قوله سبحانه: { وَإِسْمَـٰعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا ٱلْكِفْلِ كُلٌّ مّنَ ٱلصَّـٰبِرِينَ } [الأنبياء: 85] وبأنه عز وجل وصفه بصدق الوعد في قوله تعالى: { { إِنَّهُ كَانَ صَـٰدِقَ ٱلْوَعْدِ } [مريم: 54] ولم يصف سبحانه إسحاق بشيء منهما فهو الأنسب دونه بأن يقول القائل: { { يٰأَبَتِ ٱفْعَلْ مَا تُؤمَرُ سَتَجِدُنِى إِن شَاء ٱللَّهُ مِنَ ٱلصَّـٰبِرِينَ } [الصافات: 102] المصدق قوله بفعله وبأن ما وقع كان بمكة وإسماعيل هو الذي كان فيها وبأن قرني الكبش كانا معلقين في الكعبة حتى احترقا معها أيام حصار الحجاج ابن الزبير رضي الله تعالى عنه وكانا قد توارثهما قريش خلفاً عن سلف، والظاهر أن ذاك لم يكن منهم إلا للفخر ولا يتم لهم إذا كان الكبش فدى لإسحاق دون أبيهم إسماعيل، وبأنه روى الحاكم في «المستدرك» وابن جرير في "تفسيره" والأموي في "مغازيه" والخلعي في "فوائده" من طريق إسماعيل بن أبـي كريمة عن عمر بن أبـي محمد الخطابـي عن العتبـي عن أبيه عن عبد الله بن سعيد الصنابجي قال: حضرنا مجلس معاوية فتذاكر القوم إسماعيل وإسحاق أيهما الذبيح؟ فقال بعض القوم: إسماعيل وقال بعضهم: بل إسحاق فقال معاوية: على الخبير سقطتم كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتاه أعرابـي فقال: يا رسول الله خلفت الكلأ يابساً والماء عابساً هلك العيال وضاع المال فعد عليَّ مما أفاء الله تعالى عليك يا ابن الذبيحين فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم ينكر عليه فقال القوم: من الذبيحان يا أمير المؤمنين؟ قال: إن عبد المطلب لما أمر بحفر زمزم نذر لله تعالى إن سهل أمرها أن ينحر بعض بنيه فلما فرغ أسهم بينهم فكانوا عشرة فخرج السهم على عبد الله فأراد أن ينحره فمنعه أخواله بنو مخزوم وقالوا: أرض ربك وافد ابنك ففداه بمائة ناقة قال معاوية: هذا واحد والآخر إسماعيل وبأنه ذكر في التوراة أن الله تعالى امتحن إبراهيم فقال له: يا إبراهيم فقال: لبيك قال: خذ ابنك وحيدك الذي تحبه وامض إلى بلد العبادة وأصعده ثم قربانا على أحد الجبال الذي أعرفك به فإن معنى وحيدك الذي ليس لك وغيره لا يصدق ذلك على إسحاق حين الأمر بالذبح لأن إسماعيل كان موجوداً إذ ذاك لأنه ولد لإبراهيم على ما في التوراة وهو ابن ست وثمانين سنة وولد إسحاق على ما فيها أيضاً وهو ابن مائة سنة، وأيضاً قوله تعالى الذي تحبه أليق بإسماعيل لأن أول ولد له من المحبة في الأغلب ما ليس لمن بعده من الأولاد، ويعلم مما ذكر أن ما في التوراة الموجودة بأيدي اليهود اليوم من ذكر هو إسحاق بعد الذي تحبه من زياداتهم وأباطيلهم التي أدرجوها في كلام الله تعالى إذ لا يكاد يلتئم مع ما قبله. وأجاب بعض اليهود عن ذلك بأن إطلاق الوحيد على إسحاق لأن/ إسماعيل كان إذ ذاك بمكة وهو تحريف وتأويل باطل لأنه لا يقال الوحيد وصفاً للابن إلا إذا كان واحداً في البنوة ولم يكن له شريك فيها، وقال لي بعض منهم: إن إطلاق ذلك عليه لأنه كان واحداً لأمه ولم يكن لها ابن غيره فقلت: يبعد ذلك كل التبعيد إضافته إلى ضمير إبراهيم عليه السلام، ويؤيد ما قلنا ما قاله ابن إسحاق ذكر محمد بن كعب أن عمر بن عبد العزيز أرسل إلى رجل كان يهودياً فأسلم وحسن إسلامه وكان من علمائهم فسأله أي ابني إبراهيم أمر بذبحه؟ فقال إسماعيل: والله يا أمير المؤمنين وأن يهود لتعلم بذلك ولكنهم يحسدونكم معشر العرب، وذكر ابن كثير أن في بعض نسخ التوراة بكرك بدل وحيدك وهو أظهر في المطلوب.

وقيل: هو إسحاق ونسبه القرطبـي للأكثرين وعزاه البغوي وغيره إلى عمر وعلي وابن مسعود والعباس وعكرمة وسعيد بن جبير ومجاهد والشعبـي وعبيد بن عمير وأبـي ميسرة وزيد بن أسلم وعبد الله بن شقيق والزهري والقاسم بن يزيد ومكحول وكعب وعثمان بن حاضر والسدي والحسن وقتادة وأبـي الهذيل وابن سابط ومسروق وعطاء ومقاتل وهو إحدى الروايتين عن ابن عباس واختاره أبو جعفر بن جرير الطبري وجزم به القاضي عياض في "الشفاء" والسهيلي في "التعريف والإعلام" واستدل له بأنه لم يذكر الله تعالى أنه بشر بإسماعيل قبل كونه فهو إسحاق لثبوته بالنص ولأنه لم تكن تحته هاجر أم إسماعيل فالمدعو ولد من سارة.

وأجيب بأنه كفى هذه الآية دليلاً على أنه مبشر به أيضاً لأن قوله تعالى: { وَبَشَّرْنَـٰهُ بِإِسْحَـٰقَ } [الصافات: 112] بعد استيفاء هذه القصة وتذييلها بما ذيل ظاهر الدلالة على أن هنالك بشارتين متغايرتين ثم عدم الذكر لا يدل على عدم الوجود ولا يلزم أن يكون طلب ولد من سارة ولا علم أنه عليه السلام دعا بذلك قبل أن وهبت هاجر منه لأنها أهديت إليه في حران قبل الوصول إلى الشام على أن البشارة بإسحاق كانت في الشام نصاً فظاهر هذه الآية أنها قبل الوصول إليها لأن البشارة عقيب الدعاء وكان قبل الوصول إلى الشام قاله في «الكشف».

وبما رواه ابن جرير عن أبـي كريب عن زيد بن حباب عن الحسن بن دينار عن علي بن زيد بن جدعان عن الحسن عن الأحنف بن قيس عن العباس بن عبد المطلب عن النبـي صلى الله عليه وسلم قال: "الذبيح إسحاق" . وتعقب بأن الحسن بن دينار متروك وشيخه منكر الحديث، وبما أخرج الديلمي في "مسند الفردوس" من طريق عبد الله بن ناجية عن محمد بن حرب النسائي عن عبد المؤمن بن عباد عن الأعمش عن عطية عن أبـي سعيد الخدري قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن داود سأل ربه مسألة فقال اجعلني مثل إبراهيم وإسحاق ويعقوب فأوحى الله تعالى إليه إني ابتليت إبراهيم بالنار فصبر وابتليت إسحاق بالذبح فصبر وابتليت يعقوب فصبر" وبما أخرجه الدارقطني والديلمي في "مسند الفردوس" من طريقه عن محمد بن أحمد بن إبراهيم الكاتب عن الحسين بن فهم عن خلف بن سالم عن بهز بن أسد عن شعبة عن أبـي إسحاق عن أبـي الأحوص عن ابن مسعود قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم الذبيح إسحاق" وبما أخرجه الطبراني في "الأوسط" وابن أبـي حاتم في "تفسيره" من طريق الوليد بن مسلم عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن أبيه عن عطاء بن يسار عن أبـي هريرة قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الله تعالى خيرني بين أن يغفر لنصف أمتي أو شفاعتي فاخترت شفاعتي ورجوت أن تكون أعم لأمتي ولولا الذي سبقني إليه العبد الصالح لعجلت دعوتي إن الله تعالى لما فرج عن إسحاق كرب الذبح قيل له: يا إسحاق سل تعطه قال: أما والله لأتعجلنها قبل نزغات الشيطان/ اللهم من مات لا يشرك بك شيئاً قد أحسن فاغفر له" وتعقب هذا بأن عبد الرحمن ضعيف، وقال ابن كثير الحديث غريب منكر وأخشى أن يكون فيه زيادة مدرجة وهي قوله: إن الله تعالى لما فرج الله الخ وإن كان محفوظاً فالأشبه أن السياق عن إسماعيل وحرفوه بإسحاق إلى غير ذلك من الأخبار وفيها من الموقوف والضعيف والموضوع كثير، ومتى صح حديث مرفوع في أنه إسحاق قبلناه ووضعناه على العين والرأس. والذاهبون إلى هذا القول يدعون صحة شيء منها في ذلك.

وأجيب عن بعض ما استدل به للأول بأن وقوع القصة بمكة غير مسلم بل كان ذلك بالشام وتعليق القرنين في الكعبة لا يدل على وقوعها بمكة لجواز أنهما نقلا من بلاد الشام إلى مكة فعلقا فيها، وعلى تسليم الوقوع بمكة لا مانع من أن يكون إبراهيم قد سار به من الشام إليها بل قد روي القول به، أخرج عبد الله بن أحمد في «زوائد الزهد» عن سعيد بن جبير قال: لما رأى إبراهيم في المنام ذبح إسحاق سار به من منزله إلى المنحر بمنى مسيرة شهر في غداة واحدة فلما صرف عنه الذبح وأمر بذبح الكبش ذبحه ثم راح به رواحاً إلى منزله في عشية واحدة مسيرة شهر طويت له الأودية والجبال، وأمر الفخر لو سلم ليس بالاستدلال به كثير فخر، والخبر الذي فيه "يا ابن الذبيحين" غريب وفي إسناده من لا يعرف حاله وفيه ما هو ظاهر الدلالة على عدم صحته من قوله فلما فرغ أسهم بينهم فكانوا عشرة فخرج السهم على عبد الله فإن عبد الله بإجماع أهل الأخبار لم يكن مولوداً عند حفر زمزم، وقصة نذر عبد المطلب ذبح أحد أولاده تروى بوجه آخر وهو أنه نذر الذبح إذا بلغ أولاده عشراً فلما بلغوها بولادة عبد الله كان ما كان.

وما شاع من خبر "أنا ابن الذبيحين" قال العراقي: لم أقف عليه، والخبر السابق بعد ما عرف حاله لا يكفي لثبوته حديثاً فلا حاجة إلى تأويله بأنه أريد بالذبيحين فيه إسحاق وعبد الله بناءً على أن الأب قد يطلق على العم أو أريد بهما الذابحان وهما إبراهيم وعبد المطلب يحمل فعيل على معنى فاعل لا مفعول، وحمل هؤلاء { وَبَشَّرْنَـٰهُ بِإِسْحَـٰقَ نَبِيّاً } [الصافات: 112] على البشارة بنبوته وما تقدم على البشارة بأن يوجد قبل ولما كان التبشير هناك قبل الولادة والتسمية إنما تكون بعدها في الأغلب لم يسم هناك وسماه هنا لأنه بعد الولادة واستأنس للاتحاد بوصفه بكونه من الصالحين لأن مطلوبه كان ذلك فكأنه قيل له هذا الغلام الذي بشرت به أولاً هو ما طلبته بقولك: { رَبّ هَبْ لِى مِنَ ٱلصَّـٰلِحِينِ } [الصافات: 100] وأنت تعلم أن حمله على البشارة بالنبوة خلاف الظاهر إذ كان الظاهر أن يقال لو أريد ذلك بشرناه بنبوته ونحوه. وتقدير أن يوجد نبياً لا يدفعه كما لا يخفى وكذا وصفه بالصلاح الذي طلبه فتأمل.

ومن العلماء من رأى قوة الأدلة من الطرفين ولم يترجح شيء منها عنده فتوقف في التعيين كالجلال السيوطي عليه الرحمة فإنه قال في آخر "رسالته" السابقة: كنت ملت إلى القول بأن الذبيح إسحاق في "التفسير" وأنا الآن متوقف عن ذلك، وقال بعضهم كما نقله الخفاجي: إن في الدلالة على كونه إسحاق أدلة كثيرة وعليه جملة أهل الكتاب ولم ينقل في الحديث ما يعارضه فلعله وقع مرتين مرة بالشام لإسحاق ومرة بمكة لإسماعيل عليهما السلام، والتوقف عندي خير من هذا القول، والذي أميل أنا إليه أنه إسماعيل عليه السلام بناءً على أن ظاهر الآية يقتضيه وأنه المروي عن كثير من أئمة أهل البيت ولم أتيقن صحة حديث مرفوع يقتضي خلاف ذلك، وحال أهل الكتاب لا يخفى على ذوي الألباب.

/ البحث الثاني: أنه استدل بما في القصة على جواز النسخ قبل الفعل وهو مذهب كثير من الأصوليين وخالف فيه المعتزلة والصيرفي، ووجه الاستدلال على ما قرره بعض الأجلة أن إبراهيم عليه السلام أمر بذبح ولده بدليل قوله: { { ٱفْعَلْ مَا تُؤمَرُ } [الصافات: 102] ولأنه عليه السلام أقدم على الذبح وترويع الولد ولو لم يكن مأموراً به لكان ذلك ممتنعاً شرعاً وعادة ونسخ عنه قبل الفعل لأنه لم يفعل ولو كان ترك الفعل مع حضور الوقت لكان عاصياً.

واعترض عليه بأنا لا نسلم أنه لو لم يفعل وقد حضر الوقت لكان عاصياً لجواز أن يكون الوقت موسعاً فيحصل التمكن فلا يعصى بالتأخير ثم ينسخ. وأجيب أما أولاً فبأنه لو كان موسعاً لكان الوجوب متعلقاً بالمستقبل لأن الأمر باق عليه قطعاً فإذا نسخ فقد نسخ تعلق الوجوب بالمستقبل وهو المانع من النسخ عندهم فإنهم يقولون: إذا تعلق الوجوب بالمستقبل مع بقاء الأمر عليه امتنع رفع ذلك التعلق بالنهي عنه والإ لزم توارد الأمر والنهي على شيء واحد وهو محال، فإذا جوزوا النسخ في الواجب الموسع في وقته قبل فعله مع أن الوجوب فيه تعلق بالمستقبل والأمر باق عليه فقد اعترفوا بجواز ما منعوه وهو المطلوب، وأما ثانياً فبأنه لو كان موسعاً لأخر الفعل ولم يقدم على الذبح وترويع الولد عادة إما رجاء أن ينسخ عنه وإما رجاء أن يموت فيسقط عنه لعظم الأمر ومثله ما يؤخر عادة.

وتعقب هذا بأن عادة الأنبياء عليهم السلام المبادرة إلى امتثال أمر الله تعالى على خلاف عادة أكثر الناس ولا تستبعد منهم خوارق العادات وإبراهيم من أجلهم قدراً سلمنا أن العادة ولو بالنسبة إلى الأنبياء تقتضي التأخير لكن من أين علم أنه عليه السلام لم يؤخر إلى آخر الوقت اتباعاً للعادة فالمعول عليه الجواب الأول وبه يتم الاستدلال، وربما دفعوه بوجوه أخر، منها أنه لم يؤمر بشيء وإنما توهم ذلك توهماً بإراءة الرؤيا ولو سلم فلم يؤمر بالذبح إنما أمر بمقدماته من إخراج الولد وأخذه المدية وتله للجبين، وتعقب هذا بأنه ليس بشيء لما مر من قوله: { ٱفْعَلْ مَا تُؤمَرُ } وإقدامه على الذبح والترويع المحرم لولا الأمر كيف ويدل على خلافه قوله تعالى: { { إِنَّ هَـٰذَا لَهُوَ ٱلْبَلاَء ٱلْمُبِينُ } [الصافات: 106] وقوله سبحانه: { وَفَدَيْنَـٰهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ } [الصافات: 107] ولولا الأمر لما كان بلاء مبيناً ولما احتاج إلى الفداء، وكون الفداء عن ظنه أنه مأمور بالذبح لا يخفى حاله، وعلى أصل المعتزلة هو توريط لإبراهيم عليه السلام في الجهل بما يظهر أنه أمر وليس بأمر وذلك غير جائز، ومن لا يجوز الظن الفاسد على الأنبياء عليهم السلام فهذا عنده أدنى من لا شيء.

ومنها أنا لا نسلم أنه لم يذبح بل روي أنه ذبح وكان كلما قطع شيئاً يلتحم عقيب القطع وأنه خلق صفيحة نحاس أو حديد تمنع الذبح، وتعقب بأن هذا لا يسمع، أما أولاً فلأنه خلاف العادة والظاهر ولم ينقل نقلاً معتبراً. وأجيب بأن الرواية سند للمنع والضعف لا ينافيه والاحتمال كاف في المقام ولا ريب في جوازه كإرسال الكبش من الجنة، وأما ثانياً فلأنه لو ذبح لما احتيج إلى الفداء، وكونه لأن الإزهاق لم يحصل ليس بشيء، ولو منع الذبح بالصفيحة مع الأمر به لكان تكليفاً بالمحال وهو لا يجوزونه ثم قد نسخ عنه وإلا لأثم بتركه فيكون نسخاً قبل التمكن فهو لنا لا علينا.

ومن السادة الحنفية من قال: ما نحن فيه ليس من النسخ لأنه رفع الحكم لا إلى بدل وهنا له بدل قائم مقامه كالفدية للصوم في حق الشيخ الفاني فعلم أنه لم يرفع حكم المأمور به. وفي "التلويح" فإن قيل: هب أن الخلف قام مقام الأصل لكنه استلزم حرمة الأصل أي ذبحه وتحريم الشيء بعد وجوبه نسخ لا محالة لرفع حكمه، قيل: لا نسلم كونه نسخاً وإنما يلزم لو كان حكماً شرعياً/ وهو ممنوع فإن حرمة ذبح الولد ثابتة في الأصل فزالت بالوجوب ثم عادت بقيام الشاة مقام الولد فلا تكون حكماً شرعياً حتى يكون ثبوتها نسخاً للوجوب انتهى.

وتعقب بأن هذا بناء على ما تقرر من أن رفع الإباحة الأصلية ليس نسخاً أما على أنه نسخ كما التزمه بعض الحنفية إذ لا إباحة ولا تحريم إلا بشرع كما قرروه يكون رفع الحرمة الأصلية نسخاً وإذا كان رفعها نسخاً أيضاً يبقى الإيراد المذكور من غير جواب على ما قرر في «شرح التحرير». هذا وتمام الكلام في حجة الفريقين مفصل في أصول الفقه وهذا المقدار كاف لغرض المفسر.

البحث الثالث: أنه استدل أبو حنيفة بالقصة على أن لو نذر أن يذبح ولده فعليه شاة، ووافقه في ذلك محمد، ونقله الإمام القرطبـي عن مالك. وفي "تنوير الأبصار" وشرحه "الدر المختار" نذر أن يذبح ولده فعليه شاة لقصة الخليل عليه السلام وألغاه الثاني والشافعي كنذره قتله ونقل الجصاص أن نذر القتل كنذر الذبح، واعترض على الإمام بأنه نذر معصية وجاء "لا نذر في معصية الله تعالى"، وقال هو: إن ذلك في شرع إبراهيم عليه السلام عبارة عن ذبح شاة ولم يثبت نسخه فليس معصية، وقال بعض الشافعية: ليس في النظم الجليل ما يدل على أنه كان نذراً من إبراهيم عليه السلام حتى يستدل به. وأجيب بأنه ورد في التفسير المأثور أنه نذر ذلك وهو في حكم النص ولذا قيل له لما بلغ معه السعي: أوف بنذرك، وبأنه إذا قامت الشاة مقام ما أوجبه الله تعالى عليه علم قيامها مقام ما يوجبه على نفسه بالطريق الأولى فيكون ثابتاً بدلالة النص، والإنصاف أن مدرك الشافعي وأبـي يوسف عليهما الرحمة أظهر وأقوى من مدرك الإمام الأعظم رضي الله تعالى عنه في هذه المسألة فتأمل.