خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

جُندٌ مَّا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِّن ٱلأَحَزَابِ
١١

روح المعاني

أي هم جند الخ، فجند خبر مبتدأ محذوف مقدر مقدماً كما هو الظاهر و (ما) مزيدة قيل للتقليل والتحقير نحو أكلت شيئاً ما، وقيل للتعظيم والتكثير، واعترض بأنه لا يلائمه { مَهْزُومٌ } وأجيب بأن الوصف بالعظمة والكثرة على سبيل الاستهزاء فهي بحسب اللفظ عظمة وكثرة وفي نفس الأمر ذلة وقلة، ورجح بأن الأكثر في كلامهم كونها للتعظيم نحو لأمر ما جدع قصير أنفه ـ لأمر ما يسود من يسود. وقول امرىء القيس:

وحديث الركب يوم هنا وحديث ما على قصره

مع أن الكلام لتسليته صلى الله عليه وسلم وتبشيره بانهزامهم وذلك أكمل على هذا التقدير بل قيل إن التبشير بخذلان عدد حقير ربما أشعر بإهانة وتحقير:

ألم تر أن السيف ينقص قدره إذا قيل إن السيف أمضى من العصا

وفيه نظر. و { هُنَالِكَ } صفة { جُندٌ } أو ظرف { مَهْزُومٌ } وهو إشارة إلى المكان البعيد وأريد به على قول المكان الذي تفاوضوا فيه مع الرسول صلى الله عليه وسلم بتلك الكلمات السابقة وهو مكة وجعل ذلك إخباراً بالغيب عن هزيمتهم يوم الفتح، وقيل يوم بدر وروي ذلك عن مجاهد وقتادة، وأنت خبير بأن (هنالك) إذا كان إشارة إلى مكة ومتعلقاً بمهزوم لا يتسنى هذا إلا إذا أريد من مكة ما يشمل بدراً، و { مَهْزُومٌ } خبر بعد خبر. وأصل الهزم غمز الشيء اليابس حتى ينحطم كهزم الشن وهزم القثاء والبطيخ ومنه الهزيمة لأنه كما يعبر عنه بالحطم والكسر، والتعبير عما لم يقع باسم المفعول المؤذن بالوقوع على ما في بعض "شروح الكشاف" للإيذان بشدة قربه حتى كأنه محقق. و { مّن ٱلأَحَزَابِ } صفة { جُندٌ } أي هم جند قليلون أذلاء أو كثيرون عظماء كائنون هنالك من الكفار المتحزبين على الرسل مكسورون عن قريب في مكانهم الذي تكلموا فيه بما تكلموا فلا تبال بما يقولون ولا تكترث بما يهذون.

وقال أبو البقاء { جُندٌ } مبتدأ و (ما) زائدة وهنالك نعت وكذا من الأحزاب ومهزوم خبر، وتعقبه أبو حيان بأن فيه بعد التفاتة عن/ الكلام الذي قبله، واعتبر الزمخشري الحصر أي ما هم إلا جند من المتحزبين مهزوم عن قريب لا يتجاوزون الجندية المذكورة إلى الأمور الربانية، وهو حسن إلا أنه اختلف في منشأ ذلك فقيل: إنه كان حق الجند أن يُعَرَّفَ لكونه معلوماً فنكر سوقاً للمعلوم مساق المجهول كأنه لا يعرف منهم إلا هذا القدر وهو أنهم جند بهذه الصفة. وقال صاحب "الكشف": إنه التفخيم المدلول عليه بالتنكير، وزيادة (ما) الدالة على الشيوع وغاية التعظيم لدلالتهما على اختصاص الوصف بالجندية من بين سائر الصفات كأنه لا وصف لهم غيرها، وفيه منع ظاهر، ويفهم كلام العلامة الثاني أنه اعتبار كون { جُندٌ } خبراً مقدماً لمبتدأ محذوف لأن المقام يقتضي الحصر فتدبر ولا تغفل.

وجعل الزمخشري { هُنَالِكَ } الموضع للإشارة إلى المكان البعيد مستعاراً للمرتبة من العلو والشرف على أنه ((إشارة إلى حيث وضعوا فيه أنفسهم من الانتداب لمثل ذلك القول العظيم كما في قولهم لمن انتدب لأمر ليس من أهله لست هنالك)) وفيه إيماء إلى علة الذم؛ وجوز على هذا أن تكون (ما) نافية أي هم جند ليسوا حيث وضعوا أنفسهم. وتعقب بأنه مما لم يقله أحد من أهل العربية ولا يليق بالمقام وفيه بحث، وجوز أن تكون { هُنَالِكَ } إشارة إلى الزمان البعيد وهي كما قال ابن مالك قد يشار بها إليه نحو قوله تعالى: { هُنَالِكَ تَبْلُواْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا أَسْلَفَتْ } [يونس: 30] وتتعلق بمهزوم.

والكلام إخبار بالغيب إما عن هزيمتهم يوم الفتح أو يوم بدر كما تقدم حكايته أو يوم الخندق ولا يخفى ما فيه. وقيل: إشارة إلى زمان الارتقاء في الأسباب أي هؤلاء القوم جند مهزوم إذا ارتقوا في الأسباب وليس بالمرضي. وقيل: (ما) اسم موصول مبتدأ و (هنالك) في موضع الصلة و (جند) خبر مقدم و (مهزوم) و (من الأحزاب) صفتان وهما المقصودان بالإفادة و (ما هنالك) إشارة إلى مكة، والمراد من الذين فيها المشركون والتعبير عنهم بما لأنهم كالأنعام بل هم أضل، وقيل الأصنام وعبدتها، وأمر التعبير بما عليه أظهر ويقال فيه نحو ما قاله أبو حيان في كلام أبـي البقاء وزيادة لا تخفى. وقوله تعالى: { كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وفِرْعَوْنُ... }.