خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

إِنَّا سَخَّرْنَا ٱلجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِٱلْعَشِيِّ وَٱلإِشْرَاقِ
١٨

روح المعاني

{ إِنَّا سَخَّرْنَا ٱلجِبَالَ مَعَهُ } استئناف لبيان قصته عليه السلام، وجوز كونه لتعليل قوته في الدين وأوابيته إلى الله عز وجل، ومع متعلقة بسخر، وإيثارها على اللام لأن تسخير الجبال له عليه السلام لم يكن بطريق تفويض التصرف الكلي فيها إليه كتسخير الريح وغيرها لسليمان عليه السلام بل بطريق الاقتداء به في عبادة الله تعالى. وأخر الظرف المذكور عن { ٱلْجِبَالُ } وقدم في سورة الأنبياء [79] فقيل: { { وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ ٱلْجِبَالَ } قال بعض الفضلاء: لذكر داود وسليمان ثمت فقدم مسارعة للتعيين ولا كذلك هنا، وجوز تعلقها بقوله تعالى: { يُسَبّحْنَ } وهو أقرب بالنسبة إلى آية الأنبياء، وتسبيحهن تقديس بلسان قال لائق بهن نظير تسبيح الحصى المسموع في كف النبـي صلى الله عليه وسلم، وقيل: تقديس بلسان الحال وتقييد بالوقتين المذكورين بعد يأباه إذ لا اختصاص لتسبيحهن الحالي بهما وكذا لا اختصاص له بكونه معه، وقيل المعنى يسرن معه على أن يسبحن من السباحة، والجملة حال من { ٱلْجِبَالُ } والعدول عن مسبحات مع أن الأصل في الحال الإفراد للدلالة على تجدد التسبيح حالاً بعد حال نظير ما في قول الأعشى:

لعمري لقد لاحت عيون كثيرة إلى ضوء نار في يفاع تحرق

وجوز أن تكون مستأنفة لبيان كيفية التسخير ومقابلتها بمحشورة هنا كالمعينة للحالية.

{ بِٱلْعَشِىّ } هو كما قال الراغب: من زوال الشمس إلى الصباح أي يسبحن بهذا الوقت وليس ذلك نصاً في استيعابه بالتسبيح { وَٱلإشْرَاقِ } أي ووقت الإشراق، قال ثعلب: يقال شرقت الشمس إذا طلعت وأشرقت إذا أضاءت وصفت فوقت الإشراق وقت ارتفاعها عن الأفق الشرقي وصفاء شعاعها وهو الضحوة الصغرى، وروي عن أم هانىء بنت أبـي طالب أن النبـي صلى الله عليه وسلم صلى صلاة الضحى وقال: هذه صلاة الإشراق، وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد عن عطاء الخراساني أن ابن عباس قال: لم يزل في نفسي من صلاة الضحى شيء حتى قرأت هذه الآية { يُسَبّحْنَ بِٱلْعَشِىّ وَٱلإشْرَاقِ } وفي رواية عنه أيضاً ما عرفت صلاة الضحى إلا بهذه الآية، ووجه فهم الحبر إياها من الآية أي كل تسبيح ورد في القرآن فهو عنده ما لم يرد به التعجب والتنزيه بمعنى الصلاة فحيث كانت صلاة لداود عليه السلام وقصت على طريق المدح علم منه مشروعيتها. وفي «الكشف» وجهه أن الآية دلت على تخصيصه عليه السلام ذينك الوقتين بالتسبيح وقد علم من الرواية أنه كان يصلي مسبحاً فيهما فحكى في القرآن ما كان عليه وإن لم يذكر كيفيته فيكون في الآية ذكر صلاة الضحى وهو المطلوب أو نقول: إن تسبيح الجبال/ غير تسبيح داود عليه السلام لأن الأول مجاز فحمل تسبيح داود على المجاز أيضاً لأن المجاز بالمجاز أنسب اهـ. وتعقب بأنه إذا علم من الرواية فكيف يقال إنه أخذه من الآية والتجوز ينبغي تقليله ما أمكن، وهذا بناءً على أن { مَعَهُ } متعلق بيسبحن حتى يكون هو عليه السلام مسبحاً أي مصلياً وإلا فتسبيح الجبال لا دلالة له على الصلاة، ومع هذا ففيه حينئذٍ جمع بين معنيين مجازيين إلا أن يقال به، أو يجعل بمعنى يعظمن ويجعل تعظيم كل محمولاً على ما يناسبه، وبعد اللتيا والتي لا يخلو عن كدر، وارتضى الخفاجي الأول وأراه لا يخلو عن كدر أيضاً. وقال الجلبـي في ذلك: يجوز أن يقال: تخصيص هذين الوقتين بالذكر دل على اختصاصهما بمزيد شرف فيصلح ذلك الشرف سبباً لتعيينهما للصلاة والعبادة فإن لفضيلة الأزمنة والأمكنة أثراً في فضيلة ما يقع فيهما من العبادات، وهذا عندي أصفى مما تقدم، ويشعر به ما أخرجه الطبراني في "الأوسط" وابن مردويه عن ابن عباس قال: كنت أمر بهذه الآية { يُسَبّحْنَ بِٱلْعَشِىّ وَٱلإشْرَاقِ } فما أدري ما هي حتى حدثتني أم هانىء أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى يوم فتح مكة صلاة الضحى ثمان ركعات فقال ابن عباس: قد ظننت أن لهذه الساعة صلاة لقوله تعالى: { يُسَبّحْنَ بِٱلْعَشِىّ وَٱلإشْرَاقِ }.

هذا ولهم في صلاة الضحى كلام طويل والحق سنيتها وقد ورد فيها كما قال الشيخ ولي الدين ابن العراقي أحاديث كثيرة صحيحة مشهورة حتى قال محمد بن جرير الطبري أنها بلغت مبلغ التواتر. ومن ذلك حديث أم هانىء الذي في «الصحيحين» وَزَعْمُ أن تلك الصلاة كانت صلاة شكر لذلك الفتح العظيم صادفت ذلك الوقت لا أنها عبادة مخصوصة فيه دون سبب أو أنها كانت قضاء عما شغل صلى الله عليه وسلم تلك الليلة من حزبه فيها خلاف ظاهر الخبر السابق عنها. وكذا ما رواه أبو داود من طريق كريب عنها أنها قالت "صلى عليه الصلاة والسلام سبحة الضحى"، ومسلم في كتاب الطهارة من طريق أبـي مرة عنها أيضاً ففيه "ثم صلى ثماني ركعات سبحة الضحى". وابن عبد البر في "التمهيد" من طريق عكرمة بن خالد أنها قالت: "قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة فصلى ثمان ركعات فقلت ما هذه الصلاة؟ قال: هذه صلاة الضحى".

واحتج القائلون بالنفي بحديث عائشة "إن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليدع العمل وهو يحب أن يعمل به خشية أن يعمل به الناس فيفرض عليهم وما سبح رسول الله صلى الله عليه وسلم سبحة الضحى قط وإني لأسبحها"، رواه البخاري ومسلم وأبو داود وأبو مالك، وحمله القائلون بالإثبات على نفي رؤيتها ذلك لما أنه روى عنها مسلم وأحمد وابن ماجه أنها قالت: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي الضحى أربعاً ويزيد ما شاء الله تعالى"، وقد شهد أيضاً بأنه عليه الصلاة والسلام كان يصليها على ما قال الحاكم أبو ذر الغفاري وأبو سعيد وزيد بن أرقم وأبو هريرة وبريدة الأسلمي، وأبو الدرداء وعبد الله بن أبـي أوفى وعتبان بن مالك وعتبة بن عبد السلمي ونعيم بن همام الغطفاني وأبو أمامة الباهلي وأم هانىء وأم سلمة، ومن القواعد المعروفة أن المثبت مقدم على النافي مع أن رواية الإثبات أكثر بكثير من رواية النفي وتأويلها أهون من تأويل تلك. وذكر الشافعية أنها أفضل التطوع بعد الرواتب لكن النووي في "شرح المهذب" قدم عليها صلاة التراويح فجعلها في الفضل بين الرواتب والضحى والمذهب عنهم وجوبها عليه صلى الله عليه وسلم وأن ذلك من خصوصياته عليه الصلاة والسلام، واحتج له بما أخرجه ابن العربـي بسنده عن عكرمة عن ابن عباس قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب على النحر ولم يكتب عليكم وأمرت بصلاة الضحى ولم تؤمروا/ بها" رواه الدارقطني أيضاً، وقال شيخ الحفاظ أبو الفضل بن حجر: إنه لم يثبت ذلك في خبر صحيح، وفي الأخبار ما يعكر على القول به، وذكر أن أقلها ركعتان لخبر البخاري عن أبـي هريرة أنه عليه الصلاة والسلام أوصاه بهما وأن لا يدعهما. وأدنى كمالها أربع لما صح كان صلى الله عليه وسلم يصلى الضحى أربعاً ويزيد ما شاء فست فثمان" وأكثرها اثنتا عشرة ركعة لخبر ضعيف يعمل به في مثل ذلك، وذهب الكثير إلى أن الأكثر ثمان. وذكروا أنها أفضل من اثنتي عشرة والعمل القليل قد يفضل الكثير فما يقتضيه "أجرك على قدر نصبك" أغلبـي. وصرح ابن حجر الهيتمي عليه الرحمة بالمغايرة بين صلاة الضحى وصلاة الإشراق قال: ومما لا يسن جماعة ركعتان عقب الإشراق بعد خروج وقت الكراهة وهي غير الضحى. وتقدم لك ما يفيد اتحادهما ويدل عليه غير ذلك من الأخبار، وصح إطلاق صلاة الأوابين على صلاة الضحى كإطلاقها على الصلاة المعروفة بعد المغرب. هذا وتمام الكلام فيها في كتب الفقه والحديث.