خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَىٰ بَعْضُكُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنكُم مِّيثَٰقاً غَلِيظاً
٢١
-النساء

روح المعاني

{ وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ } إنكار بعد إنكار، وقد بولغ فيه على ما تقدم في { { كَيْفَ تَكْفُرُونَ } [البقرة: 28]، وقيل: تعجيب منه سبحانه وتعالى أي إن أخذكم له لعجيب { وَقَدْ أَفْضَىٰ بَعْضُكُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ } كناية عن الجماع على ما روي عن ابن عباس ومجاهد والسدي. وقيل: المراد به الخلوة الصحيحة وإن لم يجامع واختاره الفراء ـ وبه قال أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه ـ وهو أحد قولين للإمامية، وفي «تفسير الكلبـي» عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ـ الإفضاء ـ الحصول معها في لحاف واحد جامعها أو لم يجامعها، ورجح القول الأول بأن الكلام كناية بلا شبهة، والعرب إنما تستعملها فيما يستحي من ذكره كالجماع، والخلوة لا يستحى من ذكرها فلا تحتاج إلى الكناية، وأيضاً في تعدية الإفضاء بإلى ما يدل على معنى الوصول والاتصال، وذلك أنسب بالجماع، ومن ذهب إلى الثاني قال: إنما سميت الخلوة إفضاءاً لوصول الرجل بها إلى مكان الوطء ولا يسلم أن الخلوة لا يستحى من ذكرها، والجملة حال من فاعل { تَأْخُذُونَهُ } مفيدة لتأكيد النكير وتقرير الاستبعاد أي على أي حال أو في أي [حال]تأخذونه، والحال أنه قد وقع منكم ما وقع { و } قد { أَخَذْنَ مِنكُم مّيثَـٰقاً } أي عهداً { غَلِيظاً } أي شديداً قال قتادة: هو ما أخذ الله تعالى للنساء على الرجال { فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَـٰنٍ } [البقرة: 229] ثم قال: وقد كان ذلك يؤخذ عند عقد النكاح فيقال: الله عليك لتمسكن بمعروف أو لتسرحن بإحسان، وروي ذلك عن الضحاك ويحيـى بن أبـي كثير وكثير، وعن مجاهد ـ الميثاق الغليظ ـ كلمة النكاح التي استحل بها فروجهن.

واستدل بالآية من منع الخلع مطلقاً وقال: إنها ناسخة لآية البقرة، وقال آخر: إنها منسوخة بها، وروي ذلك عن أبـي زيد وقال جماعة: لا ناسخة ولا منسوخة، والحكم الذي فيها هو الأخذ بغير طيب نفس، واستدل بها ـ كما قال ابن الفرس ـ قوم على جواز المغالاة في المهور. وأخرج أبو يعلى عن مسروق أن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه نهى أن يزاد في الصداق على أربعمائة درهم فاعترضته امرأة من قريش فقالت: أما سمعت ما أنزل الله تعالى { { وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَاراً } [النساء: 20] فقال: اللهم غفراً كل الناس أفقه من عمر ثم رجع فركب المنبر، فقال: إني كنت نهيتكم أن تزيدوا النساء في صدقاتهن على أربعمائة درهم فمن شاء أن يعطي من ماله ما أحب، وطعن الشيعة بهذا الخبر على عمر رضي الله تعالى عنه لجهله بهذه المسألة وإلزام امرأة له وقالوا: إن الجهل مناف للإمامة، وأجيب بأن الآية ليست نصاً في جواز إيتاء القنطار فإنها على حدّ قولك: إن جاءك زيد وقد قتل أخاك فاعف عنه، وهو لا يدل على جواز قتل الأخ سلمنا أنها تدل على جواز إيتائه إلا أنا لا نسلم جواز إيتائه مهراً بل يحتمل أن يكون المراد بذلك إعطاء الحلي وغيره لا بطريق المهر / بل بطريق الهبة، والزوج لا يصح له الرجوع عن هبته لزوجته خصوصاً إذا أوحشها بالفراق، وقوله تعالى: { وَقَدْ أَفْضَىٰ } لا يعين كون المؤتى مهراً سلمنا كونه مهراً لكن لا نسلم كون عدم المغالاة أفضل منه. فقد روى ابن حبان في «صحيحه» عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن من خير النساء أيسرهن صداقاً" وعن عائشة رضي الله تعالى عنها عنه صلى الله عليه وسلم "يمن المرأة تسهيل أمرها في صداقها" . وأخرج أحمد والبيهقي مرفوعاً "أعظم النساء بركة أيسرهن صداقاً" ، فنهى أمير المؤمنين عن التغالي يحتمل أنه كان للتيسير وميلاً لما هو الأفضل ورغبة فيما أشار إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم قولاً وفعلاً، وعدوله عن ذلك وعدم رده على القرشية كان من باب الترغيب في تتبع معاني القرآن واستنباط الدقائق منه، وفي إظهار الكبير العالم المغلوبية للصغير الجاهل تنشيط للصغير وإدخال للسرور عليه وحث له ولأمثاله على الاشتغال بالعلم وتحصيل ما يغلب به، فقوله رضي الله تعالى عنه: اللهم غفراً كل الناس أفقه من عمر كان من باب هضم النفس والتواضع وحسن الخلق وقد دعاه إليه ما دعاه، ومع هذا لم يأمرهم بالمغالاة بل قصارى أمره أنه رفع النهي عنهم وتركهم واختيارهم بين فاضل ومفضول ولا إثم عليهم في ارتكاب أي الأمرين شاءوا، سلمنا أن هذه المسألة قد غابت عن أفق ذهنه الشريف لكن لا نسلم أن ذلك جهل يضر بمنصب الإمامة فقد وقع لأمير المؤمنين عليّ كرم الله تعالى وجهه مثل ذلك وهو إمام الفريقين، فقد أخرج ابن جرير. وابن عبد البر عن محمد بن كعب قال: سأل رجل علياً كرم الله تعالى وجهه عن مسألة فقال فيها، فقال الرجل: ليس هكذا ولكن كذا وكذا، فقال الأمير: أصبت وأخطأنا { وَفَوْقَ كُلّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ } [يوسف: 76]، وقد وقع لداود عليه السلام ما قص الله تعالى لنا في كتابه من قوله سبحانه: { وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَـٰنَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِى ٱلْحَرْثِ } إلى أن قال عز من قائل: { { فَفَهَّمْنَـٰهَا سُلَيْمَـٰنَ } [الأنبياء: 78-79] فحيث لم ينقص ذلك من منصب النبوة والخلافة المشار إليها بقوله تعالى: { يٰدَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَـٰكَ خَلِيفَةً فِى ٱلأَرْضِ } [صۤ: 26] لا ينقص من منصب الإمامة كما لا يخفى، فمن أنصف جعل هذه الواقعة من فضائل عمر رضي الله تعالى عنه لا من مطاعنه، ولكن لا علاج لداء البغض والعناد { وَمَن يُضْلِلِ ٱللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ } [الرعد: 33].