خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً لَّهُمْ فِيهَآ أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِـلاًّ ظَلِيلاً
٥٧
-النساء

روح المعاني

{ وَٱلَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّـٰلِحَـٰتِ } عقب بيان سوء حال الكفرة ببيان حسن حال المؤمنين تكميلاً للمساءة والمسرة، وقدم بيان حال الأولين لأن الكلام فيهم، والمراد بالموصول إما المؤمنون بنبينا صلى الله عليه وسلم، وإما ما يعمهم وسائر من آمن من أمم الأنبياء عليهم السلام أي إن الذين آمنوا بما يجب الإيمان به وعملوا الأعمال الحسنة { سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّـٰتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَـٰرُ } قرأ عبد الله ـ سيدخلهم ـ بالياء والضمير للاسم الجليل، وفي السين تأكيد للوعد، وفي اختيارها هنا واختيار { سَوْفَ } في آية الكفر ما لا يخفى.

{ خَـٰلِدِينَ فِيهَا أَبَداً } إعظاماً للمنة وهو حال مقدرة من الضمير المنصوب في { سَنُدْخِلُهُمْ } وقوله تعالى: { لَّهُمْ فِيهَا أَزْوٰجٌ مُّطَهَّرَةٌ } أي من الحيض والنفاس وسائر المعايب والأدناس والأخلاق الدنيئة والطباع الرديئة لا يفعلن ما يوحش أزواجهن ولا يوجد فيهن ما ينفر عنهن، في محل النصب على أنه حال من (جنات)، أو حال ثانية من الضمير المنصوب أو أنه صفة لجنات بعد صفة، أو في محل الرفع على أنه خبر للموصول بعد خبر. والمراد أزواج كثيرة كما تدل عليه الأخبار.

{ وَنُدْخِلُهُمْ ظِـلاًّ ظَلِيلاً } أي فيناناً لا جوب فيه، ودائماً لا تنسخه الشمس وسجسجاً لا حر فيه ولا قرّ، رزقنا الله تعالى التفيؤ فيه برحمته إنه أرحم الراحمين، والمراد بذلك إما حقيقته ولا يمنع منه عدم الشمس وإما أنه إشارة إلى النعمة التامة الدائمة، والظليل صفة مشتقة من لفظ الظل للتأكيد كما هو عادتهم في نحو ـ يوم أيوم، وليل أليل ـ وقال الإمام المرزوقي: إنه مجرد لفظ تابع لما اشتق منه وليس له معنى وضعي بل هو ـ كبسن ـ في قولك: حسن بسن، وقرىء { يدخلهم } بالياء عطف على { سَيُدْخِلُهُمُ } لا على أنه غير الإدخال الأول بالذات بل بالعنوان كما في قوله تعالى: { { وَلَمَّا جَآءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُودًا وَٱلَّذِينَ ءامَنُواْ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مّنَّا وَنَجَّيْنَاهُمْ مّنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ } [هود: 58].

هذا ومن باب الإشارة: في الآيات { يَٰـأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَأَنتُمْ سُكَـٰرَىٰ حَتَّىٰ تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ } خطاب لأهل الإيمان العلمي، ونهي لهم أن يناجوا ربهم أو يقربوا مقام الحضور والمناجاة مع الله سبحانه وتعالى في حال كونهم سكارى خمر الهوى ومحبة الدنيا، أو نوم الغفلة حتى يصحوا ولا يشتغلوا بغير مولاهم، والمقصود النهي عن إشغال القلب بسوى الرب، وقيل: إنه خطاب لأهل المحبة والعشق الذين أسكرهم / شراب ليلى ومدام مي، فبقوا حيارى مبهوتين لا يميزون الحي من الليّ ولا يعرفون الأوقات ولا يقدرون على أداء شرائط الصلوات فكأنهم قيل لهم: يا أيها العارفون بـي وبصفاتي وأسمائي السكارى من شراب محبتي وسلسبيل أنسي وتسنيم قدمي وزنجبيل قربـي ومدام عشقي وعقار مشاهدتي إذا كشفت لكم جمالي وآنستكم في مقام ربوبيتي فلا تكلفوا نفوسكم أداء الرسوم الظاهرة لأنكم في جنان مشاهدتي، وليس في الجنان تقييد، وإذا سكنتم من سكركم وصرتم صاحين بنعت التمكين فأدوا ما افترضته عليكم وقوموا لله قانتين وحاصله رفع التكليف عن المجذوبين الغارقين في بحار المشاهدة إلى أن يعقلوا ويصحوا، فالإيمان على هذا محمول على الإيمان العيني والمعنى الأول أولى بالإشارة { وَلاَ جُنُباً } أي ولا تقربوا الصلاة في حال كونكم بعداء عن الحق لشدة الميل إلى النفس ولذاتها { إِلاَّ عَابِرِى سَبِيلٍ } أي سالكي طريق من طرق تمتعاتها بقدر الضرورة كعبور طريق الاغتذاء بالمأكل والمشرب لسد الرمق أو الاكتساء لدفع ضرورة الحر والقرّ وستر العورة، أو المباشرة لحفظ النسل { حَتَّىٰ تَغْتَسِلُواْ } وتتطهروا بمياه التوبة والاستغفار وحسن التنصل والاعتذار { وَإِنْ كُنتُم مَّرْضَىٰ } بأدواء الرذائل { أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ } في بيداء الجهالة والحيرة لطلب الشهوات { أَوْ جَاء أَحَدٌ مّنْكُمْ مّن ٱلْغَائِطِ } أي الاشتغال بلوث المال ملوثاً بمحبته { أَوْ لَـٰمَسْتُمُ ٱلنّسَاء } أي لازمتم النفوس وباشرتموها في قضاء وطرها { فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء } علماً يهديكم إلى التخلص عن ذلك { فَتَيَمَّمُواْ صَعِيداً طَيّباً } أي فاقصدوا صعيد استعدادكم أو ارجعوا إلى المرشدين أرباب الاستعداد { فَٱمْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ } أي امسحوا ذواتكم وصفاتكم بما يتصاعد من أنوار استعدادهم وتخلقوا بأخلاقهم واسلكوا مسالكهم حتى تمحى عنكم تلك الهيئات المهلكة وتبقى أنفسكم صافية { إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَفُوّاً } يعفو عما صدر منكم بمقتضى تلك الهيئات { { غَفُوراً } [النساء: 43] يستر الشين بالزين { أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيبًا } أي بعضاً { مّنَ ٱلْكِتَـٰبِ } وهو اعترافهم بالحق مع احتجابهم برؤية الخلق { يَشْتَرُونَ ٱلضَّلـٰلَةَ } ويتركون التوحيد الحقيقي { وَيُرِيدُونَ } مع ذلك { { أَن تَضِلُّواْ ٱلسَّبِيلَ } [النساء: 44] الحق وهو التوحيد الصرف وعدم رؤية الأغيار فتكونوا مثلهم { وَٱللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ } وعنى بهم أولئك الموصوفين بما ذكر، وسبب عداوتهم لهم اختلاف الأسماء الظاهرة فيهم ولهذا ودوا تكفيرهم { وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ وَلِيّاً } يلي أموركم بالتوفيق لطريق التوحيد { { وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ نَصِيراً } [النساء: 45] ينصركم على أعدائكم فلا يستطيعون إيذاءكم وردكم عما أنتم عليه من الحق { مّنَ ٱلَّذِينَ هَادُواْ } رجعوا عن مقتضى الاستعداد من نفي السوى إلى ما سولت لهم أنفسهم واستنتجته أفكارهم وأيدته أنظارهم ودعت إليه علومهم الرسمية { يُحَرّفُونَ ٱلْكَلِمَ عَن مَّوٰضِعِهِ } يحتمل أن يراد بالكلم معناها الظاهر أي أنهم يؤولون جميع ما يشعر ظاهره بالوحدة على حسب إرادتهم زاعمين أنه لا يمكن أن يكون غير ذلك مراداً لله تعالى لا قصداً ولا تبعاً لا عبارة ولا إشارة، ويحتمل أن يراد بها هذه الممكنات فإنها كلم الله تعالى بمعنى الدوال عليه، أو كلمه بمعنى آثار كلمه أعني كن المتعددة حسب تعدد تعلقات الإرادة. ومعنى تحريفها عن مواضعها إمالتها عما وضعها الله تعالى فيه من كونها مظاهر أسمائه فيثبتون لها وجوداً غير وجود الله تعالى: { وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا } ما يشعر بالوحدة أو سمعنا ما يقال في هذه الممكنات { وَعَصَيْنَا } فلا نقول بما تقولون ولا نعتقد ما تعتقدون { و } يقولون أيضاً في أثناء مخاطبتهم للعارف مستخفين مستهزئين به { أَسْمِعْ } ما يعارض ما تدعيه { غَيْرَ مُسْمَعٍ } أي لا أسمعك الله { وَرٰعِنَا } يعنون رميه بالرعونة وهي الحماقة { { لَيّاً بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِى ٱلدّينِ } [النساء: 46] الذي عليه العارف بربه { يَٰـأَيُّهَا ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَـٰبَ } أي فهموا عليه الظاهر ولم يفهموا ما أشار إليه / من علم الباطن { ءَامِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا } على قلوب أوليائي من العلم اللدني { مُصَدّقاً لّمَا مَعَكُمْ } من علم الظاهر إذ كل باطن يخالف الظاهر فهو باطل { مّن قَبْلِ أَن نَّطْمِسَ وُجُوهاً } وهي وجوه القلوب بالعمى { فَنَرُدَّهَا عَلَىٰ أَدْبَـٰرِهَا } ناظرة إلى الدنيا وزخارفها بعد أن كانت في أصل الفطرة متوجهة إلى ما في الميثاق الأول { { أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَـٰبَ ٱلسَّبْتِ } [النساء: 47] فنمسخ صورهم المعنوية كما مسخنا صور اليهود الحسية، ويحتمل أن يكون هذا خطاباً لمن أوتي كتاب الاستعداد أمرهم بالإيمان الحقيقي وهددهم بإزالة استعدادهم وردهم إلى أسفل سافلين، وإبعادهم بالمسخ { إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ } إلا بالتوبة عنه لشدة غيرته «لا أحد أغير من الله» { وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء } أن يغفر له تاب أو لم يتب، وقد ذكروا أن الشرك ثلاث مراتب ولكل مرتبة توبة: فشرك جلي بالأعيان وهو للعوام كعبدة الأصنام والكواكب مثلاً، وتوبته إظهار العبودية في إثبات الربوبية مصدقاً بالسر والعلانية، وشرك خفي بالأوصاف ـ وهو للخواص وفسر بشوب العبودية بالالتفات إلى غير الربوبية ـ وتوبته الالتفات عن ذلك الالتفات ـ وشرك أخفى لخواص الخواص وهو الأنانية ـ وتوبته بالوحدة ـ وهي فناء الناسوتية في بقاء اللاهوتية { وَمَن يُشْرِكْ بِٱللَّهِ } أيّ شرك كان من هذه المراتب { فَقَدِ ٱفْتَرَىٰ } وارتكب حسب مرتبته { { إِثْماً عَظِيماً } [النساء: 48] لا يقدر قدره { أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنفُسَهُمْ } كعلماء السوء من أهل الظاهر الذين لم يحصلوا من علومهم سوى العجب والكبر والحسد والحقد وسائر الصفات الرذيلة { { بَلِ ٱللَّهُ يُزَكّى مَن يَشَاء } [النساء: 49] كالعارفين به الذين لا يرون لأنفسهم فعلاً، ويحتمل أن يكون هذا تعجيباً ممن يزكي نفسه بنفسه ويسلك في مسالك القوم على رأيه غير معتمد على مرب مرشد له من ولي كامل أو أثارة من علم إلهي كبعض المتفلسفين من أهل الرياضات { انظُرْ كَيفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الكَذِبَ } بادعاء تزكية نفوسهم من صفاتها وما تزكت أو بانتحال صفات الله تعالى إلى أنفسهم مع وجودها { { وَكَفَىٰ بِهِ إِثْماً مُّبِيناً } [النساء: 50] ظاهراً لا خفاء فيه { أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيباً } بعضاً { مّنَ ٱلْكِتَـٰبِ } الجامع، وأشير به إلى علم الظاهر { يُؤْمِنُونَ بِٱلْجِبْتِ } أي بجبت النفس { وَٱلطَّـٰغُوتِ } أي طاغوت الهوى فيميلون مع أنفسهم وهواهم { وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ } أي لأجل الذين ستروا الحق { هَـٰؤُلاءِ أَهْدَىٰ مِنَ ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ } الإيمان الحقيقي { { سَبِيلاً } [النساء: 51] { أُوْلَـٰئكَ ٱلَّذِينَ لَّعَنَهُمُ ٱللَّهُ } أي أبعدهم عن معرفته وقربه { وَمَن يَلْعَنِ } أي يبعده { ٱللَّهُ } عن ذلك { { فَلَن تَجِدَ لَهُ نَصِيراً } [النساء: 52] يهديه إلى الحق { { أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مّنَ ٱلْمُلْكِ فَإِذاً لاَّ يُؤْتُونَ ٱلنَّاسَ نَقِيراً } [النساء: 53] ذم لهم بالبخل الذي هو الوصمة الكبرى عند أهل الله تعالى { أَمْ يَحْسُدُونَ ٱلنَّاسَ عَلَىٰ مَآ آتَاهُمُ ٱللَّهُ مِن فَضْلِهِ } من المعرفة وإعزازهم بين خلقه وإرشادهم لمن استرشدهم { فَقَدْ ءاتَيْنَا ءالَ إِبْرٰهِيمَ } وهم المتبعون له على ملته من أهل المحبة والخلة { ٱلْكِتَـٰبَ } أي علم الظاهر أو الجامع له ولعلم الباطن { وَٱلْحِكْــمَةَ } علم الباطن أو باطن الباطن { { وَآتَيْنَاهُمْ مُّلْكاً عَظِيماً } [النساء: 54] وهو الوصول إلى العين وعدم الوقوف عند الأثر { إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِـئَايَـٰتِنَا } أي حجبوا عن تجليات صفاتنا وأفعالنا أو أنكروا على أوليائنا الذين هم مظاهر الآيات { سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَاراً } عظيمة وهي نار القهر والحجاب، أو نار الحسد { كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ } وتقطعت أماني نفوسهم الأمارة ومقتضيات هواها { بَدَّلْنَـٰهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا } بتجدد نوع آخر من أنواع تجليات القهر أو بتجدد نعم أخرى تظهر على أوليائنا الذين حسدوهم وأنكروا عليهم { { لِيَذُوقُواْ ٱلْعَذَابَ } [النساء: 56] ما داموا منغمسين في أوحال الرذائل { وَٱلَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّـٰلِحَٰتِ } أي الأعمال التي يصلحون بها لقبول التجليات { سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّـٰتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَـٰرُ } من ماء الحكمة ولبن الفطرة وخمر الشهود وعسل الكشف { خَـٰلِدِينَ فِيهَا أَبَداً } لبقاء أرواحهم / المفاضة عليها ما يروحها { لَّهُمْ فِيهَا أَزْوٰجٌ } من التجليات التي يلتذون بها { مُّطَهَّرَةٌ } من لوث النقص { وَنُدْخِلُهُمْ ظِـلاًّ ظَلِيلاً } [النساء: 57] وهو ظل الوجود والصفات الإلۤهية وذلك بمحو البشرية عنهم، نسأل الله تعالى من فضله فلا فضل إلا فضله، ثم إنه سبحانه وتعالى أرشد المؤمنين بأبلغ وجه إلى بعض أمهات الأعمال الصالحة فقال عز من قائل: { إِنَّ ٱللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ }.