خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

مَا يُجَادِلُ فِيۤ آيَاتِ ٱللَّهِ إِلاَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فَلاَ يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي ٱلْبِلاَدِ
٤
كَـذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَٱلأَحْزَابُ مِن بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُـلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجَادَلُوا بِٱلْبَاطِلِ لِيُدْحِضُواْ بِهِ ٱلْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ
٥
-غافر

روح المعاني

{ مَا يُجَـٰدِلُ فِى ءايَـٰتِ ٱللَّهِ إِلاَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ } نزلت على ما قال أبو العالية في الحرث بن قيس السلمي أحد المستهزئين. والمراد بالجدال الجدال بالباطل من الطعن في الآيات والقصد إلى إدحاض الحق وإطفاء نور الله عز وجل لقوله تعالى بعد: { وَجَـٰدَلُوا بِٱلْبَـٰطِلِ لِيُدْحِضُواْ بِهِ ٱلْحَقَّ } فإنه مذكور تشبيهاً لحال كفار مكة بكفار الأحزاب من قبل وإلا فالجدال فيها لإيضاح ملتبسها وحل مشكلها ومقادحة أهل العلم في استنباط معانيها ورد أهل الزيغ عنها أعظم جهاد في سبيل الله تعالى؛ وفي قوله صلى الله عليه وسلم وقد أخرجه عبد بن حميد عن أبـي هريرة مرفوعاً: "إن جدالاً في القرآن كفر" إيماء إلى ذلك حيث ذكر فيه جدالاً مُنَكَّراً للتنويع فأشعر أن نوعاً منه كفر وضلال ونوعاً آخر ليس كذلك. والتحقيق كما في «الكشف» أن المجادلة في الشيء تقتضي أن يكون ذلك الشيء إما مشكوكاً عند المجادلين أو أحدهما أو منكراً كذلك، وأياً ما كان فهو مذموم اللهم إلا إذا كان من موحد لخارج عن الملة أو من محقق لزائغ إلى البدعة فهو محمود بالنسبة إلى أحد الطرفين، وأما ما قيل: إن البحث فيها لإيضاح الملتبس ونحوه جدال عنها لا فيها فإن الجدال يتعدى بعن إذا كان للمنع والذب عن الشيء وبفي لخلافه كما ذكره الإمام وبالباء أيضاً كما في قوله تعالى: { وَجَـٰدِلْهُم بِٱلَّتِى هِىَ أَحْسَنُ } [النحل: 125] ففيه بحث.

وفي قوله تعالى: { في آيات الله } دون ـ فيه ـ بالضمير العائد إلى { ٱلْكِتَابِ } [غافر: 2] دلالة على أن كل آية منه يكفي كفراً لمجادله فكيف بمن ينكره كله ويقول فيه ما يقول، وفيه أن كل آية منه آية أنه من الله تعالى الموصوف بتلك الصفات فيدل على شدة شكيمة المجادلة في الكفر وأنه جادل في الواضح الذي لا خفاء به.

ومما ذكر يظهر اتصال هذه الآية بما قبلها وارتباط قوله تعالى: { فَلاَ يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِى ٱلْبِلاَدِ } بها أي إذا علمت أن هؤلاء شديدو الشكائم في الكفر قد خسروا الدنيا والآخرة حيث جادلوا في آيات الله العزيز العليم وأصروا على ذلك فلا تلتفت لاستدراجهم بتوسعة الرزق عليهم وإمهالهم فإن عاقبتهم الهلاك كما فعل بمن قبلهم من أمثالهم مما أشير إليه بقوله سبحانه:

{ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ } الخ. والتقلب الخروج من أرض إلى أخرى. والمراد بالبلاد بلاد الشام واليمن فإن الآية في كفار قريش وهم كانوا يتقلبون بالتجارة في هاتيك البلاد ولهم رحلة الشتاء لليمن ورحلة الصيف للشام، ولا بأس في إرادة ما يعم ذلك وغيره.

وقرأ زيد بن علي وعبيدة بن عمير { فلا يغرك } بالإدغام مفتوح الراء وهي لغة تميم والفك لغة الحجازيين. وبدأ بقوم نوح لأنه عليه الصلاة والسلام على ما في «البحر» أول رسول في الأرض أو لأنهم أول قوم كذبوا رسولهم وعتوا عتواً شديداً.

{ وَٱلاْحْزَابُ مِن بَعْدِهِمْ } أي / والذين تحزبوا واجتمعوا على معاداة الرسل عليهم السلام من قوم نوح كعاد وثمود وقوم فرعون.

{ وَهَمَّتْ كُـلُّ أُمَّةٍ } من تلك الأمم { بِرَسُولِهِمْ } وقرأ عبد الله { برسولها } رعاية اللفظ الأمة { لِيَأْخُذُوهُ } ليتمكنوا من إيقاع ما يريدون به من حبس وتعذيب وقتل وغيره، فالأخذ كناية عن التمكن المذكور، وبعضهم فسره بالأسر وهو قريب مما ذكر، وقال قتادة: أي ليقتلوه.

{ وَجَـٰدَلُوا بِٱلْبَـٰطِلِ } بما لا حقيقة له قيل هو قولهم: { مَا أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مّثْلُنَا } [يس: 15] والأولى أن يقال هو كل ما يذكرونه لنفي الرسالة وتحسين ما هم عليه، وتفسيره بالشيطان ليس بشيء { لِيُدْحِضُواْ } ليزيلوا { بِهِ } أي بالباطل، وقيل: أي بجدالهم بالباطل { ٱلْحَقّ } الأمر الثابت الذي لا محيد عنه { فَأَخَذْتُهُمُ } بالإهلاك المستأصل لهم { فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ } فإنكم تمرون على ديارهم وترون أثره، وهذا تقرير فيه تعجيب للسامعين مما وقع بهم، وجوز أن يكون من عدم اعتبار هؤلاء. واكتفى بالكسرة عن ياء الإضافة في (عقاب) لأنه فاصلة.

واختلف في المسبب عنه الأخذ المذكور فقيل: مجموع التكذيب والهم بالأخذ والجدال بالباطل، واختار الزمخشري كونه الهم بالأخذ، وقال في «الكشف»: وذلك لأن قوله تعالى: { وَجَـٰدَلُوا بِٱلْبَـٰطِلِ لِيُدْحِضُواْ } هو التكذيب بعينه والأخذ يشاكل الأخذ وإنما التكذيب موجب استحقاق العذاب الأخروي المشار إليه بعد، ولا ينكر أن كليهما يقتضي كليهما لكن لما كان ملاءمة الأخذ للأخذ أتم والتكذيب للعذاب الأخروي أظهر أنه متعلق بالأخذ تنبيهاً على كمال الملاءمة، ثم المجادلة العنادية ليس الغرض منها إلا الإيذاء فهي تؤكد الهم من هذا الوجه بل التكذيب أيضاً يؤكده، والغرض من تمهيد قوله تعالى: { مَا يُجَـٰدِلُ } وذكر الأحزاب الإلمام بهذا المعنى، ثم التصريح بقوله سبحانه: { وَهَمَّتْ كُـلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ } يدل على ما اختاره دلالة بينة فلا حاجة إلى أن يعتذر بأنه إنما اعتبر هذا لا ما سيق له الكلام من المجادلة الباطلة للتسلي انتهى، والإنصاف أن فيما صنعه جار الله رعاية جانب المعنى ومناسبة لفظية إلا أن الظاهر هو التفريع على المجموع كما لا يخفى.