خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْاْ بَأْسَنَا سُنَّتَ ٱللَّهِ ٱلَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ ٱلْكَافِرُونَ
٨٥
-غافر

روح المعاني

{ فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَـٰنُهُمْ لَمَّا رَأَوْاْ بَأْسَنَا } أي عند رؤية عذابنا لأن الحكمة الإلهية قضت أن لا يقبل مثل ذلك الإيمان. و { إِيمَـٰنُهُمْ } رفع بيك اسماً لها أو فاعل { يَنفَعُهُمْ } وفي { يَكُ } ضمير الشأن على الخلاف الذي في كان يقوم زيد، ودخل حرف النفي على الكون لا على النفع لإفادة معنى نفي الصحة فكأنه لم يصح ولم يستقم حكمة نفع إيمانهم إياهم عند رؤية العذاب، وهٰهنا أربعة فاءات فاء { فَمَا أَغْنَىٰ } [غافر: 82] وفاء { فَلَمَّا جَاءتْهُمْ } [غافر: 83] وفاء { فَلَمَّا رَأَوْاْ } [غافر: 84] وفاء { فَلَمْ يَكُ } فالفاء الأولى: مثلها في نحو قولك: رزق المال فمنع المعروف فما بعدها نتيجة مآلية لما كانوا فيه من التكاثر بالأموال والأولاد والتمتع بالحصون ونحوها، والثانية: تفسيرية مثلها في قولك: فلم يحسن إلى الفقراء بعد فمنع المعروف في المثال فما بعدها إلى قوله تعالى: { وَحَاقَ بِهِم } [غافر: 83] إيضاح لذلك المجمل وأنه كيف انتهى بهم الأمر إلى عكس ما أملوه وأنهم كيف جمعوا واحتشدوا وأوسعوا في إطفاء نور الله وكيف حاق المكر السيء بأهله إذ كان في قوله سبحانه: { فَمَا أَغْنَىٰ عَنْهُمْ } إيماءً بأنهم زاولوا أن يجعلوها مغنية، والثالثة: للتعقيب، وجعل ما بعدها تابعاً لما قبلها واقعاً عقيبه { فَلَمَّا رَأَوْاْ بَأْسَنَا } مترتب على قوله تعالى: { فَلَمَّا جَاءتْهُمْ } الخ تابع له لأنه بمنزلة فكفروا إلا أن { فَلَمَّا جَاءتْهُمْ } الآية بيان كفر مفصل مشتمل على سوء معاملتهم وكفرانهم بنعمة الله تعالى العظمى من الكتاب والرسول فكأنه قيل: فكفروا فلما رأوا بأسنا آمنوا، ومثلها الفاء الرابعة / فما بعدها عطف على آمنوا دلالة على أن عدم نفع إيمانهم ورده عليهم تابع للإيمان عند رؤية العذاب كأنه قيل: فلما رأوا بأسنا آمنوا فلم ينفعهم إيمانهم إذ النافع إيمان الاختيار.

{ سُنَّتُ ٱللَّهِ ٱلَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ } أي سن الله تعالى ذلك أعني عدم نفع الإيمان عند رؤية البأس سنة ماضية في البعاد، وهي من المصادر المؤكدة ك { وَعْدَ ٱللَّه } [النساء: 122] و { صِبْغَةَ ٱللَّهِ } [البقرة: 138]، وجوز انتصابها على التحذير أي احذروا يا أهل مكة سنة الله تعالى في أعداء الرسل.

{ وَخَسِرَ هُنَالِكَ ٱلْكَـٰفِرُونَ } أي وقت رؤيتهم البأس على أنه اسم مكان قد استعير للزمان كما سلف آنفاً. وهذا الحكم خاص بإيمان البأس وأما توبة البأس فهي مقبولة نافعة بفضل الله تعالى وكرمه، والفرق ظاهر. وعن بعض الأكابر أن إيمان البأس مقبول أيضاً ومعنى { فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَـٰنُهُمْ لَمَّا رَأَوْاْ بَأْسَنَا } أن نفس إيمانهم لم ينفعهم وإنما نفعهم الله تعالى حقيقة به، ولا يخفى عليك حال هذا التأويل وما كان من ذلك القبيل والله تعالى أعلم.

ومن باب الإشارة في بعض الآيات على ما أشار إليه بعض السادات { { حـمۤ } [غافر: 1] إشارة إلى ما أفيض على قلب محمد صلى الله عليه وسلم من الرحمن فإن الحاء والميم من وسط الاسمين الكريمين، وفي ذلك أيضاً سر لا يجوز كشفه ولما صدرت السورة بما أشار إلى الرحمة وأنها وصف المدعو إليه والداعي ذكر بعد من صفات المدعو إليه وهو الله عز وجل ما يدل على عظم الرحمة وسبقها، وفي ذلك من بشارة المدعو ما فيه.

{ { ٱلَّذِينَ يَحْمِلُونَ ٱلْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبّحُونَ بِحَمْدِ رَبّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ ءامَنُواْ } [غافر: 7] الخ فيه إشارة إلى شرف الإيمان وجلالة قدر المؤمنين وإلى أنه ينبغي للمؤمنين من بني آدم أن يستغفر بعضهم لبعض؛ وفي ذلك أيضاً من تأكيد الدلالة على عظم رحمة الله عز وجل ما لا يخفى { فَٱدْعُواْ ٱللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ ٱلدّينَ } [غافر: 14] بأن يكون غير مشوب بشيء من مقاصد الدنيا والآخرة { يُلْقِي ٱلرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَىٰ مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ } قيل: في إطلاق الروح إشارة إلى روح النبوة وهو يلقى على الأنبياء، وروح الولاية ويلقى على العارفين، وروح الدراية ويلقى على المؤمنين الناسكين { لِيُنذِرَ يَوْمَ ٱلتَّلاَقِ } [غافر: 15] قيل التلاقي مع الله تعالى ولا وجود لغيره تعالى وهو مقام الفناء المشار إليه بقوله سبحانه: { يَوْمَ هُم بَـٰرِزُونَ } من قبور وجودهم { { لاَ يَخْفَىٰ عَلَى ٱللَّهِ مِنْهُمْ شَيْء لّمَنِ ٱلْمُلْكُ ٱلْيَوْمَ لِلَّهِ ٱلْوٰحِدِ ٱلْقَهَّارِ } [غافر: 16] إذ ليس في الدار غيره ديار { ٱلْيَوْمَ تُجْزَىٰ كُلُّ نَفْسٍ } من التجلي { بِمَا كَسَبَتْ } في بذل الوجود للمعبود { { لاَ ظُلْمَ ٱلْيَوْمَ } [غافر: 17] فتنال كل نفس من التجلي بقدر بذلها من الوجود لا أقل من ذلك.

{ { وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ ٱلأَزِفَةِ إِذِ ٱلْقُلُوبُ لَدَى ٱلْحَنَاجِرِ كَـٰظِمِينَ } [غافر: 18] هذه قيامة العوام المؤجلة ويشير إلى قيامة الخواص المعجلة لهم، فقد قيل: إن لهم في كل نفس قيامة من العتاب والعقاب والثواب والبعاد والاقتراب وما لم يكن لهم في حساب، وخفقان القلب ينطق والنحول يخبر واللون يفصح والمشوق يستر ولكن البلاء يظهر، وإذا أزف فناء الصفات بلغت القلوب الحناجر وشهدت العيون بما تخفي الضمائر { يَعْلَمُ خَائِنَةَ ٱلأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي ٱلصُّدُورُ } [غافر: 19] خائنة أعين المحبين استحسانهم تعمد النظر إلى غير المحبوب باستحسان واستلذاذ وما تخفيه الصدور من متمنيات النفوس ومستحسنات القلوب ومرغوبات الأرواح { وَقَالَ رَبُّكُـمْ ٱدْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ } قيل أي اطلبوني مني أجبكم فتجدوني ومن وجدني وجد كل شيء فالدعاء الذي لا يرد هو هذا الدعاء، ففي بعض الأخبار «من طلبني وجدني» { إِنَّ ٱلَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي } دعائي وطلبـي { سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ } الحرمان / والبعد مني { { دٰخِرِينَ } [غافر:60] ذليلين مهينين { ٱللَّهُ ٱلَّذِي جَعَلَ لَكُمُ ٱلَّيْلَ لِتَسْكُنُواْ فِيهِ وَٱلنَّهَارَ مُبْصِراً } [غافر: 61] فيه إشارة إلى ليل البشرية ونهار الروحانية، وذكر أن سكون الناس في الليل المعروف على أقسام فأهل الغفلة يسكنون إلى استراحة النفوس والأبدان، وأهل الشهوة يسكنون إلى أمثالهم وأشكالهم من الرجال والنسوان، وأهل الطاعة يسكنون إلى حلاوة أعمالهم وقوة آمالهم. وأهل المحبة يسكنون إلى أنين النفوس وحنين القلوب وضراعة الأسرار واشتعال الأرواح بالأشواق التي هي أحر من النار { ٱللَّهُ ٱلَّذِي جَعَـلَ لَكُـمُ ٱلأَرْضَ قَـرَاراً } يشير إلى أنه تعالى جعل أرض البشرية مقراً للروح { وَٱلسَّمَآءَ بِنَـآءً } أي سماء الروحانية مبنية عليها { وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ } [غافر: 64] بأن جعلكم مرايا جماله وجلاله، وفي الخبر «خلق الله تعالى آدم على صورته» وفي ذلك إشارة إلى رد { { أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ ٱلدِّمَآءَ } } [البقرة: 30] ولله تعالى من قال:

ما حطك الواشون عن رتبة عندي ولا ضرك مغتاب
كأنهم أثنوا ولم يعلموا عليك عندي بالذي عابوا

والكافر لسوء اختياره التحق بالشياطين وصار مظهراً لصفات القهر من رب العالمين { وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَـٰكِن كَانُواْ هُمُ ٱلظَّالِمِينَ } [الزخرف: 76]. تم الكلام على سورة المؤمن والحمد لله أولاً وآخراً وباطناً وظاهراً.