خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِن فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَآ أَقْوَاتَهَا فِيۤ أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَآءً لِّلسَّآئِلِينَ
١٠
-فصلت

روح المعاني

وقوله تعالى: { وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ } على ما اختاره غير واحد عطف على { { خَلَقَ ٱلأَرْضَ } [فصلت: 9] داخل في حكم الصلة، ولا ضير في الفصل بينهما بالجملتين المذكورتين لأن الأولى متحدة بقوله تعالى: { تَكْفُرُونِ } بمنزلة إعادتها والثانية معترضة مؤكدة لمضمون الكلام فالفصل بهما كلا فصل، وفيه بلاغة من حيث المعنى لدلالته على أن المعطوف عليه أي { خَلَقَ ٱلأَرْضَ } كاف في كونه تعالى رب العالمين وأن لا يجعل له ند فكيف إذا انضمت إليه هذه المعطوفات.

وتعقب بأن الاتحاد لا يخرجه عن كونه فاصلاً مشوشاً للذهن مورثاً للتعقيد فالحق والأقرب أن تجعل الواو اعتراضية وكل من الجملتين معترض ليندفع بالاعتراض الاعتراض أو يجعل ابتداء كلام بناء على أنه يصدر بالواو أو يقال: هو معطوف على مقدر كخلق، واختار هذا الأخير صاحب «الكشف» فقال: أوجه ما ذكر فيه أنه عطف على مقدر بعد { رَبّ ٱلْعَـٰلَمِينَ } [فصلت: 9] أي خلقها وجعل فيها رواسي فكأنه ساق قوله تعالى: { خَلَقَ ٱلاْرْضَ فِي يَوْمَيْنِ } أولاً رداً عليهم في كفرهم ثم ذكره ثانياً تتميماً للقصة وتأكيداً للإنكار، وليس سبيل قوله سبحانه: { ذَلِكَ رَبُّ ٱلْعَالَمِينَ } سبيل الاعتراض حتى تجعل الجملة عطفاً على الصلة ويعتذر عن تخلل { تَجْعَلُونَ } عطفاً على { تَكْفُرُونِ } باتحاده بما قبله على أسلوب { وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ ٱللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ } [البقرة :217] وذلك لأنه مقصود لذاته في هذا المساق وهو ركن للإنكار مثل قوله تعالى: { ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلأَرْضِ } وأكد على ما لا يخفى على ذي بصيرة. والرواسي الجبال من رسا إذا ثبت، والمراد بجعلها إبداعها بالفعل، وفي «الإرشاد» المراد تقدير الجعل لا الجعل بالفعل.

وقوله تعالى: { مّن فَوْقِهَا } متعلق بجعل أو بمحذوف صفة لرواسي أي كائنة من فوقها والضمير للأرض وفي ذلك استخدام على ما قيل في المراد منها لأن الجبال فوق الأرض المعروفة لا فوق جميع الأجسام السفلية والبسائط العنصرية، وفائدة { مّن فَوْقِهَا } الإشارة إلى أنها جعلت مرتفعة عليها لا تحتها كالأساطين ولا مغروزة فيها كالمسامير لتكون منافعها معرضة لأهلها ويظهر للنظار ما فيها من مراصد الاعتبار ومطارح الأفكار. ولعمري إن في ارتفاعها من الحكم التكوينية ما تدهش منه العقول، والآية لا تأبـى أن يكون في المغمور من الأرض في الماء جبالاً كما لا يخفى والله تعالى أعلم.

{ وَبَـٰرَكَ فِيهَا } أي كثر خيرها، وفي «الإرشاد» قدر سبحانه أن يكثر خيرها بأن يكثر فيها أنواع النباتات وأنواع الحيوانات التي من جملتها الإنسان { وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوٰتَهَا } أي بين كميتها وأقدارها، وقال في «الإرشاد»: أي حكم بالفعل بأن يوجد فيما سيأتي لأهلها من الأنواع المختلفة أقواتها المناسبة لها على مقدار معين تقتضيه الحكمة. والكلام على تقدير مضاف، وقيل: لا يحتاج إلى ذلك والإضافة لأدنى ملابسة، وإليه يشير كلام / السدي حيث قال: أضاف الأقوات إليها من حيث هي فيها وعنها برزت، وفسر مجاهد الأقوات بالمطر والمياه. وفي رواية أخرى عنه وإليه ذهب عكرمة والضحاك أنها ما خص به كل إقليم من الملابس والمطاعم والنباتات ليكون الناس محتاجين بعضهم لبعض وهو مقتض لعمارة الأرض وانتظام أمور العالم، ويؤيد هذا قراءة بعضهم { وقسم فيها أقواتها }.

{ فِى أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ } متعلق بحصول الأمور المذكورة لا بتقديرها على ما في «إرشاد العقل السليم»، والكلام على تقدير مضاف أي قدر حصولها في تتمة أربعة أيام؛ وكان الزجاج يعلقه ـ بقدر ـ كما هو رأي الإمام أبـي حنيفة في القيد إذا وقع متعاطفات نحو أكرمت زيداً وضربت عمراً ورأيت خالداً في الدار، والشافعي يقول: المتعقب للجمل يعود إليها جميعاً لأن الأصل اشتراك المعطوف والمعطوف عليه في المتعلقات فيكون القيد هنا عائداً إلى جعل الرواسي وما بعده وهو الذي يتبادر إلى فهمي ولا بد من تقدير المضاف الذي سمعت وقد صرح الزجاج بتقديره ولم يقدره الزمخشري وجعل الجار متعلقاً بمحذوف وقع خبراً لمبتدأ محذوف أي كل ذلك من خلق الأرض وما بعده كائن في أربعة أيام على أنه فذلكة أي كلام منقطع أتى به لمجمل ما ذكر مفصلاً مأخوذة من فذلكة الحساب وقولهم: فذلك كذا بعد استقرار الجمع فما نحن فيه ألحق فيه أيضاً جملة من العدد بجملة أخرى وجعله كذلك لا يمنع عطف { جَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ } على مقدر لأن الربط المعنوي كاف. والقول بأن الفذلكة تقتضي التصريح بذكر الجملتين مثل أن يقال: سرت من البصرة إلى واسط في يومين ومن واسط إلى الكوفة في يومين فذلك أربعة أيام وهٰهنا لم ينص إلا على أحد المبلغين غير سديد لأن العلم بالمبلغين في تحقيق الفذلكة كاف على أن المراد أنه جار مجراها وإنما لم يجز الحمل على أن جعل الرواسي وما ذكر عقيبه أو تقدير الأقوات في أربعة أيام لأنه يلزم أن يكون خلق الأرض وما فيها في ستة أيام وقد ذكر بعده أن خلق السمٰوات في يومين فيكون المجموع ثمانية أيام.

وقد تكرر في كتاب الله تعالى أن خلقهما أعني السمٰوات والأرض في ستة أيام وقيدت الأيام الأربعة بقوله تعالى: { سَوَآءً } فإنه مصدر مؤكد لمضمر هو صفة لأيام أي استوت سواء أي استواء كما يدل عليه قراءة زيد بن علي، والحسن وابن أبـي إسحٰق وعمرو بن عبيد وعيسى ويعقوب { سوآء } بالجر فإنه صريح في الوصفية وبذلك يضعف القول بكونه حالاً من الضمير في { أَقْوٰتَهَا } مع قلة الحال من المضاف إليه في غير الصور الثلاث ولزوم تخالف القراءتين في المعنى.

ويعلم من ذلك أنه على قراءة أبـي جعفر بالرفع يجعل خبر المبتدأ محذوف أي هي سواء وتجعل الجملة صفة لأيام أيضاً لا حالاً من الضمير لدفع التجوز فإنه شائع في مثل ذلك مطرد في عرفي العرب والعجم فتراهم يقولون: فعلته في يومين ويريدون في يوم ونصف مثلاً وسرت أربعة أيام ويريدون ثلاثة ونصفاً مثلاً، ومنه قوله تعالى: { ٱلْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَـٰتٌ } [البقرة: 197] فإن المراد بالأشهر فيه شوال وذو القعدة وتسع من ذي الحجة وليلة النحر وذلك لأن الزائد جعل فرداً مجازاً. ثم أطلق على المجموع اسم العدد الكامل فالمعنى هٰهنا في أربعة أيام لا نقصان فيها ولا زيادة وكأنه لذلك أوثر ما في التنزيل على أن يقال: وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدر فيها أقواتها في يومين كما قيل / أولاً { { خَلَقَ ٱلأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ } [فصلت: 9] وحاصله أنه لو قيل ذلك لكان يجوز أن يراد باليومين الأولين والآخيرين أكثرهما وإنما لم يقل خلق الأرض في يومين كاملين وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدر فيها أقواتها في يومين كاملين أو خلق الأرض في يومين وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدر فيها أقواتها في يومين تلك أربعة سواء لأن ما أورده سبحانه أخصر وأفصح وأحسن طباقاً لما عليه التنزيل من مغاصات القرائح ومصاك الركب ليتميز الفاضل من الناقص والمتقدم من الناكص وترتفع الدرجات وتتضاعف المثوبات. وقال بعض الأجلة: إن في النظم الجليل دلالة أي مع الاختصار على أن اليومين الأخيرين متصلان باليومين الأولين لتبادره من جعلهما جملة واحدة واتصالهما في الذكر.

وقوله تعالى: { لّلسَّائِلِينَ } متعلق بمحذوف وقع خبراً لمبتدأ محذوف أي هذا الحصر في أربعة كائن للسائلين عن مدة خلق الأرض وما فيها، ولا ضير في توالي حذف مبتدأين بناء على ما آثره الزمخشري في الجار والمجرور قبل، وقيل هو متعلق ـ بقدر ـ السابق أي وقدر فيها أقواتها لأجل الطالبين لها المحتاجين إليها من المقتاتين، وقيل: متعلق بمقدر هو حال من الأقوات، والكل لا يستقيم إلا على ما آثره الزجاج دون ما آثره الزمخشري لأن الفذلكة كما يعلم مما سبق لا تكون إلا بعد تمام الجملتين فلا يجوز أن تتوسط بين الجملة الثانية وبعض متعلقاتها وقيل متعلق بسواء على أنه حال من الضمير والمعنى مستوية مهيأة للمحتاجين أو به على قراءة الرفع وجعله خبر مبتدأ محذوف أي هو أي أمر هذه المخلوقات ونفعها مستو مهيأ للمحتاجين إليه من البشر وهو كما ترى.