خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

فَلِذَلِكَ فَٱدْعُ وَٱسْتَقِمْ كَمَآ أُمِرْتَ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَآءَهُمْ وَقُلْ آمَنتُ بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ مِن كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ ٱللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَآ أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لاَ حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ ٱللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ ٱلْمَصِيرُ
١٥
-الشورى

روح المعاني

{ فَلِذَلِكَ } أي إذا كان الأمر كما ذكر فلأجل ذلك التفرق ولما حدث بسببه من تشعب الكفر في الأمم السالفة شعباً { فَٱدْعُ } إلى الائتلاف والاتفاق على الملة الحنيفية القديمة { وَٱسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ } أي اثبت على الدعاء كما أوحي إليك، وقيل: الإشارة إلى قوله تعالى: { { شَرَعَ لَكُم } [الشورى: 13] وما يتصل به ونقل عن الواحدي أي ولأجل ذلك من التوصية التي شوركتَ فيها مع نوح ومن بعده ولأجل ذلك الأمر بالإقامة والنهي عن التفرق فادع، وما ذكر أولاً أولى لأن قوله تعالى: { أَنْ أَقِيمُواْ } شمل النبـي عليه الصلاة والسلام وأتباعه كما سمعت، ويدل عليه { { كَبُرَ عَلَى ٱلْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ } [الشورى: 13] فقوله تعالى: { فَلِذَلِكَ فَٱدْعُ } الخ لا يتسبب عنه لما يظهر من التكرار وهو تفرع الأمر عن الأمر، وأما تسببه عن تفرقهم فظاهر على معنى فلما أحدثوا من التفرق وأبدعوا فاثبت أنت على الدعاء الذي أمرت به واستقم وهذا ظاهر للمتأمل.

ومن الناس من جعل المشار إليه الشرع السابق ولم يدخل فيه الأمر بالإقامة لئلا يلزم التكرار أي فلأجل أنه شرع لهم الدين القويم القديم الحقيق بأن يتنافس فيه المتنافسون فادع، وقيل: هو الكتاب، وقيل: هو العلم المذكور في قوله تعالى: { { جَاءهُمُ ٱلْعِلْمُ } [الشورى: 14] وقيل: هو الشك ورجح بالقرب وليس بذاك. واللام على جميع الأقوال المذكورة للتعليل، وقيل: على بعضها هي بمعنى إلى صلة الدعاء فما بعدها هو المدعو إليه، وأنت تعلم أنه لا حاجة في إرادة ذلك إلى جعلها بمعنى إلى فإن الدعاء يتعدى بها أيضاً كما في قوله:

دعوت لما نابني مسوراً

ونقل ذلك عن الفراء والزجاج، وأياً ما كان فالفاء الأولى واقعة في جواب شرط مقدر كما أشرنا إليه والفاء الثانية مؤكدة للأولى، وقيل: كان الناس بعد الطوفان أمة واحدة موحدين فاختلف أبناؤهم بعد موتهم حين بعث الله تعالى النبيين مبشرين ومنذرين، وجعل ضمير { تَفَرَّقُواْ } لأخلاف أولئك الموحدين والذين أورثوا الكتاب باق على ما تقدم والأول أظهر. وقيل: ضمير { تَفَرَّقُواْ } لأهل الكتاب تفرقوا من بعد ما جاءهم العلم بمبعث النبـي صلى الله عليه وسلم فهذا كقوله تعالى: { { وَمَا تَفَرَّقَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَـٰبَ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ ٱلْبَيّنَةُ } [البينة: 4] وإنما تفرقوا حسداً له عليه الصلاة والسلام لالشبهة. والمراد بالذين أورثوا الكتاب من بعدهم مشركو مكة وأحزابهم لأنهم أورثوا القرآن فالكتاب القرآن وضمير { مِنْه } له وقيل للرسول وهو خلاف الظاهر.

واختار كونَ المتفرقين أهل الكتاب / اليهود والنصارى والمورثين الشاكين مشركي مكة وأحزابهم شيخُ الإسلام واستظهر أن الخطاب في { { أَقِيمُواْ ٱلدّينَ وَلاَ تَتَفَرَّقُواْ فِيهِ } [الشورى: 13] لأمته صلى الله عليه وسلم، وتعقب القول بكون المتفرق كل أمة بعد نبيها والقول بكونه أخلاف الموحدين الذين كانوا بعد الطوفان فقال: يرد ذلك قوله تعالى: { { وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبّكَ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى لَّقُضِيَ بِيْنَهُمْ } [الشورى: 14] فإن مشاهير الأمم المذكورة قد أصابهم عذاب الاستئصال من غير إنظار إمهال على أن مساق النظم الكريم لبيان أحوال هذه الأمة وإنما ذكر من ذكر من الأنبياء عليهم السلام لتحقيق أن ما شرع لهؤلاء دين قديم أجمع عليه أولئك الأعلام عليهم الصلاة والسلام تأكيداً لوجوب إقامته وتشديداً للزجر عن التفرق والاختلاف فيه فالتعرض لبيان تفرق أممهم عنه ربما يوهم الإخلال بذلك المرام انتهى.

وأجيب عن الأول بأن ضمير { بَيْنَهُمْ } لأولئك الذين تفرقوا وقد علمت أن المراد بهم المتفرقون بعد وفاة أنبيائهم وهو لم يصبهم عذاب الاستئصال وإنما أصاب الذين لم يؤمنوا في عهد أنبيائهم وإطلاق المتفرقين ليس بذاك الظهور، وقيل: المراد لقضي بينهم ريثما افترقوا ولم يمهلوا أعواماً، وقيل: المراد لقضي بينهم بإهلاك المبطلين وإثابة المحقين إثابتهم في العقبـى وهو كما ترى، وعن الثاني بأنا لا نسلم إيهام التعرض لبيان تفرق الأمم الإخلال بالمرام بعد بيان أنه لم يكن إلا بعد أن جاءهم العلم بأنه ضلال وفساد وأمر متوعد عليه وأنه كان بغياً بينهم ولم يكن لشبهة في صحة الدين.

وقيل: ضمير { تَفَرَّقُواْ } [الشورى: 14] للمشركين في قوله تعالى: { { كَبُرَ عَلَى ٱلْمُشْرِكِينَ } [الشورى: 13]. حكى في «البحر» عن ابن عباس أنه قال: وما تفرقوا يعني قريشاً والعلم محمد صلى الله عليه وسلم وكانوا يتمنون أن يبعث إليهم نبـي كما قال سبحانه: { { وَأَقْسَمُواْ بِٱللَّهِ جَهْدَ أَيْمَـٰنِهِمْ لَئِن جَاءهُمْ نَذِيرٌ } [فاطر: 42] الآية. وقد يقال عليه: المراد بالذين أورثوا الكتاب أهل الكتاب الذين عاصروا النبـي صلى الله عليه وسلم، ومعنى { { مِن بَعْدِهِمْ } [الشورى: 14] على ما قال أبو حيان من بعد أسلافهم. ونقل الطبرسي عن السدي ما يدل على أن المراد من بعد أحبارهم وفسر الموصول بعوام أهل الكتاب، وقيل: ضمير { بَعْدِهِمْ } للمشركين أيضاً والبعدية رتبية كما قيل في قوله تعالى: { { وَٱلأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَـٰهَا } [النازعات: 30] ولا يخفى عليك أنه لا بأس بعود ضمير { تَفَرَّقُواْ } للمشركين لو وجد للذين أورثوا الكتاب توجيه يقع في حيز القبول والله تعالى الموفق.

وجَعْلُ متعلق { استقم } الدعاء لا تخفى مناسبته، وجوز جعله عاماً فيكون (استقم) أمراً بالاستقامة في جميع أموره عليه الصلاة والسلام، والاستقامة أن يكون على خط مستقيم، وفسرها الراغب بلزوم المنهج المستقيم فلا حاجة إلى التأويل بالدوام على الاستقامة أي دم على الاستقامة { وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ } أي شيئاً من أهوائهم الباطلة على أن الإضافة للجنس { وَقُلْ ءامَنتُ بِمَا أَنزَلَ ٱللَّهُ مِن كِتَـٰبٍ } أي بجميع الكتب المنزلة لأن (ما) من أدوات العموم، وتنكير { كِتَابٌ } المبين مؤيد لذلك. وفي هذا القول تحقيق لحق وبيان لاتفاق الكتب في الأصول وتأليف لقلوب أهل الكتابين وتعريض بهم حيث لم يؤمنوا بجميعها { وَأُمِرْتُ لأَِعْدِلَ بَيْنَكُمُ } أي أمرني الله تعالى بما أمرني به لأعدل بينكم في تبليغ الشرائع والأحكام فلا أخص بشيء منها شخصاً دون شخص وقيل: لأعدل بينكم في الحكم إذا تخاصمتم، وقيل: بتبليغ الشرائع وفصل الخصومة واختاره غير واحد، وقيل: لأسوي بيني وبينكم ولا آمركم بما لا أعمله ولا أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه ولا أفرق بين أصاغركم وأكابركم في إجراء حكم الله عز وجل، فاللام للتعليل والمأمور به محذوف، وقيل: اللام مزيدة أي أمرت أن أعدل ويحتاج / لتقدير الباء أي بأن أعدل، ولا يخلو عن بعد.

{ ٱللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ } أي خالق الكل ومتولي أمره فليس المراد خصوص المتكلم والمخاطب { لَنَا أَعْمَـٰلُنَا } لا يتخطانا جزاؤها ثواباً كان أو عقاباً { وَلَكُمْ أَعْمَـٰلُكُمْ } لا يجاوزكم آثارها لننتفع بحسناتكم ونتضرر بسيئاتكم { لاَ حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ } أي لا احتجاج ولا خصومة لأن الحق قد ظهر فلم يبق للاحتجاج حاجة ولا للمخالفة محمل سوى المكابرة والعناد، وجاءت الحجة هنا على أصلها فإنها في الأصل مصدر بمعنى الاحتجاج كما ذكره الراغب وشاعت بمعنى الدليل وليس بمراد { ٱللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا } يوم القيامة { وَإِلَيْهِ ٱلْمَصِيرُ } فيفصل سبحانه بيننا وبينكم. وليس في الآية ما يدل على متاركة الكفار رأساً حتى تكون منسوخة بآية السيف، وادعى أبو حيان أن ما يظهر منها الموادعة المنسوخة بتلك الآية.