خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَلَوْ نَشَآءُ لَجَعَلْنَا مِنكُمْ مَّلاَئِكَةً فِي ٱلأَرْضِ يَخْلُفُونَ
٦٠
-الزخرف

روح المعاني

وقوله سبحانه: { وَلَوْ نَشَاء لَجَعَلْنَا } الخ تذييل لوجه دلالته على القدرة وأن الافتتان من عدم التأمل وتضمين للإنكار على من اتخذ الملائكة آلهة كما اتخذ عيسى عليهم السلام أي ولو نشاء لقدرتنا على عجائب الأمور وبدائع الفطر لجعلنا بطريق التوليد ومآله لولدنا { مّنكُمْ } يا رجال { مَّلاَئِكَةً } كما ولدنا عيسى من غير أب { فِي ٱلأَرْضِ يَخْلُفُونَ } أي يخلفونكم في الأرض كما يخلفكم أولادكم أو يكونون خلفاً ونسلاً لكم ليعرف تميزنا بالقدرة الباهرة وليعلم أن الملائكة ذوات ممكنة تخلق توليداً كما تخلق إبداعاً فمن أين لهم استحقاق الألوهية والانتساب إليه سبحانه وتعالى بالبنوة؟. وجوز أن يكون معنى { لَجَعَلْنَا } الخ لحولنا بعضكم ملائكة فمن ابتدائية أو تبعيضية و { مَّلاَئِكَةً } مفعول ثان أو حال. وقيل: من للبدل كما في قوله تعالى: { أَرَضِيتُمْ بِٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا مِنَ ٱلآخِرَةِ } [التوبة: 38] وقوله:

ولم تذق من البقول الفستقا

أي ولو نشاء لجعلنا بدلكم ملائكة يكونون مكانكم بعد إذهابكم، وإليه يشير كلام قتادة ومجاهد، والمراد بيان كمال قدرته تعالى لا التوعد بالاستئصال وإن تضمنه فإنه غير ملائم للمقام، وقيل: لا مانع من قصدهما معاً، نعم كثير من النحويين لا يثبتون لمن معنى البدلية ويتأولون ما ورد مما يوهم ذلك والأظهر ما قرر أولاً.

وذكر العلامة الطيبـي عليه الرحمة أن قوله تعالى: { { إِنْ هُوَ إِلاَّ عَبْدٌ } [الزخرف: 59] الخ جواب عن جدل الكفرة في قوله سبحانه: { { إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ } [الأنبياء: 98] الخ وأن تقريره: إن جدلكم هذا باطل لأنه عليه السلام ما دخل في ذلك النص الصريح لأن الكلام معكم أيها المشركون وأنتم المخاطبون به وإنما المراد بما تعبدون الأصنام التي تنحتونها بأيديكم وأما عيسى عليه السلام فما هو إلا عبد مكرم منعم عليه بالنبوة مرفوع المنزلة والذكر مشهور في بني إسرائيل كالمثل السائر فمن أين تدخل في قولنا: { { إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ } [الأنبياء: 98] ثم لا اعتراض علينا أن نجعل قوماً أهلاً للنار وآخرين أهلاً للجنة إذ لو نشاء لجعلنا منكم ومن أنفسكم أيها الكفرة ملائكة أي عبيداً مكرمون مهتدون وإلى الجنة صائرون كقوله تعالى: { { وَلَوْ شِئْنَا لآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا } [السجدة: 13] اهـ. وعلى ما ذكرنا أن الكلام في إبطال قد تم عند قوله تعالى: { خَصِمُونَ } [الزخرف: 58] وما بعد لما سمعت قبل وهو أدق وأولى مما ذكره بل ما أشار إليه من أن قوله تعالى: { وَلَوْ نَشَاء } الخ لنفي الاعتراض ليس بشيء.

وروي أن ابن الزبعرى قال للنبـي صلى الله عليه وسلم حين سمع قوله تعالى: { { إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ } [الأنبياء: 98] أهذا لنا ولآلهتنا أم لجميع الأمم؟ فقال عليه الصلاة والسلام: هو لكم ولآلهتكم ولجميع الأمم فقال: خصمتك ورب الكعبة أليست النصارى يعبدون المسيح، واليهود عزيراً وبنو مليح الملائكة؟ فإن كان هؤلاء في النار فقد رضينا أن نكون نحن وآلهتنا معهم ففرحوا وضحكوا وسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله تعالى: { { إِنَّ ٱلَّذِينَ سَبَقَتْ } [الأنبياء: 101] الآية أو نزلت هذه الآية، وأنكر بعضهم السكوت، وذكر أن ابن الزبعرى حين قال للنبـي عليه الصلاة والسلام: خصمتك رد عليه صلى الله عليه وسلم بقوله ما أجهلك بلغة قومك أما فهمت أن ما لما لا يعقل. وروى محي السنة في «المعالم» أن ابن الزبعرى قال له عليه الصلاة والسلام: أنت قلت: { إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ }؟ قال: نعم قال: أليست اليهود تعبد عزيراً والنصارى تعبد المسيح وبنو مليح يعبدون الملائكة؟ فقال النبـي صلى الله عليه وسلم: بل هم يعبدون الشيطان فأنزل الله تعالى: { { إِنَّ ٱلَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مّنَّا ٱلْحُسْنَىٰ } [الأنبياء: 101] وهذا أثبت من الخبر الذي قبله. وتعقب ما تقدم في الخبر السابق من سؤال ابن الزبعرى أهذا لنا الخ، وقوله عليه الصلاة والسلام: هو لكم الخ بأنه ليس بثبت.

وذكر من أثبته أنه صلى الله عليه وسلم إنما لم يجب حين سئل عن الخصوص والعموم بالخصوص عملاً بما تقتضيه كلمة { مَا } لأن إخراج المعهودين عن الحكم عند المحاجة موهم للرخصة في عبادتهم في الجملة فعممه عليه الصلاة والسلام للكل لكن لا بطريق عبارة النص بل بطريق الدلالة بجامع الاشتراك في المعبودية من دون الله تعالى ثم بين أنهم بمعزل من أن يكونوا معبوديهم بما جاء في خبر محي السنة من قوله عليه الصلاة والسلام: بل هم يعبدون الشيطان كما نطق به قوله تعالى: { { سُبْحَـٰنَكَ أَنتَ وَلِيُّنَا مِن دُونِهِمْ بَلْ كَانُواْ يَعْبُدُونَ ٱلْجِنَّ } [سبأ: 41] الآية، وقد تقدم ما ينفعك تذكره فتذكر.

وفي «الدر المنثور» أخرج الإمام أحمد وابن أبـي حاتم والطبراني وابن مردويه عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لقريش: إنه ليس أحد يعبد من دون الله تعالى فيه خير فقالوا: ألست تزعم أن عيسى كان نبياً وعبداً من عباد الله تعالى صالحاً فإن كنت صادقاً فإنه كآلهتنا فأنزل الله سبحانه: { { وَلَمَّا ضُرِبَ ٱبْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً } [الزخرف: 57] الخ، والكلام في الآيات على هذه الرواية يعلم مما تقدم بأدنى التفات.

وقيل: إن المشركين لما سمعوا قوله تعالى: { { إِنَّ مَثَلَ عِيسَىٰ عِندَ ٱللَّهِ كَمَثَلِ ءادَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ } [آل عمران: 59] قالوا: نحن أهدى من النصارى لأنهم عبدوا آدمياً ونحن نعبد الملائكة فنزلت، فالمثل ما في قوله تعالى: { إِنَّ مَثَلَ عِيسَىٰ } الآية والضارب هو تعالى شأنه أي ولما بين الله سبحانه حاله العجيبة اتخذه قومك ذريعة إلى ترويج ما هم فيه من الباطل بأنه مع كونه مخلوقاً بشراً قد عبد فنحن أهدى حيث عبدنا ملائكة مطهرين مكرمين عليه وهو الذي عنوه بقولهم: { { أآلهتنا خَيْرٌ أَمْ هُوَ } [الزخرف: 58] فأبطل الله تعالى ذلك بأنه مقايسة باطل بباطل وأنهم في اتخاذهم العبد المنعم عليه إلهاً مبطلون مثلكم في اتخاذ الملائكة وهم عباد مكرمون، ثم في قوله سبحانه: { وَلَوْ نَشَاء لَجَعَلْنَا مِنكُمْ } دلالة على أن الملائكة عليهم السلام مخلوقون مثله وأنه سبحانه قادر / على أعجب من خلق عيسى عليه السلام وأنه لا فرق في ذلك بين المخلوق توالداً وإبداعاً فلا يصلح القسمان للإلهية. وفي رواية عن ابن عباس وقتادة أنه لما نزل قوله تعالى: { إِنَّ مَثَلَ عِيسَىٰ } الآية قالت قريش: ما أراد محمد صلى الله عليه وسلم من ذكر عيسى عليه السلام إلا أن نعبده كما عبدت النصارى عيسى.

ومعنى { يَصِدُّونَ } [الزخرف: 57] يضجون ويضجرون، والضمير في { أَمْ } [الزخرف: 58] هو لنبينا عليه الصلاة والسلام، وغرضهم بالموازنة بينه صلى الله عليه وسلم وبين آلهتهم الاستهزاء به عليه الصلاة والسلام، وقوله تعالى: { وَلَوْ نَشَآء } الخ رد وتكذيب لهم في افترائهم عليه صلى الله عليه وسلم ببيان أن عيسى عليه السلام في الحقيقة وفيما أوحى إلى الرسول عليه الصلاة والسلام ليس إلا أنه عبد منعم عليه كما ذكر فكيف يرضى صلى الله عليه وسلم بمعبوديته أو كيف يتوهم الرضا بمعبودية نفسه؟ ثم بين جل شأنه أن مثل عيسى ليس ببدع من قدرة الله تعالى وأنه قادر على أبدع منه وأبدع مع التنبيه على سقوط الملائكة عليهم السلام أيضاً عن درجة المعبودية بقوله سبحانه: { وَلَوْ نَشَآء } الخ وفيه أن الدلالة على ذلك المعنى غير واضحة، وكذلك رجوع الضمير إلى نبينا عليه الصلاة والسلام في قوله تعالى: { أَمْ هُوَ } مع رجوعه إلى عيسى في قوله سبحانه: { إِنْ هُوَ إِلاَّ عَبْدٌ } [الزخرف: 59] وفيه من فك النظم ما يجب أن يصان الكتاب المعجز عنه، ولا يكاد يقبل القول برجوع الضمير الثاني إليه صلى الله عليه وسلم، ولعل الرواية عن الحبر غير ثابتة، وجوز أن يكون مرادهم التنصل عما أنكر عليهم من قولهم: الملائكة عليهم السلام بنات الله سبحانه ومن عبادتهم إياهم كأنهم قالوا: ما قلنا بدعاً من القول ولا فعلنا منكراً من الفعل فإن النصارى جعلوا المسيح ابن الله عز وجل فنحن أشف منهم قولاً وفعلاً حيث نسبنا إليه تعالى الملائكة عليهم السلام وهم نسبوا إليه الأناسي، وقوله تعالى: { وَلَوْ نَشَآء } الخ عليه كما في الوجه الثاني.