خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ أَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّهُمْ كَانُواْ مُجْرِمِينَ
٣٧
-الدخان

روح المعاني

{ أَهُمْ خَيْرٌ } في القوة والمنعة { أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ } هو تبع الأكبر الحميري واسمه أسعد بهمزة، وفي بعض الكتب سعد بدونها وكنيته أبو كَرِب وكان رجلاً صالحاً. أخرج الحاكم وصححه عن عائشة قالت: كان تبع رجلاً صالحاً ألا ترى أن الله تعالى ذم قومه ولم يذمه، وأخرج ابن عساكر عن ابن عباس لا يشتبهن عليكم أمر تبع فإنه كان مسلماً، وأخرج أحمد والطبراني وابن أبـي حاتم وابن مردويه عن سهل بن سعد الساعدي قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تسبوا تبعاً فإنه كان قد أسلم" وأخرج ابن عساكر وابن المنذر عن ابن عباس قال: سألت كعباً عن تبع فإني أسمع الله تعالى يذكر في القرآن قوم تبع ولا يذكر تبعاً فقال: إن تبعاً كان رجلاً من أهل اليمن ملكاً منصوراً فسار بالجيوش حتى انتهى إلى سمرقند فرجع فأخذ طريق الشام فأسر بها أحباراً فانطلق بهم نحو اليمن حتى إذا دنا من ملكه طار في الناس أنه هادم الكعبة فقال له الأحبار: ما هذا الذي تحدث به نفسك فإن هذا البيت لله تعالى وإنك لن تسلط عليه فقال: إن هذا لله تعالى وأنا أحق من حرمه فأسلم من مكانه وأحرم فدخلها محرماً فقضى نسكه ثم انصرف نحو اليمن راجعاً حتى قدم على قومه فدخل عليه أشرافهم فقالوا: يا تبع أنت سيدنا وابن سيدنا خرجت من عندنا على دين وجئت على غيره فاختر منا أحد أمرين إما تخلينا وملكنا وتعبد ما شئت وإما أن تذر دينك الذي أحدثت - وبينهم يومئذ نار تنزل من السماء - فقال الأحبار عند ذلك: اجعل بينك وبينهم النار فتواعد القوم جميعاً على أن يجعلوها بينهم فجيء بالأحبار وكتبهم وجيء بالأصنام وعمارها وقدموا جميعاً إلى النار وقامت الرجال خلفهم بالسيوف فهدرت النار هدير الرعد ورمت شعاعاً لها فنكص أصحاب الأصنام وأقبلت النار وأحرقت الأصنام وعمارها وسلم الآخرون فأسلم قوم واستسلم قوم فلبثوا بعد ذلك عمر تبع حتى إذا نزل بتبع الموت استخلف أخاه وهلك فقتلوا أخاه وكفروا صفقة واحدة.

وفي رواية عن ابن عباس أن تبعاً لما أقبل من الشرق بعد أن حير الحيرة - أي بناها ونظم أمرها ـ وهي بكسر الحاء المهملة وياء ساكنة مدينة بقرب الكوفة ـ / وبنى سمرقند وهي مدينة بالعجم معروفة، وقيل: إنه هدمها وقصد المدينة وكان قد خلف بها حين سافر ابناً له فقتل غيلة فأجمع على خرابها واستئصال أهلها فجمع له الأنصار وخرجوا لقتاله وكانوا يقاتلونه بالنهار ويقرونه بالليل فأعجبه ذلك وقال: إن هؤلاء لكرام فبينما هو على ذلك إذ جاءه كعب وأسد ابنا عم من قريظة حبران وأخبراه أنه يحال بينك وبين ما تريد فإنها مهاجر نبـي من قريش اسمه محمد صلى الله عليه وسلم ومولده بمكة فثناه قولهما عما يريد ثم دعواه إلى دينهما فاتبعهما وأكرمهما فانصرفوا عن المدينة ومعهم نفر من اليهود فقال له في الطريق نفر من هذيل: ندلك على بيت فيه كنز من لؤلؤ وزبرجد وذهب وفضة بمكة وأرادت هذيل هلاكه لأنهم عرفوا أنه ما أراده أحد بسوء إلا هلك فذكر ذلك للحبرين فقالا: ما نعلم لله عز وجل بيتاً في الأرض اتخذه لنفسه غير هذا فاتخذه مسجداً وانسك عنده واحلق رأسك وما أراد القوم إلا هلاكك فأكرمه وكساه وهو أول من كسى البيت وقطع أيدي أولئك النفر من هذيل وأرجلهم وسمل أعينهم وصلبهم. وفي رواية أنه قال للحبرين حين قالا له ما قالا: وأنتما ما يمنعكما من ذلك؟ فقالا: أما والله إنه لبيت أبينا إبراهيم عليه السلام وإنه لكما أخبرناك ولكن أهله حالوا بيننا وبينه بالأوثان التي نصبوها حوله وبالدماء التي يريقونها عنده وهم نجس أهل شرك فعرف صدقهما ونصحهما فطاف بالبيت ونحر وحلق رأسه وأقام بمكة ستة أيام فيما يذكرون ينحر للناس ويطعم أهلها ويسقيهم العسل، وقيل: إنه أراد تخريب البيت فرمي بداء عظيم فكف عنه وكساه.

وأخرج ابن عساكر عن ابن إسحٰق أن تبعاً أري في منامه أن يكسو البيت فكساه الخصف ثم أري أن يكسوه أحسن من ذلك فكساه المعافر ثم أري أن يكسوه أحسن من ذلك فكساه الوصائل وصائل اليمن فكان فيما ذكر لي أول من كساه وأوصى بها ولاته من جرهم وأمر بتطهيره وجعل له باباً ومفتاحاً. وفي رواية أنه قال أيضاً: ولا تقربوه دماً ولا ميتاً ولا تقربه حائض.

وفي «نهاية ابن الأثير» في الحديث «أن تبعاً كسى البيت المسوح فانتفض البيت منه ومزقه عن نفسه ثم كساه الخصف فلم يقبله ثم كساه الانطاع [فقبلها]»، وفي موضع آخر منها «إن أول من كسى الكعبة كسوة كاملة تبع كساها الأنطاع ثم كساها الوصائل» والخصف فعل بمعنى مفعول من الخصف وهو ضم الشيء إلى الشيء والمراد شيء منسوج من الخوص على ما هو الظاهر، وقيل: أريد به هٰهنا الثياب الغلاظ جداً تشبيهاً بالخصف المذكور، والمعافر برود من اليمن منسوبة إلى معافر قبيلة بها، والميم زائدة، والوصائل ثياب حمر مخططة يمانية، والمسوح جمع مسح بكسر الميم وسكون المهملة أثواب من شعر غليظة، والأنطاع جمع نطع بالكسر وبالفتح وبالتحريك بسط من أديم.

وأخرج ابن سعد وابن عساكر عن أبـي بن كعب قال: لما قدم تبع المدينة ونزل بفنائها بعث إلى أحبار يهود فقال: إني مخرب هذا البلد حتى لا تقوم به يهودية ويرجع الأمر إلى دين العرب فقال له شامول اليهودي وهو يومئذ أعلمهم: أيها الملك إن هذا بلد يكون إليه مهاجر نبـي من بني إسمٰعيل مولده بمكة اسمه أحمد وهذه دار هجرته إلى أن قال: قال وما صفته؟ قال: رجل ليس بالقصير ولا بالطويل في عينيه حمرة يركب البعير ويلبس الشملة سيفه على عاتقه لا يبالي من لاقى حتى يظهر أمره فقال تبع: ما إلى هذا البلد من سبيل وما كان ليكون خرابها على يدي.

وذكر أبو حاتم الرياشي أنه آمن بالنبـي صلى الله عليه وسلم قبل أن يبعث بسبعمائة سنة، وقيل بينه وبين مولده عليه الصلاة والسلام ألف سنة، والقولان يدلان على أنه قبل مبعث عيسى عليه السلام. وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال: لا تقولوا في تبع إلا خيراً فإنه قد حج البيت وآمن بما جاء به عيسى ابن مريم، وهو يدل على أنه بعد مبعث عيسى عليه السلام، والأول أشهر.

/ ومن حديث عباد بن زياد المري أنه لما أخبره اليهود أنه سيخرج نبـي بمكة يكون قراره بهذا البلد ـ يعني المدينة ـ اسمه أحمد وأخبروه أنه لا يدركه قال للأوس والخزرج: أقيموا بهذا البلد فإن خرج فيكم فوازروه وإن لم يخرج فأوصوا بذلك أولادكم، وقال في شعره:

حدثت أن رسول المليـ ـك يخرج حقاً بأرض الحرم
ولو مد دهري إلى دهره لكنت وزيراً له وابن عم

وفي «البحر» بدل البيت الأول:

شهدت على أحمد أنه رسول من الله باري النسم

وفيه أيضاً رواية عن ابن إسحاق وغيره أنه كتب أيضاً كتاباً وكان فيه أما بعد فإني آمنت بك وبكتابك الذي أنزل عليك وأنا على دينك وسنتك وآمنت بربك ورب كل شيء وآمنت بكل ما جاء من ربك من شرائع الإسلام فإن أدركتك فبها ونعمت وإن لم أدركك فاشفع لي ولا تنسني يوم القيامة فإني من أمتك الأولين وتابعيك قبل مجيئك وأنا على ملتك وملة أبيك إبراهيم عليه السلام، ثم ختم الكتاب ونقش عليه لله الأمر من قبل ومن بعد، وكتب عنوانه إلى محمد بن عبد الله نبـي الله ورسوله خاتم النبيين ورسول رب العالمين صلى الله عليه وسلم من تبع الأول ودفعه إلى عظيم من الأوس والخزرج وأمره أن يدفعه للنبـي عليه الصلاة والسلام إن أدركه.

ويقال: إنه بنى له داراً في المدينة يسكنها إذا أدركه صلى الله عليه وسلم وقدم إليها وأن تلك الدار دار أبـي أيوب خالد بن زيد وأن الشعر والكتاب وصلا إليه وأنه من ولد ذلك الرجل الذي دفعا إليه أولاً، ولما ظهر النبـي عليه الصلاة والسلام دفعوا الكتاب إليه فلما قرىء عليه قال: مرحباً بتبع الأخ الصالح ثلاث مرات. وجاء أنه صلى الله عليه وسلم عليه صلاة الجنازة وكذا على البراء بن معرور بعد وفاته بشهر يوم قدومه عليه الصلاة والسلام المدينة كما قال النجم الغيطي وكانت صلاة الجنازة قد فرضت تلك السنة.

وكون هذا هو تبع الأول ويقال له الأكبر هو المذكور في غير ما كتاب، وذكر عبد الملك بن عبد الله بن بدرون في «شرحه لقصيدة ابن عبدون» أن أسعد هذا هو تبع الأوسط وذكر أيضاً أن ملكه ثلثمائة وعشرين سنة وملك بعده عمرو أربعاً وستين سنة، وقال ابن قتيبة: حسان وهو الذي قتل زرقاء اليمامة وأباد جديساً وكان ملكه خمساً وعشرين سنة؛ والتواريخ ناطقة بتقدم تبابعة عليه فإن تبعاً يقال لمن ملك اليمن مطلقاً كما يقال لملك الترك خاقان، والروم قيصر، والفرس كسرى أو لا يسمى به إلا إذا كانت له حمير وحضرموت كما في «القاموس» أو إلا إذا كانت له حمير وسبأ وحضرموت كما ذكره الطيبـي، والمتصف بذلك غير واحد كما لا يخفى على من أحاط خبراً بالتواريخ. وما تقدم من حكاية أنه هدم سمرقند ذكر عبد الملك خلافه ونسب هدمها إلى شمر بن افريقيس ابن أبرهة أحد التبابعة أيضاً كان قبل تبع المذكور بكثير قال: إن شمر خرج نحو العراق ثم توجه يريد الصين ودخل مدينة الصغد فهدمها وسميت شمر كند أي شمر خربها وعربت بعد فقيل سمرقند اهـ.

وحكاية البناء يمكن نسبتها إلى شمر هذا فإن كند في لغة أهل أذربيجان ونواحيها على ما قيل بمعنى القرية فسمرقند بمعنى قرية شمر وهو أوفق بالبناء.

وذكر علامة عصره الملا أمين أفندي العمري الموصلي تغمده الله تعالى برحمته في كتابه «شرح ذات الشفاء» أن تبعاً الذي ذكر سابقاً هو ابن حسان وأنه ملك الدنيا كلها وأنه يقال له الرائش لأنه راش الناس بالعطاء، ولعل ما قاله قول لبعضهم وإلا فقد قال ابن قتيبة: إنه ابن كليكرب. / وفي «شرح قصيدة ابن عبدون» أن الرائش لقب الحرث بن بدر أحد التبابعة، وهو قبل أسعد المتقدم ذكره بزمان طويل جداً، وهو أيضاً ممن ذكر نبينا صلى الله عليه وسلم في شعره فقال:

ويملك بعدهم رجل عظيم نبـي لا يرخص في الحرام
يسمى أحمدا يا ليت أني أعمر بعد مخرجه بعام

ثم إن ملكه الدنيا كلها غير مسلم، وبالجملة الأخبار مضطربة في أمر التبابعة وأحوالهم وترتيب ملوكهم بل قال صاحب «تواريخ الأمم»: ليس في التواريخ أسقم من تاريخ ملوك حمير لما يذكر من كثرة عدد سنينهم مع قلة عدد ملوكهم فإن ملوكهم ستة وعشرون ومدتهم ألفان وعشرون سنة. وقال بعض: إن مدتهم ثلاثة آلاف واثنان وثمانون سنة ثم ملك من بعدهم اليمن الحبشة والله تعالى أعلم بحقيقة الحال.

والقدر المعول عليه هٰهنا أن تبعاً المذكور هو أسعد أبو كَرِب وأنه كان مؤمناً بنبينا صلى الله عليه وسلم وكان على دين إبراهيم عليه السلام ولم يكن نبياً، وحكاية نبوته عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما لا تصح، وإخباره بمبعثه صلى الله عليه وسلم لا يقتضيها لأنه علم ذلك من أحبار اليهود وهم عرفوه من الكتب السماوية. وما روي من أنه عليه الصلاة والسلام قال: «ما أدري أكان تبع نبياً أو غير نبـي» لم يثبت، نعم روى أبو داود والحاكم أنه عليه الصلاة والسلام قال: "ما أدري أذو القرنين هو أم لا؟" وليس فيه ما يدل على التردد في نبوته وعدمها فإن ذا القرنين ليس بنبـي على الصحيح، ثم إن الظاهر أنه عليه الصلاة والسلام درى بعدُ أنه ليس ذا القرنين.

وقال قوم: ليس المراد بتبع هاهنا رجلاً واحداً إنما المراد ملوك اليمن، وهو خلاف الظاهر والأخبار تكذبه. ومعنى تبع متبوع فهو فعل بمعنى مفعول وقد يجىء هذا اللفظ بمعنى فاعل كما قيل للظل تبع لأنه يتبع الشمس، ويقال لملوك اليمن أقيال من يقيل فلان أباه إذا اقتدى به لأنهم يقتدى بهم، وقيل: سمي ملكهم قيلاً لنفوذ أقواله وهو مخفف قيل كميت.

{ وَٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ } أي قبل قوم تبع كعاد وثمود أو قبل قريش فهو تعميم بعد تخصيص { أَهْلَكْنَـٰهُمْ } استئناف لبيان عاقبة أمرهم هدد به كفار قريش أو حال بإضمار قد أو بدونه من الضمير المستتر في الصلة أو خبر عن الموصول إن جعل مبتدأ ولم يعطف على ما قبله { إِنَّهُمْ كَانُواْ مُجْرِمِينَ } تعليل لإهلاكهم أي أهلكناهم بسبب كونهم مجرمين فليحذر كفار قريش الإهلاك لإجرامهم.