خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

قُل لِّلَّذِينَ ءَامَنُواْ يَغْفِرُواْ لِلَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ أَيَّامَ ٱللَّهِ لِيَجْزِيَ قَوْماً بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ
١٤
-الجاثية

روح المعاني

{ قُل لّلَّذِينَ ءامَنُواْ يَغْفِرُواْ } حذف المقول لدلالة «يغفروا» عليه فإنه جواب للأمر باعتبار تعلقه به لا باعتبار نفسه فقط أي قل لهم اغفروا يغفروا { لِلَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ أَيَّامَ ٱللَّهِ } أي يعفوا ويصفحوا عن / الذين لا يتوقعون وقائعه تعالى بأعدائه ونقمته فيهم فالرجاء مجاز عن التوقع وكذا الأيام مجاز عن الوقائع من قولهم: أيام العرب لوقائعها وهو مجاز مشهور وروي ذلك عن مجاهد، أو لا يأملون الأوقات التي وقتها الله تعالى لثواب المؤمنين ووعدهم الفوز فيها.

والآية قيل نزلت قبل آية القتال ثم نسخت بها. وقال بعضهم: لا نسخ لأن المراد هنا ترك النزاع في المحقرات والتجاوز عن بعض ما يؤذي ويوحش، وحكى النحاس والمهدوي عن ابن عباس أنها نزلت في عمر رضي الله تعالى عنه شتمه مشرك بمكة قبل الهجرة فَهَمَّ أن يبطش به فنزلت وروي ذلك عن مقاتل وهذا ظاهر في كونها مكية كأخواتها. وإرادة فَهَمَّ أن يبطش به بعد الهجرة لأن المسلمين بمكة قبلها عاجزون مقهورون لا يمكنهم الانتصار من المشركين والعاجز لا يؤمر بالعفو والصفح غير ظاهر محتاج إلى نقل، ودوام عجز كل من المسلمين غير معلوم بل من وقف على أحوال أبـي حفص رضي الله تعالى عنه لا يتوقف في أنه قادر على ما هَمَّ به لا يبالي بما يترتب عليه. وهذا أولى في الجواب من أن يقال: إن الأمر بفعل ذلك بينه وبين الله تعالى بقلبه ليثاب عليه. نعم قيل: إن النبـي صلى الله عليه وسلم وأصحابه نزلوا في غزوة بني المصطلق على بئر يقال له المريسيع فأرسل ابن أبـي غلامَه ليستقي فأبطأ عليه فلما أتاه قال له: ما حبسك؟ قال: غلام عمر قعد على طرف البئر فما ترك أحداً يستقي حتى ملأ قرب النبـي صلى الله عليه وسلم وقرب أبـي بكر رضي الله تعالى عنه قال ابن أبـي: ما مثلنا ومثل هؤلاء إلا كما قيل سمن كلبك بأكلك فبلغ ذلك عمر رضي الله عنه فاشتمل سيفه يريد التوجه إليه فأنزل الله تعالى الآية؛ وحكاه الإمام عن ابن عباس وهو يدل على أنها مدنية، وكذا ما روي عن ميمون بن مهران قال: إن فنحاصاً اليهودي قال: لما أنزل الله تعالى: { { مَّن ذَا ٱلَّذِي يُقْرِضُ ٱللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا } [البقرة: 245] احتاج رب محمد فسمع بذلك عمر رضي الله تعالى عنه فاشتمل سيفه وخرج فبعث النبـي صلى الله عليه وسلم في طلبه حتى رده ونزلت الآية.

{ لِيَجْزِيَ قَوْماً بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ } تعليل للأمر بالمغفرة، وجوز أن يكون تعليلاً للأمر بالقول لأنه سبب لامتثالهم المجازي عليه. والمراد بالقوم المؤمنون الغافرون والتنكير للتعظيم، ولفظ القوم في نفسه اسم مدح على ما يرشد إليه الاشتقاق والاستعمال في نحو يا ابن القوم. وفي هذا التنكير كمال التعريف والتنبيه على أنهم لا يخفون نكروا أو عرفوا مع العلم بأن المجزي لا يكون إلا العامل وهو الغافر هٰهنا أي أمروا بذلك ليجزي الله تعالى يوم القيامة قوماً أيما قوم وقوماً مخصوصين بما كسبوا في الدنيا من الأعمال الحسنة التي من جملتها الصبر على أذية الكفار والإغضاء عنهم بكظم الغيظ واحتمال المكروه ما لا يحيط به نطاق البيان من الثواب العظيم، ومنهم من خص ما كسبوه بالمغفرة والصبر على الأذية، و { مَا } في الوجهين موصولة وجوز أن تكون مصدرية، والباء للسببية أو للمقابلة أو صلة { يَجْزِيَ }.

وجوز أن يراد بالقوم الكفرة وبما كسبوا سيآتهم التي من جملتها إيذاؤهم المؤمنين والتنكير للتحقير. وتعقب بأن مطلق الجزاء لا يصلح تعليلاً للأمر بالمغفرة لتحققه على تقديري المغفرة وعدمها فلا بد من تخصيصه بالكل بأن لا يتحقق بعض منه في الدنيا أو بما يصدر عنه تعالى بالذات، وفي ذلك من التكلف ما لا يخفى. وأن يراد كلا الفريقين والتنكير للشيوع، وتعقب بأنه أكثر تكلماً وأشد تمحلاً، والذي يشهد للوجه السابق ما روي عن سعيد بن المسيب قال: كنا بين يدي عمر رضي الله تعالى عنه فقرأ قارىء هذه الآية فقال: ليجزى عمر بما صنع.

وقرأ زيد بن علي وأبو عبد الرحمن والأعمش / وأبو خليد وابن عامر وحمزة والكسائي { لنجزي } بنون العظمة، وقرىء { ليجزى } بالياء والبناء للمفعول { قَوْمٌ } بالرفع على أنه نائب الفاعل، وقرأ شيبة وأبو جعفر بخلاف عنه كذلك إلا أنهما نصباً { قَوْماً } وروي ذلك عن عاصم، واحتج به من يجوز نيابة الجار والمجرور عن الفاعل مع وجود المفعول الصريح فيقول: ضرب بسوط زيداً فبما كسبوا نائب الفاعل هٰهنا ولا يجيز ذلك الجمهور، وخرجت هذه القراءة على أن القائم مقام الفاعل ضمير المصدر أي ليجزي هو أي الجزاء. ورد بأنه لا يقام مقامه عند وجود المفعول به أيضاً على الصحيح، وأجازه الكوفيون على خلاف في الإطلاق والاستحسان أو على أنه ضمير المفعول الثاني وهو الجزاء بمعنى المجزي به كما في قوله تعالى: { { جَزَاؤُهُمْ عِندَ رَبّهِمْ جَنَّـٰتُ عَدْنٍ } [البينة: 8] وأضمر لدلالة السياق كما في قوله سبحانه: { { وَلأَبَوَيْهِ } [النساء: 11] والمفعول الثاني في باب أعطى يقوم مقام الفاعل بلا خلاف وهذا من ذاك، وأبو البقاء اعتبر الخير بدل الجزاء المذكور أو على أن { قَوْماً } منصوب بأعني أو جزى مضمراً لدلالة المجهول على أن ثم جازياً واختاره أبو حيان، و { لِيَجْزِيَ } حينئذ من باب يعطي ويمنع وحيل بين العير والنزوان فمعناه ليفعل الجزاء ويكون هناك جملتان.