خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَإِذْ صَرَفْنَآ إِلَيْكَ نَفَراً مِّنَ ٱلْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ ٱلْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوۤاْ أَنصِتُواْ فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْاْ إِلَىٰ قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ
٢٩
-الأحقاف

روح المعاني

{ وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَراً مّنَ ٱلْجِنّ } أي أملناهم إليك ووجهناهم لك. والنفر على المشهور ما بين الثلاثة والعشرة من الرجال لأنه من النفير والرجال هم الذين إذا حزبهم أمر نفروا لكفايته، والحق أن هذا باعتبار الأغلب فإنه يطلق على ما فوق العشرة في الفصيح، وقد ذكر ذلك جمع من أهل اللغة، وفي «المجمل» الرهط والنفر يستعمل إلى الأربعين، وفي كلام الشعبـي حدثني بضعة عشر نفراً، وسيأتي إن شاء الله تعالى تفسيره هنا بما زاد على العشرة ولا يختص بالرجال، والأخذ من النفير لا يدل على الاختصاص بهم بل ولا بالناس لإطلاقه على الجن هنا.

والجار والمجرور صفة { نَفَراً } وقوله تعالى: { يَسْتَمِعُونَ ٱلْقُرْءانَ } حال مقدرة منه لتخصصه بالصفة أو صفة له أخرى وضمير الجمع لأنه اسم جمع فهو في المعنى جمع، ولذا قرىء { صرفنا } بالتشديد للتكثير، و { إِذْ } معمولة لمقدر لا عطف على { { أَخَا عَادٍ } [الأحقاف: 21] أي واذكر لقومك وقت صرفنا إليك نفراً من الجن مقدراً استماعهم القرآن لعلهم يتنبهون لجهلهم وغلطهم وقبح ما هم عليه من الكفر بالقرآن والإعراض عنه حيث انهم كفروا به وجهلوا أنه من عند الله تعالى وهم أهل اللسان الذي نزل به ومن جنس الرسول الذي جاء به وأولئك استمعوه وعلموا أنه من عنده تعالى وآمنوا به وليسوا من أهل لسانه ولا من جنس رسوله ففي ذكر هذه القصة توبيخ لكفار قريش والعرب، ووقوعها إثر قصة هود وقومه وإهلاك من أهلك من أهل القرى لأن أولئك كانوا ذوي شدة وقوة كما حكى عنهم في غير آية والجن توصف بذلك أيضاً كما قال تعالى: { { قَالَ عِفْرِيتٌ مّن ٱلْجِنّ أَنَاْ ءاتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن تَقُومَ مِن مَّقَامِكَ وَإِنّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ } [النمل: 39] ووصفهم بذلك معروف بين العرب فناسبت ما قبلها لذلك مع ما قيل إن قصة عاد متضمنة ذكر الريح وهذه متضمنة ذكر الجن وكلاهما من العالم الذي لا يشاهد، وسيأتي الكلام في حقيقتهم.

{ فَلَمَّا حَضَرُوهُ } أي القرآن عند تلاوته، وهو الظاهر وإن كان فيه تجوز، وقيل: الرسول صلى الله عليه وسلم عند تلاوته له ففيه التفات { قَالُواْ } أي قال بعضهم لبعض { أَنصِتُواْ } اسكتوا لنسمعه، وفيه تأدب مع العلم وكيف يتعلم { فَلَمَّا قُضِيَ } أتم وفرغ عن تلاوته. وقرأ أبو مجلز وحبيب بن عبد الله { قَضى } بالبناء للفاعل وهو ضمير الرسول صلى الله عليه وسلم، وأيد بذلك عود ضمير { حَضَرُوهُ } إليه عليه الصلاة والسلام. { وَلَّوْاْ إِلَىٰ قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ } مقدرين إنذارهم عند وصولهم إليهم.

قيل: إنهم تفرقوا في البلاد فأنذروا من رأوه من الجن، وكان هؤلاء كما جاء في عدة روايات من جن نصيبين وهي من ديار بكر قريبة من الشام، وقيل: من نينوى وهي أيضاً من ديار بكر لكنها قريبة من المَوْصل، وذكر أنهم كانوا من الشيصبان وهم أكثر الجن عدداً وعامة جنود إبليس منهم، وكان الحضور بوادي نخلة على نحو ليلة مِنْ مكة المكرمة. فقد أخرج أحمد وعبد بن حميد والشيخان والترمذي والنسائي وجماعة عن ابن عباس قال: «انطلق النبـي صلى الله عليه وسلم في طائفة من أصحابه إلى سوق عكاظ وقد حيل بين الشياطين وبين خبر السماء وأرسلت عليهم الشهب فرجعت الشياطين إلى قومهم فقالوا ما لكم؟ فقالوا: حيل بيننا وبين خبر السماء وأرسلت علينا الشهب قالوا ما حال بينكم وبين خبر السماء إلا شيء حدث فاضربوا مشارق الأرض ومغاربها فانظروا ما هذا الذي حال بينكم وبين خبر السماء فانصرف أولئك الذين توجهوا نحو تهامة إلى النبـي صلى الله عليه وسلم وهو أصحابه بنخلة عامدين إلى سوق عكاظ وهو عليه الصلاة والسلام يصلي بأصحابه صلاة الفجر فلما سمعوا القرآن استمعوا / له فقالوا: هذا والله الذي حال بينكم وبين خبر السماء فهناك حين رجعوا إلى قومهم».

وفي رواية ابن المنذر عن عبد الملك أنهم لما حضروه قالوا: أنصتوا فلما قضي وفرغ صلى الله عليه وسلم من صلاة الصبح ولوا إلى قومهم منذرين مؤمنين لم يشعر بهم حتى نزل { { قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ ٱسْتَمَعَ نَفَرٌ مّنَ ٱلْجِنّ } [الجن: 1]. وفي «الصحيحين» عن مسروق عن ابن مسعود أنه آذنته صلى الله عليه وسلم بهم شجرة.

وكانوا على ما روي عن ابن عباس سبعة وكذا قال زر وذكر منهم زوبعة، وأخرج ابن أبـي حاتم عن مجاهد أنهم كانوا سبعة: ثلاثة من أهل حران وأربعة من نصيبين وكانت أسماؤهم حسي ومسي وشاصر وماصر والأردوانيان وسرق والأحقم بميم آخره، وفي رواية عن كعب الأحقب بالباء، وذكر صاحب «الروض» بدل حسي ومسي منشيء وناشيء. وأخرج ابن جرير والطبراني وابن مردويه عن ابن عباس أنه قال في هؤلاء النفر: كانوا تسعة عشر من أهل نصيبين فجعلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم رسلاً إلى قومهم.

والخبر السابق يدل على أنه صلى الله عليه وسلم كان حين حضر الجن مع طائفة من أصحابه، وأخرج عبد بن حميد وأحمد ومسلم والترمذي وأبو داود "عن علقمة قال قلت لابن مسعود: هل صحب النبـي صلى الله عليه وسلم ليلة الجن منكم أحد؟ قال: ما صحبه منا أحد ولكنا كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة ففقدناه فالتمسناه في الأودية والشعاب فقلنا: استطير أو اغتيل فبتنا بشر ليلة بات بها قوم فلما أصبحنا إذا هو جاء من قبل حراء فأخبرناه فقال أتاني داعي الجن فأتيتهم فقرأت عليهم القرآن فانطلق بنا فأرانا آثارهم وآثار نيرانهم" فهذا يدل على أنه عليه الصلاة والسلام لم يكن معه أحد من أصحابه ولم يشعر به أحد منهم.

وأخرج أحمد عن ابن مسعود أنه قال: "قمت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الجن وأخذت إداوة ولا أحسبها إلا ماء حتى إذا كنا بأعلى مكة رأيت أسودة مجتمعة قال: فخط لي رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: قم هٰهنا حتى آتيك ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم فرأيتهم يتثورون إليه فسمر معهم ليلاً طويلاً حتى جاءني مع الفجر فقال لي: هل معك من وضوء قلت: نعم ففتحت الإداوة فإذا هو نبيذ فقلت: ما كنت أحسبها إلا ماء فإذا هو نبيذ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ثمرة طيبة وماء طهور فتوضأ منها ثم قام يصلي فأدركه شخصان منهم فصفهما خلفه ثم صلى بنا فقلت: من هؤلاء يا رسول الله؟ قال: جن نصيبين" فهذا يدل على خلاف ما تقدم والجمع بتعدد واقعة الجن.

وقد أخرج الطبراني في «الأوسط» وابن مردويه عن الحبر أنه قال: صرفت الجن إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مرتين، وذكر الخفاجي أنه قد دلت الأحاديث على أن وفادة الجن كانت ست مرات ويجمع بذلك اختلاف الروايات في عددهم وفي غير ذلك، فقد أخرج أبو نعيم والواقدي عن كعب الأحبار قال: انصرف النفر التسعة من أهل نصيبين من بطن نخلة وهم فلان وفلان وفلان والأردوانيان والأحقب جاءوا قومهم منذرين فخرجوا بعد وافدين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم ثلاثمائة فانتهوا إلى الحجون فجاء الأحقب فسلم على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن قومنا قد حضروا الحجون يلقونك فواعده رسول الله صلى الله عليه وسلم لساعة من الليل بالحجون.

وأخرج ابن أبـي حاتم عن عكرمة أنه قال في الآية: هم اثنا عشر ألفاً من جزيرة الموصل، وفي «الكشاف» حكاية هذا العدد أيضاً وأن السورة التي قرأها صلى الله عليه وسلم عليهم { { ٱقْرَأْ بِٱسْمِ رَبّكَ } [العلق: 1]، ونقل في / «البحر» عن ابن عمر وجابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنهم أنه عليه الصلاة والسلام قرأ عليهم سورة الرحمن فكان إذا قال: { { فَبِأَيِّ آلاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } [الرحمن: 13] قالوا: لا بشيء من آيات ربنا نكذب ربنا لك الحمد. وأخرج أبو نعيم في «الدلائل». والواقدي عن أبـي جعفر قال: قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم الجن في ربيع الأول سنة إحدى عشرة من النبوة وفي معناه ما قيل: كانت القصة قبل الهجرة بثلاث سنين بناء على ما صح عن ابن عباس أنه صلى الله عليه وسلم مكث بمكة يوحى إليه ثلاث عشرة سنة وفي المسألة خلاف والمشهور ما ذكر. وقيل: كان استماع الجن في ابتداء الإيحاء.