خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

فَٱصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُواْ ٱلْعَزْمِ مِنَ ٱلرُّسُلِ وَلاَ تَسْتَعْجِل لَّهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوۤاْ إِلاَّ سَاعَةً مِّن نَّهَارٍ بَلاَغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ ٱلْقَوْمُ ٱلْفَاسِقُونَ
٣٥
-الأحقاف

روح المعاني

والفاء في قوله تعالى: { فَٱصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُواْ ٱلْعَزْمِ مِنَ ٱلرُّسُلِ } واقعة في جواب شرط مقدر أي إذا كان عاقبة أمر الكفرة ما ذكر فاصبر على ما يصيبك من جهتهم أو إذا كان الأمر على ما تحققته من قدرته تعالى الباهرة فاصبر، وجوز غير واحد كونها عاطفة لهذه الجملة على ما تقدم، والسببية فيها ظاهرة واقتصر في «البحر» على كونها لعطف هذه الجملة على أخبار الكفار في الآخرة؛ وقال: ((المعنى بينهما مرتبط كأنه قيل: هذه حالهم فلا تستعجل أنت واصبر ولا تخف إلا الله عز وجل))، والعزم يطلق على الجد والاجتهاد في الشيء وعلى الصبر عليه، و{ مِنْ } بيانية كما في { { فَٱجْتَنِبُواْ ٱلرّجْسَ مِنَ ٱلأَوْثَـٰنِ } [الحج: 30] والجار والمجرور في موضع الحال من { ٱلرُّسُلَ } فيكون أولوا العزم صفة جميعهم، وإليه ذهب ابن زيد والجبائي وجماعة أي فاصبر كما صبر الرسل المجدون المجتهدون في تبليغ الوحي الذين لا يصرفهم عنه صارف ولا يعطفهم عنه عاطف والصابرون على أمر الله تعالى فيما عهده سبحانه إليهم أو قضاه وقدره عز وجل عليهم بواسطة أو بدونها.

وعن عطاء الخراساني والحسن بن الفضل والكلبـي ومقاتل وقتادة وأبـي العالية وابن جريج، وإليه ذهب أكثر المفسرين أن { مِنْ } للتبعيض فأولوا العزم بعض الرسل عليهم السلام، واختلف في عدتهم وتعيينهم على أقوال، فقال الحسن بن الفضل: ثمانية عشر وهم المذكورون في سورة [الأنعام: 90] لأنه سبحانه قال بعد ذكرهم: { { فَبِهُدَاهُمُ ٱقْتَدِهْ } وقيل: تسعة نوح عليه السلام صبر على أذى قومه طويلاً، وإبراهيم عليه السلام صبر على الإلقاء في النار، والذبيح عليه السلام صبر على ما أريد / به من الذبح، ويعقوب عليه السلام صبر على فقد ولده، ويوسف عليه السلام صبر على البئر والسجن وأيوب عليه السلام صبر على البلاء، وموسى عليه السلام قال له قومه: { { إِنَّا لَمُدْرَكُونَ } [الشعراء: 61] فقال: { { إِنَّ مَعِيَ رَبّي سَيَهْدِينِ } [الشعراء: 62] وداود عليه السلام بكى على خطيئته أربعين سنة وعيسى عليه السلام لم يضع لبنة على لبنة وقال: إنها يعني الدنيا معبرة فاعبروها ولا تعمروها، وقيل: سبعة آدم ونوح وإبراهيم وموسى وداود وسليمان وعيسى عليهم السلام، وقيل: ستة وهم الذين أمروا بالقتال وهم نوح وهود وصالح وموسى وداود وسليمان، وأخرجه ابن مردويه عن ابن عباس، وعن مقاتل أنهم ستة ولم يذكر حديث الأمر بالقتال وقال: هم نوح وإبراهيم وإسحٰق ويعقوب ويوسف وأيوب. وأخرج ابن عساكر عن قتادة أنهم نوح وهود وإبراهيم وشعيب وموسى عليهم السلام. وظاهره القول بأنهم خمسة، وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر عنه أنهم نوح وإبراهيم وموسى وعيسى وظاهره القول بأنهم أربعة وهذا أصح الأقوال. وقول الجلال السيوطي: إن أصحها القول بأنهم خمسة هؤلاء الأربعة ونبينا صلى الله عليه وسلم وعليهم أجمعين وأخرج ذلك ابن أبـي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس وهو المروي عن أبـي جعفر وأبـي عبد الله من أئمة أهل البيت رضي الله تعالى عنهم ونظمهم بعض الأجلة فقال:

أولو العزم نوح والخليل الممجد وموسى وعيسى والحبيب محمد

مبني على أنهم كذلك بعد نزول الآية وتأسي نبينا عليه الصلاة والسلام بمن أمر بالتأسي به ولم يرد أن أصح الأقوال أن المراد بهم في الآية أولئك الخمسة صلى الله تعالى عليهم وسلم إذ يلزم عليه أمره عليه الصلاة والسلام أن يصبر كصبره نفسه ولا يكاد يصح ذلك، وعلى هذا قول أبـي العالية فيما أخرجه عبد بن حميد وأبو الشيخ والبيهقي في «شعب الإيمان» وابن عساكر عنه أنهم ثلاثة نوح وإبراهيم وهود ورسول الله صلى الله عليه وسلم رابع لهم، ولعل الأولى في الآية القول الأول وإن صار أولوا العزم بعد مختصاً بأولئك الخمسة عليهم الصلاة والسلام عند الإطلاق لاشتهارهم بذلك كما في الأعلام الغالبة فكأنه قيل: فاصبر على الدعوة إلى الحق ومكابدة الشدائد مطلقاً كما صبر إخوانك الرسل قبلك.

{ وَلاَ تَسْتَعْجِل لَّهُمْ } أي لكفار مكة بالعذاب أي لا تدع بتعجيله فإنه على شرف النزول بهم { كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ } من العذاب { لَّمْ يَلْبَثُواْ } في الدنيا { إِلاَّ سَاعَةً } يسيرة { مّن نَّهَارٍ } لما يشاهدون من شدة العذاب وطول مدته. وقرأ أبـي { مّنَ ٱلنَّهَارِ } وقوله تعالى: { بَلاَغٌ } خبر مبتدأ محذوف أي هذا الذي وعظتم به كفاية في الموعظة أو تبليغ من الرسول، وجعل بعضهم الإشارة إلى القرآن أو ما ذكر من السورة. وأيد تفسير { بَلاَغٌ } بتبليغ بقراءة أبـي مجلز وأبـي سراج الهذلي { بَلِّغَ } بصيغة الأمر له صلى الله عليه وسلم، وبقراءة أبـي مجاز أيضاً في رواية { بلغ } بصيغة الماضي من التفعيل، واستظهر أبو حيان كون الإشارة إلى ما ذكر من المدة التي لبثوا فيها كأنه قيل: تلك الساعة بلاغهم كما قال تعالى: { { مَتَـٰعٌ قَلِيلٌ } [آل عمران: 197] وقال أبو مجلز: { بَلاَغٌ } مبتدأ خبره قوله تعالى: { لَهُمْ } السابق فيوقف على { وَلاَ تَسْتَعْجِل } ويبتدأ بقوله تعالى: { لَهُمْ } وتكون الجملة التشبيهية معترضة بين المبتدأ والخبر؛ والمعنى لهم انتهاء وبلوغ إلى وقت فينزل بهم العذاب؛ وهو ضعيف جداً لما فيه من الفصل ومخالفة الظاهر إذ الظاهر تعلق { لَهُمْ } بتستعجل.

وقرأ الحسن وزيد بن علي وعيسى { بلاغاً } بالنصب بتقدير بلغ بلاغاً أو بلغنا بلاغاً أو نحو ذلك. وقرأ الحسن أيضاً { بلاغ } بالجر على أنه نعت لنهار.

{ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ ٱلْقَوْمُ ٱلْفَـٰسِقُونَ } الخارجون عن الاتعاظ أو عن الطاعة، وفي الآية من الوعيد والإنذار / ما فيها. وقرأ ابن محيصن فيما حكى عنه ابن خالويه { يهلك } بفتح الياء وكسر اللام، وعنه أيضاً { يهلك } بفتح الياء واللام وماضيه هلك بكسر اللام وهي لغة، وقال أبو الفتح: هي مرغوب عنها. وقرأ زيد بن ثابت { نهلك } بنون العظمة من الإهلاك { القوم الفاسقين } بالنصب.

وهذه الآية أعني في قوله تعالى: { كَأَنَّهُمْ } إلى الآخر جاء في بعض الآثار ما يشعر بأن لها خاصية من بين آي هذه السورة. أخرج الطبراني في «الدعاء» عن أنس عن النبـي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا طلبت حاجة وأحببت أن تنجح فقل: لا إله إلا الله وحده لا شريك له العلي العظيم لا إله إلا الله وحده لا شريك له الحليم الكريم بسم الله الذي لا إله إلا هو الحي الحليم سبحان الله رب العرش العظيم الحمد لله رب العالمين { كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوۤاْ إِلاَّ عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا } [النازعات: 46] { كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوۤاْ إِلاَّ سَاعَةً مِّن نَّهَارٍ بَلاَغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ ٱلْقَوْمُ ٱلْفَاسِقُونَ } اللهم إني أسألك موجبات رحمتك وعزائم مغفرتك والسلامة من كل اثم والغنيمة من كل بر والفوز بالجنة والنجاة من النار اللهم لا تدع لي ذنباً إلا غفرته ولا هماً إلا فرجته ولا دينا إلا قضيته ولا حاجة من حوائج الدنيا والآخرة إلا قضيتها برحمتك يا أرحم الراحمين" .

»