خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَإِن طَآئِفَتَانِ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ ٱقْتَتَلُواْ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَىٰ ٱلأُخْرَىٰ فَقَاتِلُواْ ٱلَّتِي تَبْغِي حَتَّىٰ تَفِيۤءَ إِلَىٰ أَمْرِ ٱللَّهِ فَإِن فَآءَتْ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا بِٱلْعَدْلِ وَأَقْسِطُوۤاْ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلْمُقْسِطِينَ
٩
-الحجرات

روح المعاني

{ وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ ٱقْتَتَلُواْ } أي تقاتلوا، وكان الظاهر اقتتلتا بضمير التثنية كما في قوله تعالى: { فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا } أي بالنصح وإزالة الشبهة إن كانت والدعاء إلى حكم الله عز وجل. والعدول إلى ضمير الجمع لرعاية المعنى فإن كل طائفة من الطائفتين جماعة فقد روعي في الطائفتين معناهما أولاً ولفظهما ثانياً على / عكس المشهور في الاستعمال، والنكتة في ذلك ما قيل: إنهم أولاً في حال القتال مختلطون فلذا جمع أولاً ضميرهم وفي حال الصلح متميزون متفارقون فلذا ثني الضمير.

وقرأ ابن أبي عبلة { اقتتلتا } بضمير التثنية والتأنيث كما هو الظاهر. وقرأ زيد بن علي وعبيد بن عمير { اقتتلا } بالتثنية والتذكير باعتبار أن الطائفتين فريقان.

{ فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا } تعدت وطلبت العلو بغير الحق { عَلَىٰ ٱلأُخْرَىٰ } ولم تتأثر بالنصيحة { فَقَـٰتِلُواْ ٱلَّتِي تَبْغِي حَتَّىٰ تَفِيء } أي ترجع { إِلَىٰ أَمْرِ ٱللَّهِ } أي إلى حكمه أو إلى ما أمر سبحانه به وقرأ الزهري { حتى تفي } بغير همز وفتح الياء وهو شاذ كما قالوا في مضارع جاء يجي بغير همز فإذا أدخلوا الناصب فتحوا الياء أجروه مجرى يفي مضارع وفى شذوذاً. وفي تعليق القتال بالموصول للإشارة إلى علية ما في حيز الصلة أي فقاتلوها لبغيها { فَإِن فَاءَتْ } أي رجعت إلى أمره تعالى وأقلعت عن القتال حذراً من قتالكم { فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا بِٱلْعَدْلِ } بفصل ما بينهما على حكم الله تعالى ولا تكتفوا بمجرد متاركتهما عسى أن يكون بينهما قتال في وقت آخر. وتقييد الإصلاح هنا بالعدل لأنه مظنة الحيف لوقوعه بعد المقاتلة وقد أكد ذلك بقوله تعالى: { وَأَقْسِطُواْ } أي اعدلوا في كل ما تأتون وما تذرون { إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلْمُقْسِطِينَ } فيجازيهم أحسن الجزاء.

وفي «الكشاف» في الإصلاح بالعدل والقسط تفاصيل، إن كانت الباغية من قلة العدد بحيث لا منعة لها ضمنت بعد الفيئة ما جنت، وإن كانت كثيرة ذات منعة وشوكة لم تضمن إلا عند محمد بن الحسن فإنه كان يفتي بأن الضمان يلزمها إذا فاءت، وأما قبل التجمع والتجند أو حين تتفرق عند وضع الحرب أوزارها فما جنته ضمنته عند الجميع فمحمل الإصلاح بالعدل على مذهب محمد واضح منطبق على لفظ التنزيل، وعلى قول غيره وجهه أن يحمل على كون الفئة قليلة العدد، والذي ذكروا من أن الفرض إماتة الضغائن وسل الأحقاد دون ضمان الجنايات ليس بحسن الطباق للمأمور به من إعمال العدل ومراعاة القسط.

قال في «الكشف»، لأن ما ذكروه من إماتة الأضغان داخل في قوله تعالى: { فَإِن فَاءتْ } لأنه من ضرورات التوبة، فإعمال العدل والقسط إنما يكون في تدارك الفرطات ثم قال: والأولى على قول الجمهور أن يقال: الإصلاح بالعدل أنه لا يضمن من الطرفين فإن الباغي معصوم الدم والمال مثل العادل لا سيما وقد تاب فكما لا يضمن العادل المتلف لا يضمنه الباغي الفائي، هذا مقتضى العدل لا تخصيص الضمان بطرف دون آخر.

والآية نزلت في قتال وقع بين الأوس والخزرج. أخرج أحمد والبخاري ومسلم وابن جرير وابن المنذر وابن مردويه والبيهقي في «سننه» "عن أنس قال: قيل للنبـي صلى الله عليه وسلم لو أتيت عبد الله بن أبـي فانطلق إليه وركب حماراً وانطلق المسلمون يمشون وهي أرض سبخة فلما انطلق إليه قال: إليك عني فوالله لقد آذاني ريح حمارك فقال رجل من الأنصار: والله لحمار رسول الله صلى الله عليه وسلم أطيب ريحاً منك فغضب لعبد الله رجال من قومه فغضب لكل منهما أصحابه فكان بينهم ضرب بالجريد والأيدي والنعال فأنزل الله تعالى فيهم: { وَإِن طَائِفَتَانِ } الآية" ، وفي رواية "أن النبـي عليه الصلاة والسلام كان متوجهاً إلى زيارة سعد بن عبادة في مرضه فمر على عبد الله بن أبـي بن سلول فقال ما قال فرد عليه عبد الله بن رواحة رضي الله تعالى عنه فتعصب لكل أصحابه فتقاتلوا فنزلت فقرأها صلى الله عليه وسلم عليهم فاصطلحوا وكان ابن روحة خزرجياً وابن أبـي أوسياً

" . / وأخرج ابن جرير وابن أبـي حاتم عن السدي قال: كان رجل من الأنصار يقال له عمران تحته امرأة يقال لها أم زيد وأنها أرادت أن تزور أهلها فحبسها زوجها وجعلها في علية له لا يدخل عليها أحد من أهلها وأن المرأة بعثت إلى أهلها فجاء قومها فأنزلوها لينطلقوا بها وكان الرجل قد خرج فاستعان أهله فجاء بنو عمه ليحولوا بين المرأة وأهلها فتدافعوا واجتلدوا بالنعال فنزلت فيهم هذه الآية: { وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ ٱقْتَتَلُواْ } فبعث إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فأصلح بينهم وفاءوا إلى أمر الله عز وجل.

والخطاب فيها على ما في «البحر» لمن له الأمر وروي ذلك عن ابن عباس وهو للوجوب فيجب الإصلاح ويجب قتال الباغية ما قاتلت وإذا كفت وقبضت عن الحرب تركت، وجاء في حديث رواه الحاكم وغيره حكمها إذا تولت قال عليه الصلاة والسلام: "يا ابن أم عبد هل تدري كيف حكم الله فيمن بغى من هذه الأمة؟ قال: الله تعالى ورسوله أعلم قال: لا يجهز على جريحها ولا يقتل أسيرها ولا يطلب هاربها ولا يقسم فيؤها" وذكروا أن الفئتين من المسلمين إذا اقتتلا على سبيل البغي منهما جميعاً فالواجب أن يمشي بينهما بما يصلح ذات البين ويثمر المكافة والموادعة فإن لم يتحاجزا ولم يصطلحا وأقاما على البغي صيراً إلى مقاتلتهما، وأنهما إذا التحم بينهما القتال لشبهة دخلت عليهما وكلتاهما عند أنفسهما محقة فالواجب إزالة الشبهة بالحجج النيرة والبراهين القاطعة وإطلاعهما على مراشد الحق فإن ركبتا متن اللجاج ولم تعملا على شاكلة ما هديتا إليه ونصحتا به من اتباع الحق بعد وضوحه فقد لحقتا باللتين اقتتلا على سبيل البغي منهما جميعاً، والتصدي لإزالة الشبهة في الفئة الباغية إن كانت لازم قبل المقاتلة.

وقيل: الخطاب لمن يتأتى منه الإصلاح ومقاتلة الباغي فمتى تحقق البغي من طائفة كان حكم إعانة المبغي عليه حكم الجهاد، فقد أخرج الحاكم وصححه والبيهقي عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أنه قال: ما وجدت في نفسي من شيء ما وجدت في نفسي من هذه الآية يعني { وَإِن طَائِفَتَانِ } الخ إني لم أقاتل هذه الفئة بالباغية كما أمرني الله تعالى ـ يعني بها معاوية ومن معه الباغين على علي كرم الله تعالى وجهه -.

وصرح بعض الحنابلة بأن قتال الباغين أفضل من الجهاد احتجاجاً بأن علياً كرم الله تعالى وجهه اشتغل في زمان خلافته بقتالهم دون الجهاد. والحق أن ذلك ليس على إطلاقه بل إذا خشي من ترك قتالهم مفسدة عظيمة دفعها أعظم من مصلحة الجهاد.

وظاهر الآية أن الباغي مؤمن لجعل الطائفتين الباغية والمبغي عليها من المؤمنين. نعم الباغي على الإمام ولو جائراً فاسق مرتكب لكبيرة إن كان بغيه بلا تأويل أو بتأويل قطعي البطلان. والمعتزلة يقولون في مثله: إنه فاسق مخلد في النار إن مات بلا توبة، والخوارج يقولون: إنه كافر، والإمامية أكفروا الباغي على علي كرم الله تعالى وجهه المقاتل له واحتجوا بما روي من قوله صلى الله عليه وسلم له: "حربك حربـي" وفيه بحث.

وقرأ ابن مسعود { حتى يفيؤا إلى أمر الله فإن فاؤا فخذوا بينهم بالقسط }.