خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ ٱلْمَيْتَةُ وَٱلْدَّمُ وَلَحْمُ ٱلْخِنْزِيرِ وَمَآ أُهِلَّ لِغَيْرِ ٱللَّهِ بِهِ وَٱلْمُنْخَنِقَةُ وَٱلْمَوْقُوذَةُ وَٱلْمُتَرَدِّيَةُ وَٱلنَّطِيحَةُ وَمَآ أَكَلَ ٱلسَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى ٱلنُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُواْ بِٱلأَزْلاَمِ ذٰلِكُمْ فِسْقٌ ٱلْيَوْمَ يَئِسَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَٱخْشَوْنِ ٱلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ ٱلإِسْلٰمَ دِيناً فَمَنِ ٱضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ فَإِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ
٣
-المائدة

روح المعاني

{ حُرّمَتْ عَلَيْكُمُ ٱلْمَيْتَةُ } شروع في بيان المحرمات التي أشير إليها بقوله سبحانه: { { إِلاَّ مَا يُتْلَىٰ عَلَيْكُمْ } [المائدة: 1] والمراد تحريم أكل الميتة، هي ما فارقه الروح حتف أنفه من غير سبب خارج عنه { وَٱلدَّمُ } أي المسفوح منه وكان أهل الجاهلية يجعلونه في المباعر ويشوونه ويأكلونه، وأما الدم غير المسفوح كالكبد فمباح، وأما الطحال فالأكثرون على إباحته، وأجمعت الإمامية على حرمته، ورويت الكراهة فيه عن علي كرم الله تعالى وجهه. وابن مسعود رضي الله تعالى عنه { وَلَحْمُ ٱلْخِنزِيرِ } إقحام اللحم لما مر، وأخذ داود. وأصحابه بظاهره فحرموا اللحم وأباحوا غيره، وظاهر العطف أنه حرام حرمة غيره، وأخرج عبد الرزاق في «المصنف» عن قتادة أنه قال: «من أكل لحم الخنزير عرضت عليه التوبة فإن تاب وإلا قتل» وهو غريب، ولعل ذلك لأن أكله صار اليوم من علامات الكفر كلبس الزنار، وفيه تأمل { وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ ٱللَّهِ بِهِ } أي رفع الصوت لغير الله تعالى عند ذبحه، والمراد بالاهلال هنا ذكر ما يذبح له ـ كاللات. والعزى { وَٱلْمُنْخَنِقَةُ } قال السدى: هي التي يدخل رأسها بين شعبتين من شجرة فتختنق فتموت، وقال الضحاك. وقتادة: هي التي تختنق بحبل الصائد فتموت. وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: كان أهل الجاهلية يخنقون البهيمة ويأكلونها فحرم ذلك على المؤمنين، والأولى أن تحمل على التي ماتت بالخنق مطلقاً { وَٱلْمَوْقُوذَةُ } أي التي تضرب حتى تموت، قاله ابن عباس رضي الله تعالى عنهما. وقتادة. والسدى، وهو من وقذته بمعنى ضربته، وأصله أن تضربه حتى يسترخي، ومنه وقذه النعاس أي غلب عليه { وَٱلْمُتَرَدّيَةُ } أي التي تقع من مكان عال أو في بئر فتموت { وَٱلنَّطيحَةُ } أي التي ينطحها غيرها فتموت، وتاؤها للنقل فلا يرد أن فعيل بمعنى مفعول لا يدخله التاء، وقال بعض الكوفيين: إن ذلك حيث ذكر الموصوف مثل ـ كف خضيب. وعين كحيل ـ وأما إذا حذف فيجوز دخول التاء فيه، ولا حاجة إلى القول بأنها للنقل، وقرىء والمنطوحة { وَمَا أَكَلَ ٱلسَّبُعُ } أي ما أكل منه السبع فمات؛ وفسر بذلك لأن ما أكله كله لا يتعلق به حكم ولا يصح أن يستثنى منه قوله تعالى: { إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ } أي إلا ما أدركتموه وفيه بقية حياة يضطرب اضطراب المذبوح وذكيتموه، وعن السيدين السندين الباقر. والصادق رضي الله تعالى عنهما أن أدنى ما يدرك به الذكاة أن يدركه وهو يحرك الأذن. أو الذنب. أو الجفن، وبه قال الحسن. وقتادة. / وإبراهيم. وطاوس. والضحاك. وابن زيد، وقال بعضهم: يشترط الحياة المستقرة وهي التي لا تكون على شرف الزوال وعلامتها على ما قيل: أن يضطرب بعد الذبح لا وقته، وعن علي كرم الله تعالى وجهه. وابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن الاستثناء راجع إلى جميع ما تقدم ذكره من المحرمات سوى ما لا يقبل الذكاة من الميتة. والدم. والخنزير. وما أكل السبع على تقدير إبقائه على ظاهره، وقيل: هو استثناء من التحريم لا من المحرمات، والمعنى حرم عليكم سائر ما ذكر لكن ما ذكيتم مما أحله الله تعالى بالتذكية فإنه حلال لكم. وروي ذلك عن مالك. وجماعة من أهل المدينة، واختاره الجبائي، والتذكية في الشرع قطع الحلقوم والمريء بمحدد، والتفصيل في الفقه، واستدل بالآية على أن جوارح الصيد إذا أكلت مما صادته لم يحل. وقرأ الحسن: { ٱلسَّبُعُ } بسكون الباء، وابن عباس رضي الله تعالى عنهما ـ وأكيل السبع ـ. { وَمَا ذُبِحَ عَلَى ٱلنُّصُبِ } جمع نصاب كحمر. وحمار، وقيل: واحد الأنصاب كطنب وأطناب، واختلف فيها فقيل هي حجارة كانت حول الكعبة وكانت ثلثمائة وستين حجراً، وكان أهل الجاهلية يذبحون عليها ـ فعلى ـ على أصلها، ولعل ذبحهم عليها كان علامة لكونه لغير الله تعالى؛ وقيل: هي الأصنام لأنها تنصب فتعبد من دون الله تعالى، و { عَلَىٰ } إما بمعنى اللام، أو على أصلها بتقدير وما ذبح مسمى على الأصنام. واعترض بأنه حينئذ يكون كالتكرار لقوله سبحانه: { وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ ٱللَّهِ بِهِ } والأمر في ذلك هين، والموصول معطوف على المحرمات، وقرىء { ٱلنُّصُبِ } بضم النون وتسكين الصاد تخفيفاً، وقرىء بفتحتين، وبفتح فسكون.

{ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُواْ بِٱلأَزْلاَمِ } جمع زلم ـ كجمل ـ أو زلم ـ كصرد ـ وهو القدح، أي وحرم عليكم الاستقسام بالاقداح وذلك أنهم ـ كما روي عن الحسن. وغيره ـ إذا قصدوا فعلا ضربوا ثلاثة أقداح، مكتوب على أحدها أمرني ربي، وعلى الثاني نهاني ربي. وأبقوا الثالث غفلاً لم يكتب عليه شيء فإن خرج الآمر مضوا لحاجتهم، وإن خرج الناهي تجنبوا، وإن خرج الغفل أجالوها ثانياً، فمعنى الاستقسام طلب معرفة ما قسم لهم دون ما لم يقسم بالأزلام، واستشكل تحريم ما ذكر بأنه من جملة التفاؤل، وقد كان النبـي صلى الله عليه وسلم يحب الفأل. وأجيب بأنه كان استشارة مع الأصنام واستعانة منهم كما يشير إلى ذلك ما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما من أنهم إذا أرادوا ذلك أتوا بيت أصنامهم وفعلوا ما فعلوا فلهذا صار حراماً، وقيل: لأن فيه افتراء على الله تعالى إن أريد ـ بربي ـ الله تعالى، وجهالة وشركاً إن أريد به الصنم، وقيل: لأنه دخول في علم الغيب الذي استأثر الله تعالى به، واعترض بأنا لا نسلم أن الدخول في علم الغيب حرام، ومعنى استئثار الله تعالى بعلم الغيب أنه لا يعلم إلا منه، ولهذا صار استعلام الخير والشر من المنجمين والكهنة ممنوعاً حراماً بخلاف الاستخارة من القرآن فإنه استعلام من الله تعالى، ولهذا أطبقوا على جوازها. ومن ينظر في ترتيب المقدمات أو يرتاض فهو لا يطلب إلا علم الغيب منه سبحانه فلو كان طلب علم الغيب حراماً لانسد طريق الفكر والرياضة، ولا قائل به.

وقال الإمامرحمه الله تعالى: لو لم يجز طلب علم الغيب لزم أن يكون علم التعبير كفراً لأنه طلب للغيب، وأن يكون أصحاب الكرامات المدعون للالهامات كفاراً، ومعلوم أن كل ذلك باطل، وتعقب القول ـ بجواز الاستخارة بالقرآن ـ بأنه لم ينقل فعلها عن السلف، وقد قيل: إن الإمام مالكاً كرهها. وأما ما في «فتاوى الصوفية» نقلاً عن الزندوستي من أنه لا بأس بها وأنه قد فعلها علي كرم الله تعالى وجهه. ومعاذ رضي الله تعالى عنه. / وروي عن علي كرم الله تعالى وجهه أنه قال: ـ من أراد أن يتفاءل بكتاب الله تعالى فليقرأ { { قُلْ هُوَ ٱللَّهُ أَحَدٌ } [الإخلاص:1] سبع مرات، وليقل ثلاث مرات: اللهم بكتابك تفاءلت، وعليك توكلت، اللهم أرني في كتابك ما هو المكتوم من سرك المكنون في غيبك، ثم يتفاءل بأول الصحيفة ـ ففي النفس منه شيء.

وفي كتاب «الأحكام» للجصاص «أن الآية تدل على بطلان القرعة في عتق العبيد لأنها في معنى ذلك بعينه إذا كان فيها إثبات ما أخرجته القرعة من غير استحقاق كما إذا أعتق أحد عبيده عند موته على ما بين في الفقه، ولا يرد أن القرعة قد جازت في قسمة الغنائم مثلاً، وفي إخراج النساء لأنا نقول: إنها فيما ذكر لتطييب النفوس والبراءة من التهمة في إيثار البعض ولو اصطلحوا على ذلك جاز من غير قرعة، وأما الحرية الواقعة على واحد من العبيد فيما نحن فيه فغير جائز نقلها عنه إلى غيره، وفي استعمال القرعة النقل».

وخالف الشافعي في ذلك، فجوز القرعة في العتق كما جوزها في غيره، وظواهر الأدلة معه وتحقيق ذلك في موضعه. والحق عندي أن الاستقسام الذي كان يفعله أهل الجاهلية حرام بلا شبهة كما هو نص الكتاب، وأن حرمته ناشئة من سوء الاعتقاد، وأنه لا يخلو عن تشاؤم، وليس بتفاؤل محض، وإن مثل ذلك ليس من الدخول في علم الغيب أصلاً بل هو من باب الدخول في الظن، وأن الاستخارة بالقرآن مما لم يرد فيها شيء يعول عليه عن الصدر الأول، وتركها أحب إلي لا سيما وقد أغنى الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم عنها بما سن من الاستخارة الثابتة في غير ما خبر صحيح، وأن تصديق المنجمين فيما ليس من جنس الخسوف والكسوف مما يخبرون به من الحوادث المستقبلة محظور وليس من علم الغيب ولا دخولاً فيه، وإن زعمه الزجاج لبنائه على الأسباب، ونقل الشيخ محيي الدين النووي في «شرح مسلم» عن القاضي «كانت الكهانة في العرب ثلاثة أضرب. أحدها: أن يكون للإنسان رئي من الجن يخبره (به) بما يسترقه من السمع من السماء، وهذا القسم بطل من حين بعث الله تعالى نبينا صلى الله عليه وسلم الثاني: أن يخبره بما يطرأ (و) يكون في أقطار الأرض وما خفي عنه مما قرب أو بعد، وهذا لا يبعد وجوده، ونفت المعتزلة. وبعض المتكلمين هذين الضربين وأحالوهما، ولا استحالة في ذلك ولا بعد في وجوده لكنهم يصدقون ويكذبون، والنهي عن تصديقهم والسماع منهم عام، الثالث: المنجمون وهذا الضرب (بخلق الله تعالى في بعض) الناس قوة مّا لكن الكذب فيه أغلب، ومن هذا الفن العرافة فصاحبها عرّاف وهو الذي يستدل على الأمور بأسباب ومقدمات يدعي معرفتها بها (ـ كالزجر والطرق بالحصى ـ) وهذه الأضرب كلها تسمى كهانة، وقد أكذبهم [كلهم] الشرع ونهى عن تصديقهم وإتيانهم» انتهى. ولعل النهي عن ذلك لغلبة الكذب في كلامهم ولأن في تصديقهم فتح باب يوصل إلى لظى إذ قد يجر إلى تعطيل الشريعة والطعن فيها لا سيما من العوام، واستثناء ما هو من جنس الكسوف والخسوف لندرة خطئهم فيه بل لعدمه إذا أمكنوا الحساب، ولا كذلك ما يخبرون به من الحوادث إذ قد بنوا ذلك على أوضاع السيارات بعضها مع بعض، أو مع بعض الثوابت ولا شك أن ذلك لا يكفي في الغرض والوقوف على جميع الأوضاع، وما تقتضيه مما يتعذر الوقوف عليه لغير علام الغيوب فليفهم، وقيل: المراد بالاستقسام استقسام الجزور بالأقداح على الأنصباء المعلومة أي طلب قسم من الجزور أو ما قسمه الله تعالى له منه، وهذا هو الميسر وقد تقدم بيانه، وروى ذلك علي بن إبراهيم عن الأئمة الصادقين رضي الله تعالى عنهم، ورجح بأنه يناسب ذكره مع محرمات الطعام، وروي عن مجاهد أنه فسر الأزلام بسهام العرب وكعاب فارس التي يتقامرون بها. / وعن وكيع أنها أحجار الشطرنج { ذٰلِكُمْ } أي الاستقسام بالأزلام، ومعنى البعد فيه الإشارة إلى بعد منزلته في الشر { فِسْقٌ } أي ذنب عظيم وخروج عن طاعة الله تعالى إلى معصيته لما أشرنا إليه، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن { ذٰلِكُمْ } إشارة إلى تناول جميع ما تقدم من المحرمات المعلوم من السياق.

{ ٱلْيَوْمَ } أي الزمان الحاضر وما يتصل به من الأزمنة الآتية، وقيل: يوم نزول الآية، وروي ذلك عن ابن جريج. ومجاهد. وابن زيد، وكان ـ كما رواه الشيخان عن عمر رضي الله تعالى عنه ـ عصر يوم الجمعة [يوم] عرفة [في] حجة الوداع، وقيل: يوم دخوله صلى الله عليه وسلم مكة لثمان بقين من رمضان سنة تسع، وقيل: سنة ثمان، وهو منصوب على الظرفية بقوله تعالى: { يَئِسَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ } واليأس انقطاع الرجاء وهو ضد الطمع. والمراد انقطع رجاؤهم من إبطال دينكم ورجوعكم عنه بتحليل هذه الخبائث وغيرها، أو من أن يغلبوكم عليه لما شاهدوا أن الله تعالى وفي بوعده حيث أظهره على الدين كله. وروي أنه لما نزلت الآية نظر صلى الله عليه وسلم في الموقف فلم ير إلا مسلماً، ورجح هذا الاحتمال بأنه الأنسب بقوله سبحانه: { فَلاَ تَخْشَوْهُمْ } أن يظهروا عليكم وهو متفرع عن اليأس { وَٱخْشَوْنِ } أن أحل بكم عقابي إن خالفتم أمري وارتكبتم معصيتي.

{ ٱلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ } بالنصر والإظهار لأنهم بذلك يجرون أحكام الدين من غير مانع وبه تمامه، وهذا كما تقول: تم لي الملك إذا كفيت ما تخافه، وإلى ذلك ذهب الزجاج، وعن ابن عباس. والسدى أن المعنى اليوم أكملت لكم حدودي. وفرائضي. وحلالي. وحرامي بتنزيل ما أنزلت. وبيان ما بينت لكم فلا زيادة في ذلك ولا نقصان منه بالنسخ بعد هذا اليوم، وكان يوم عرفة عام حجة الوداع، واختاره الجبائي. والبلخي. وغيرهما، وادعوا أنه لم ينزل بعد ذلك شيء من الفرائض على رسول الله صلى الله عليه وسلم في تحليل ولا تحريم، وأنه عليه الصلاة والسلام لم يلبث بعد سوى أحد وثمانين يوماً، ومضى ـ روحي فداه ـ إلى الرفيق الأعلى صلى الله عليه وسلم. وفهم عمر رضي الله تعالى عنه لما سمع الآية نعى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد أخرج ابن أبي شيبة عن عنترة "أن عمر رضي الله تعالى عنه لما نزلت الآية بكى فقال له النبـي صلى الله عليه وسلم: ما يبكيك؟ قال: أبكاني أنا كنا في زيادة من ديننا فأما إذا كمل فإنه لم يكمل شيء قط إلا نقص فقال عليه الصلاة والسلام: صدقت" ولا يحتج بها على هذا القول على إبطال القياس ـ كما زعم بعضهم ـ لأن المراد إكمال الدين نفسه بيان ما يلزم بيانه، ويستنبط منه غيره والتنصيص على قواعد العقائد، والتوقيف على أصول الشرع وقوانين الاجتهاد، وروي عن سعيد بن جبير. وقتادة أن المعنى اليوم أكملت لكم حجكم وأقررتكم بالبلد الحرام تحجونه دون المشركين ـ واختاره الطبري ـ وقال: يرد على ما روي عن ابن عباس. والسدي رضي الله تعالى عنهم أن الله تعالى أنزل بعد ذلك آية الكلالة وهي آخر آية نزلت، واعترض بالمنع، وتقديم الجار للإيذان من أول الأمر بأن الإكمال لمنفعتهم ومصلحتهم، وفيه أيضاً تشويق إلى ذكر المؤخر كما في قوله تعالى: { وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي } وليس الجار فيه متعلقاً ـ بنعمتي ـ لأن المصدر لا يتقدم عليه معموله، وقيل: متعلق به ولا بأس بتقدم معمول المصدر إذا كان ظرفاً، وإتمام النعمة على المخاطبين بفتح مكة، ودخولها / آمنين ظاهرين، وهدم منار الجاهلية ومناسكها، والنهي عن حج المشركين وطواف العريان، وقيل: بإتمام الهداية والتوفيق باتمام سببهما، وقيل: بإكمال الدين، وقيل: بإعطائهم من العلم والحكمة ما لم يعطه أحداً قبلهم، وقيل: معنى أتممت عليكم نعمتي أنجزت لكم وعدي بقوله سبحانه: { وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي }.

{ وَرَضِيتُ لَكُمُ ٱلإِسْلٰمَ دِيناً } أي اخترته لكم من بين الأديان، وهو الدين عند الله تعالى لا غير وهو المقبول وعليه المدار. وأخرج ابن جبير عن قتادة قال: «ذكر لنا أنه يمثل لأهل كل دين دينهم يوم القيامة، فأما الإيمان فيبشر أصحابه وأهله ويعدهم في الخير حتى يجيء الإسلام فيقول: رب أنت السلام وأنا الإسلام، فيقول: إياك اليوم أقبل وبك اليوم أجزي» وقد نظر في الرضا معنى الاختيار ولذا عدي باللام، ومنهم من جعل الجار ـ صفة لدين ـ قدم عليه فانتصب حالا، والإسلام و{ دِينًا } مفعولاً { رضيت } إن ضمن معنى صير، أو دينا منصوب على الحالية من (الإسلام)، أو تمييز من { لَكُمْ } والجملة ـ على ما ذهب إليه الكرخي ـ مستأنفة لا معطوفة على { أَكْمَلْتُ } وإلا كان مفهوم ذلك أنه لم يرضى لهم الإسلام قبل ذلك اليوم ديناً، وليس كذلك إذ الإسلام لم يزل ديناً مرضياً لله تعالى. وللنبي صلى الله عليه وسلم. وأصحابه رضي الله تعالى عنهم منذ شرع. والجمهور على العطف، وأجيب عن التقييد بأن المراد برضاه سبحانه حكمه جل وعلا باختياره حكماً أبدياً لا ينسخ وهو كان في ذلك اليوم، وأخرج الشيعة عن أبي سعيد الخدري أن هذه الآية نزلت بعد أن قال النبـي صلى الله عليه وسلم لعلي كرم الله تعالى وجهه في غدير خم: "من كنت مولاه فعلي مولاه" فلما نزلت قال عليه الصلاة والسلام: الله أكبر على إكمال الدين وإتمام النعمة ورضاء الرب برسالتي وولاية علي كرم الله تعالى وجهه بعدي، ولا يخفى أن هذا من مفترياتهم، وركاكة الخبر شاهدة على ذلك في مبتدأ الأمر، نعم ثبت عندنا أنه صلى الله عليه وسلم قال في حق الأمير كرم الله تعالى وجهه هناك: من كنت مولاه فعلي مولاه وزاد على ذلك ـ كما في بعض الروايات ـ لكن لا دلالة في الجميع على ما يدعونه من الإمامة الكبرى والزعامة العظمى كما سيأتي إن شاء الله تعالى غير بعيد. وقد بسطنا الكلام عليه في كتابنا «النفحات القدسية في رد الإمامية» ولم يتم إلى الآن ونسأل الله تعالى إتمامه، ورواياتهم في هذا الفصل ينادي لفظها على وضعها، وقد أكثر منها يوسف الأوالي عليه ما عليه.

{ فَمَنِ ٱضْطُرَّ } متصل بذكر المحرمات وما بينهما، وهو سبع جمل ـ على ما قال الطيبي ـ اعتراض بما يوجب التجنب عنها، وهو أن تناولها فسق عظيم، وحرمتها في جملة الدين الكامل. والنعمة التامة. والإسلام المرضي، والاضطرار الوقوع في الضرورة، أي فمن وقع في ضرورة تناول شيء من هذه المحرمات { فِي مَخْمَصَةٍ } أي مجاعة تخمص لها البطون أن تضمر يخاف معها الموت أو مباديه { غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ } أي غير مائل ومنحرف إليه ومختار له بأن يأكل منها زائداً على ما يمسك رمقه، فإن ذلك حرام كما روي عن ابن عباس. ومجاهد. وقتادة رضي الله تعالى عنهم ـ وبه قال أهل العراق، وقال أهل المدينة: يجوز أن يشبع عند الضرورة، وقيل: المراد غير عاص بأن يكون باغياً، أو عادياً بأن ينتزعها من مضطر آخر أو خارجاً في معصيته، وروي هذا أيضاً عن قتادة { فَإِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } لا يؤاخذه بأكله وهو الجواب في الحقيقة، وقد أقيم سببه مقامه، وقيل: إنه مقدر في الكلام.