خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَٱلسَّارِقُ وَٱلسَّارِقَةُ فَٱقْطَعُوۤاْ أَيْدِيَهُمَا جَزَآءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ ٱللَّهِ وَٱللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ
٣٨
-المائدة

روح المعاني

{ وَٱلسَّارِقُ وَٱلسَّارِقَةُ فَٱقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا } شروع في بيان حكم السرقة الصغرى بعد بيان أحكام الكبرى، وقد تقدم بيان اقتضاء الحال لإيراد ما توسط بينهما من المقال، والكلام جملتان ـ عند سيبويه ـ إذ التقدير / فيما يتلى عليكم ـ السارق والسارقة ـ أي حكمهما، وجملة عند المبرد، وقرأ عيسى بن عمر بالنصب، وفضلها سيبويه على قراءة العامة لأجل الأمر ـ لأن زيداً فأضربه أحسن من زيد فأضربه ـ قاله الزمخشري، واتبعه من تبعه ومنهم ابن الحاجب.

وتعقبه العلامة أحمد في «الانتصاف» بكلام كله محاسن فلا بأس في نقله برمته، فنقول. قال فيه: «المستقرأ من وجوه القراآت أن العامة لا تتفق فيها أبداً على العدول عن الأفصح، وجدير بالقرآن أن (يحرز) أفصح الوجوه وأن لا يخلو من الأفصح و [ما] يشتمل عليه كلام العرب الذي لم يصل أحد منهم إلى ذروة فصاحته ولم يتعلق بأهدابها، وسيبويه يحاشى من اعتقاد عراء القرآن عن الأفصح واشتمال الشاذ الذي لا يعدّ من القرآن عليه، ونحن نورد الفصل من كلام سيبويه على هذه الآية ليتضح لسامعه براءة سيبويه من عهدة هذا النقل، قال سيبويه في ترجمة باب الأمر والنهي بعد أن ذكر المواضع التي يختار فيها النصب وملخصها: أنه متى بني الاسم على فعل الأمر فذاك موضع اختيار النصب، ثم قال كالموضح لامتياز هذه الآية عما اختار (فيه) النصب: وأما قوله عز وجل: { وَٱلسَّارِقُ وَٱلسَّارِقَةُ فَٱقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا } وقوله تعالى: { ٱلزَّانِيَةُ وَٱلزَّانِى فَٱجْلِدُواْ } [النور: 2] فإن هذا لم يبن على الفعل ولكنه جاء على مثال قوله عز وجل: { { مَّثَلُ ٱلْجَنَّةِ ٱلَّتِى وُعِدَ ٱلْمُتَّقُونَ } ثم قال سبحانه بعد: { { فِيهَا أَنْهَارٌ } [محمد: 15] منها كذا، يريد سيبويه تمييز هذه الآي عن المواضع التي بين اختيار النصب فيها، ووجه التمييز أن الكلام حيث يختار النصب يكون الاسم فيه مبنياً على الفعل، وأما في هذه الآي فليس بمبني عليه فلا يلزم فيه اختيار النصب، ثم قال: وإنما وضع المثل للحديث الذي ذكره بعده فذكر أخباراً وقصصاً، فكأنه قال: ومن القصص ـ مثل الجنة ـ فهو محمول على هذا الإضمار والله تعالى أعلم، وكذلك الزانية والزاني لما قال جل ثناؤه: { { سُورَةٌ أَنزَلْنَـٰهَا وَفَرَضْنَـٰهَا } [النور: 1] قال جل وعلا في جملة الفرائض: { ٱلزَّانِيَةُ وَٱلزَّانِى } ثم جاء { { فَٱجْلِدُواْ } [النور: 2] بعد أن مضى فيهما الرفع ـ يريد سيبويه ـ لم يكن الاسم مبنياً على الفعل المذكور بعد، بل بني على محذوف متقدم، وجاء الفعل طارئاً، ثم قال: كما جاء ـ وقائلةٍ خولان فانكح فتاتهم، فجاء بالفعل بعد أن عمل فيه المضمر، وكذلك { وَٱلسَّارِقُ وَٱلسَّارِقَةُ } [كأنه قال] فيما فرض عليكم السارق والسارقة وإنما (دخلت هذه الأسماء) بعد قصص وأحاديث، وقد قرأ أناس { وَٱلسَّارِقَ وَٱلسَّارِقَةَ } بالنصب وهو في العربية على ما ذكرت لك من القوة، ولكن أبت العامة إلا الرفع، يريد إن قراءة النصب جاء الاسم فيها مبنياً على الفعل غير معتمد على متقدم، فكان النصب قوياً بالنسبة إلى الرفع، حيث يبنى الاسم على الفعل لا على متقدم، وليس يعني أنه قوي بالنسبة إلى الرفع، حيث يعتمد الاسم على المحذوف المتقدم، فإنه قد بين أن ذلك يخرجه عن الباب الذي يختار فيه النصب، فكيف يفهم عنه ترجيحه عليه، والباب مع (القرائن) مختلف، وإنما يقع الترجيح بعد التساوي في الباب، فالنصب أرجح من الرفع حيث يبنى الاسم على الفعل، والرفع متعين ـ لا أقول أرجح ـ حيث يبنى الاسم على كلام متقدم، وإنما التبس على الزمخشري كلام سيبويه من حيث اعتقد أنه باب واحد عنده، ألا ترى إلى قوله: لأن زيداً فأضربه أحسن من زيد فأضربه، كيف رجح النصب على الرفع، حيث يبنى الكلام في الوجهين على الفعل، وقد صرح سيبويه بأن الكلام في الآية مع الرفع مبني على كلام متقدم، ثم حقق [سيبويه] هذا المقدار بأن الكلام واقع بعد قصص وأخبار، ولو كان كما ظنه الزمخشري لم يحتج سيبويه إلى تقدير، بل كان يرفعه على الابتداء، ويجعل الأمر خبره ـ كما أعربه الزمخشري ـ فالملخص ـ على / هذا ـ أن النصب على وجه واحد، وهو بناء الاسم على فعل الأمر، والرفع على وجهين، أحدهما: ضعيف وهو الابتداء، وبناء الكلام على الفعل، والآخر: قوي بالغ كوجه النصب، وهو رفعه على خبر ابتداء محذوف دل عليه السياق، وإذا تعارض لنا وجهان في الرفع، أحدهما قوي والآخر ضعيف تعين حمل القراءة على القوي كما أعربه سيبويهرحمه الله تعالى ورضي عنه» انتهى.

والفاء إذا بني الكلام على جملتين سببية لا عاطفة، وقيل: زائدة وكذا على الوجه الضعيف، فإن المبتدأ متضمن معنى الشرط إذ المعنى والذي سرق والتي سرقت، وزعم بعض المحققين أن مثل هذا التركيب لا يتوجه إلا بأحد أمرين: زيادة الفاء كما نقل عن الأخفش، أو تقدير إما لأن دخول الفاء في خبر المبتدأ إما لتضمنه معنى الشرط، وإما لوقوع المبتدأ بعد أما، ولما لم يكن الأول وجب الثاني ولا يخفى ما فيه، وعلى قراءة عيسى بن عمر يكون النصب على إضمار فعل يفسره الظاهر، والفاء أيضاً ـ كما قال ابن جني ـ لما في الكلام من معنى الشرط، ولذا حسنت مع الأمر لأنه بمعناه، ألا تراه جزم جوابه لذلك إذ معنى أسلم تدخل الجنة إن تسلم تدخل الجنة، والمراد كما يشير إليه بعض شروح «الكشاف» إذ أردتم حكم السارق والسارقة فاقطعوا الخ، ولذا لم يجز زيداً فضربته لأن الفاء لا تدخل في جواب الشرط إذا كان ماضياً، وتقديره إن أردتم معرفة الخ أحسن من تقديره إن قطعتم لأنه لا يدل على الوجوب المراد، وقال أبو حيان: إن الفاء في جواب أمر مقدر أي تنبه لحكمهما فاقطعوا، وقيل: إنما دخلت الفاء لأن حق المفسر أن يذكر عقب المفسر كالتفصيل بعد الإجمال في قوله تعالى: { { فَتُوبُواْ إِلَىٰ بَارِئِكُمْ فَٱقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ } [البقرة: 54] وليس بشيء، وبما ذكر صاحب «الانتصاف» يعلم فساد ما قيل: إن سبب الخلاف السابق في مثل هذا التركيب أن سيبويه والخليل يشترطان في دخول الفاء الخبر كون المبتدأ موصولاً بما يقبل مباشرة أداة الشرط، وغيرهما لا يشترط ذلك، والظاهر أن سبب هذا عدم الوقوف على المقصود فليحفظ.

والسرقة أخذ مال الغير خفية، وإنما توجب القطع إذا كان الأخذ من حرز، والمأخوذ يساوي عشرة دراهم فما فوقها، مع شروط تكفلت ببيانها الفروع، ومذهب الشافعي والأوزاعي وأبـي ثور والإمامية رضي الله تعالى عنهم أن القطع فيما يساوي ربع دينار فصاعداً، وقال بعضهم: لا تقطع الخمس إلا بخمسة دراهم، واختاره أبو علي الجبائي، قيل: يجب القطع في القليل والكثير ـ وإليه ذهب الخوارج ـ والمراد بالأيدي الأيمان ـ كما روي عن ابن عباس والحسن والسدي وعامة التابعين رضوان الله عليهم أجمعين ـ ويؤيده قراءة ابن مسعود رضي الله تعالى عنه ـ أيمانهما ـ ولذلك ساغ وضع الجمع موضع المثنى كما في قوله: { { فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا } [التحريم: 4] اكتفاءاً بتثنية المضاف إليه كذا قالوا قال الزجاج: وحقيقة هذا الباب أن ما كان في الشيء منه واحد لم يثن، ولفظ به على الجمع لأن الإضافة تبينه، فإذا قلت: أشبعت بطونهما علم أن للإثنين بطنين فقط. وفرع الطيبـي عليه عدم استقامة تشبيه ما في الآية هنا بما في الآية الأخرى لأن لكل من السارق يدين فيجوز الجمع، وأن تقطع الأيدي كلها من حيث ظاهر اللغة وكذا قال أبو حيان، وفيه نظر لأن الدليل قد دل على أن المراد من اليد يد مخصوصة وهي اليمين فجرت مجرى القلب والظهر؛ واليد اسم لتمام العضو، ولذلك ذهب الخوارج إلى أن المقْطع هو المنكب، والإمامية على أنه يقطع من أصول الأصابع ويترك له الإبهام والكف، ورووه عن علي كرم الله تعالى وجهه، واستدلوا عليه أيضاً بقوله تعالى: { { فَوَيْلٌ لّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ ٱلْكِتَـٰبَ بِأَيْدِيهِمْ } [البقرة: 79] إذ لا شك في أنهم إنما يكتبونه بالأصابع، وأنت تعلم أن هذا لا يتم به الاستدلال على ذلك المدعي، وحال روايتهم / أظهر من أن تخفى، والجمهور على أن المقطع هو الرسغ، فقد أخرج البغوي وأبو نعيم في «معرفة الصحابة» من حديث الحرث بن أبـي عبد الله بن أبـي ربيعة "أنه عليه الصلاة والسلام أتي بسارق فأمر بقطع يمينه منه" والمخاطب بقوله سبحانه: { فَٱقْطَعُواْ } على ما في «البحر» الرسول صلى الله عليه وسلم أو ولاة الأمور كالسلطان ومن أذن له في إقامة الحدود، أو القضاة والحكام، أو المؤمنون أقوال أربعة، ولم تدرج السارقة في السارق تغليباً كما هو المعروف في أمثاله لمزيد الاعتناء بالبيان والمبالغة في الزجر.

{ جَزَآءً } نصب على أنه مفعول له أي فاقطعوا للجزاء، أو على أنه مصدر ـ لاقطعوا ـ من معناه، أو لفعل مقدر من لفظه، وجوز أن يكون حالاً من فاعل ـ اقطعوا ـ مجازين لهما { بِمَا كَسَبَا } بسبب كسبهما، أو ما كسباه من السرقة التي تباشر بالأيدي وقوله تعالى: { نَكَـٰلاً } مفعول له أيضاً ـ كما قال أكثر المعربين ـ وقال السمين: منصوب كما نصب { جَزَآءً }، واعترض الوجه الأول بأنه ليس بجيد لأن المفعول له لا يتعدد بدون عطف واتباع لأنه على معنى اللام، فيكون كتعلق حرفي جر بمعنى بعامل واحد وهو ممنوع، ودفع بأن النكال نوع من الجزاء فهو بدل منه، وقال الحلبـي وبعض المحققين: إنه إنما ترك العطف إشعاراً بأن القطع للجزاء والجزاء للنكال والمنع عن المعاودة، وعليه يكون مفعولاً له متداخلاً كالحال المتداخلة، وبه أيضاً يندفع الاعتراض وهو حسن، وقال عصام الملة: إنما لم يعطف لأن العلة مجموعهما ـ كما في هذا حلو حامض ـ والجزاء إشارة إلى أن فيه حق العبد، والنكال إشارة إلى أن فيه حق الله تعالى، ولا يخفى ما فيه فتأمل، ونقل عن بعض النحاة أنه أجاز تعدد المفعول له بلا اتباع وحينئذ لا يرد السؤال رأساً، وقوله تعالى: { مِنَ ٱللَّهِ } متعلق بمحذوف وقع صفة لنكالاً أي نكالاً كائناً منه تعالى { وَٱللَّهُ عَزِيزٌ } في شرع الردع { حَكِيمٌ } في إيجاب القطع، أو عزيز في انتقامه من السارق وغيره من أهل المعاصي حكيم في فرائضه وحدوده، والإظهار في مقام الإضمار لما مر غير مرة.

ومن الغريب أنه نقل عن أبيّ رضي الله تعالى عنه أنه قرأ ـ والسرق والسرقة ـ بترك الألف وتشديد الراء، فقال ابن عطية: إن هذه القراءة تصحيف لأن السارق والسارقة قد كتبا في المصحف بدون الألف، وقيل: في توجيهها أنهما جمع سارق وسارقة، لكن قيل: إنه لم ينقل هذا الجمع في جمع المؤنث؛ فلو قيل: إنهما صيغة مبالغة لكان أقرب، واعترض ـ الملحد ـ المعري على وجوب قطع اليد بسرقة القليل فقال:

يد بخمس مئين عسجد وديت ما بالها قطعت في ربع دينار
تحكم ما لنا إلا السكوت له وأن نعوذ بمولانا من النار

فأجابه ـ ولله دره ـ علم الدين السخاوي بقوله:

عز الأمانة: أغلاها وأرخصها ذل الخيانة فافهم حكمة الباري

وفي «الأحكام» لابن عربـي [2/ 618] «أنه كان جزاء السارق في شرع من قبلنا استرقاقه، وقيل: كان ذلك إلى زمن موسى عليه الصلاة والسلام ونسخ، فعلى الأول: شرعنا ناسخ لما قبله، وعلى الثاني: مؤكد للنسخ».