خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَهُوَ ٱلْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُم حَفَظَةً حَتَّىٰ إِذَا جَآءَ أَحَدَكُمُ ٱلْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لاَ يُفَرِّطُونَ
٦١
-الأنعام

روح المعاني

{ وَهُوَ ٱلْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ } فلا يعجزه أحد منهم ولا يحول بينه سبحانه وبين ما يريده فيهم، و { فَوْقَ } نصب على الظرفية حال أو خبر بعد خبر، وقد تقدم الكلام مبسوطاً فيما للعلماء في هذه الآية { وَيُرْسِلُ عَلَيْكُم حَفَظَةً } من الملائكة وهم الكرام الكاتبون المذكورون في قوله تعالى: { { وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَـٰفِظِينَ * كِرَاماً كَـٰتِبِينَ } [الانفطار: 10-11] أو المعقبات المذكورة في قوله سبحانه: { { لَهُ مُعَقّبَـٰتٌ مّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ ٱللَّهِ } [الرعد: 11]، وقيل: المراد ما يشمل الصنفين، ويقدر المحفوظ الأعمال والأنفس والأعم. وعن قتادة يحفظون العمل والرزق والأجل. والذي ذهب إليه أكثر المفسرين المعنى الأول في الحفظة. وهم عند بعض يكتبون الطاعات والمعاصي والمباحات بأسرها كما يشعر بذلك { { مَالِ هَـٰذَا ٱلْكِتَـٰبِ لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا } [الكهف: 49] وجاء في الأثر تفسير الصغيرة بالتبسم والكبيرة بالضحك و { { مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ } [قۤ: 18] وقال آخرون: لا يكتبون المباحات إذ لا يترتب عليها شيء. وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن مع كل إنسان ملكين أحدهما عن يمينه والآخر عن يساره فإذا تكلم الإنسان بحسنة كتبها من على اليمين وإذا تكلم بسيئة قال من على اليمين لمن على اليسار: لتنتظره لعله يتوب منها فإن لم يتب كتب عليه والمشهور أنهما على الكتفين، وقيل: على الذقن، وقيل: في الفم يمينه ويساره. واللازم الإيمان بهما دون تعيين محلهما والبحث عن كيفية كتابتهما، وظواهر الآيات تدل على أن اطلاع هؤلاء الحفظة على الأقوال والأفعال كقوله تعالى: { { مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ } [قۤ: 18] الخ، وقوله سبحانه: { { يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ } [الانفطار: 12] وأما على صفات القلوب كالإيمان والكفر مثلاً فليس في الظواهر ما يدل على اطلاعهم عليها، والأخبار بعضها يدل على الاطلاع كخبر "إذا هم العبد بحسنة ولم يعملها كتبت له حسنة" فإن الهم من أعمال القلب كالإيمان والكفر، وبعضها يدل على عدم الاطلاع كخبر "إذا كان يوم القيامة يجاء بالأعمال في صحف محكمة فيقول الله تعالى اقبلوا هذا وردوا هذا فتقول الملائكة وعزتك ما كتبنا إلا ما عمل فيقول سبحانه: إن عمله كان لغيري وإني لا أقبل اليوم إلا ما كان لوجهي" وفي رواية مرسلة لابن المبارك "إن الملائكة يرفعون أعمال العبد من عباد الله تعالى فيستكثرونه ويزكونه حتى يبلغوا به حيث شاء الله تعالى من سلطانه فيوحي الله تعالى إليهم إنكم حفظة عمل عبدي وأنا رقيب على ما في نفسه إن عبدي هذا لم يخلص في عمله فاجعلوه في سجين" الحديث. والقائل بأنهم لا يكتبون إلا الأعمال الظاهرة يقول: معنى ـ كتبت ـ في حديث الهم بالحسنة ثبتت عندنا وتحققت لا كتبت في صحف الملائكة.

والقائل بأنهم يكتبون الأعمال القلبية يقول باستثناء الرياء فيكتبون العمل دونه ويخفيه الله تعالى عنهم ليبطل سبحانه به عمل المرائي بعد كتابته إما في الآخرة أو في الدنيا زيادة في تنكيله وتفظيع حاله، ولعل هذا كما يفعل به يوم القيامة من رده إلى النار بعد تقريبه من الجنة.

فقد روى أبو نعيم والبيهقي وابن عساكر وابن النجار أنه «يؤمر بناس يوم القيامة إلى الجنة حتى إذا دنوا منها واستنشقوا ريحها ونظروا إلى قصورها وإلى ما أعد الله تعالى لأهلها نودوا أن اصرفوهم عنها لا نصيب لهم فيها فيرجعون بحسرة ما رجع الأولون والآخرون بمثلها فيقولون: ربنا لو أدخلتنا النار قبل أن ترينا ما أريتنا من ثوابك وما أعددت فيها لأوليائك كان أهون علينا قال: ذلك أردت بكم يا أشقياء / كنتم إذا خلوتم بارزتموني بالعظائم وإذا لقيتم الناس لقيتموهم مخبتين تراؤون الناس بأعمالكم خلاف ما تعطوني من قلوبكم هبتم الناس ولم تهابوني وأجللتم الناس ولم تجلوني وتركتم للناس ولم تتركوا لي فاليوم أذيقكم العذاب مع ما حرمتم من الثواب» والكل عندي محتمل ولا قطع فتدبر.

واختلفوا في أن الحفظة هل يتجددون كل يوم وليلة أم لا؟ فقيل: إنهم يتجددون وملائكة الليل غير ملائكة النهار دائماً إلى الموت، وقيل: إن ملائكة الليل يذهبون فتأتي ملائكة النهار ثم إذا جاء الليل ذهبوا ونزل ملائكة الليل الأولون لا غيرهم وهكذا، وقيل: إن ملائكة الحسنات يتجددون دون ملائكة السيئات وهو الذي يقتضيه حسن الظن بالله تعالى. واختلف في مقرهم بعد موت المكلف فقيل: يرجعون مطلقاً إلى معابدهم في السماء، وقيل: يبقون حذاء قبر المؤمن يستغفرون له حتى يقوم من قبره. وصحح غير واحد أن كاتب الحسنات لا ينحصر في واحد لحديث "رأيت كذا وكذا يبتدرونها أيهم يكتبها أول" والحكمة في هؤلاء الحفظة «أن المكلف إذا علم أن أعماله تحفظ عليه وتعرض على رؤوس الأشهاد كان ذلك أزجر له عن تعاطي المعاصي والقبائح» وأن العبد إذا وثق بلطف سيده واعتمد على ستره وعفوه لم يحتشم منه احتشامه من خدمه المطلعين عليه، وقول الإمام: «يحتمل أن تكون الفائدة في الكتابة أن توزن تلك الصحائف يوم القيامة لأن وزن الأعمال غير ممكن» بخلاف وزن الصحائف فإنه ممكن ليس بشيء كما لا يخفى، والقول بوزن الصحائف أنفسها قول لبعضهم. هذا { وَيُرْسِلُ } إما مستأنف أو عطف على { ٱلْقَاهِرُ } لأنه بمعنى الذي يقهر، وعطفه كما زعم أبو البقاء على { يَتَوَفَّـٰكُم } وما بعده من الأفعال المضارعة ليس بشيء كاحتمال جعله حالاً من الضمير في { ٱلْقَاهِرُ } أو في الظرف لأن الواو الحالية كما أشرنا إليه آنفاً لا تدخل على المضارع، وتقدير المبتدأ لا يخرجه عن الشذوذ على الصحيح. و { عَلَيْكُمْ } متعلق بيرسل لما فيه من معنى الاستيلاء، وتقديمه على المفعول الصريح لما مر غير مرة من الاعتناء بالمقدم والتشويق إلى المؤخر، وقيل: هو متعلق بمحذوف وقع حالاً من { حَفَظَةً } إذ لو تأخر لكان صفة أي كائنين عليكم. وقيل: متعلق بحفظة وهو جمع حافظ ككتبة وكاتب.

و { حَتَّىٰ } في قوله تعالى: { حَتَّىٰ إِذَا جَاء أَحَدَكُمُ ٱلْمَوْتُ } هي التي يبتدأ بها الكلام وهي مع ذلك تجعل ما بعدها من الجملة الشرطية غاية لما قبلها كأنه قيل: ويرسل عليكم حفظة يحفظون ما يحفظون منكم مدة حياتكم حتى إذا انتهت مدة أحدكم وجاء أسباب الموت ومباديه { تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا } الآخرون المفوض إليهم ذلك وانتهى هناك حفظ الحفظة؛ والمراد بالرسل على ما أخرجه ابن جرير وأبو الشيخ عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهم أعوان ملك الموت، ونحوه ما أخرجاه عن قتادة قال: إن ملك الموت له رسل يباشرون قبض الأرواح ثم يدفعونها إلى ملك الملك.

وأخرج عبد الرزاق وابن المنذر عن الكلبـي أن ملك الموت هو الذي يلي ذلك ثم يدفع الروح إن كانت مؤمنة إلى ملائكة الرحمة وإن كانت كافرة إلى ملائكة العذاب. والأكثرون على أن المباشر ملك الموت وله أعوان من الملائكة، وإسناد الفعل إلى المباشر والمعاون معاً مجاز كما يقال بنو فلان قتلوا قتيلاً والقاتل واحد منهم، وقد جاء إسناد الفعل إلى ملك الموت فقط باعتبار أنه المباشر وإلى الله تعالى باعتبار أنه سبحانه الآمر الحقيقي. وقد أشرنا فيما تقدم أن بعض الصوفية قدس الله تعالى أسرارهم قال: إن المتوفي تارة يكون / هو الله تعالى بلا واسطة وتارة الملك وتارة الرسل وغيره وذلك حسب اختلاف أحوال المتوفى. وعن الزجاج وهو غريب أن المراد بالرسل هنا الحفظة فيكون المعنى يرسلهم للحفظ في الحياة والتوفي عند مجىء الممات. وقرأ حمزة «توفاه» بألف ممالة. وقرىء في الشواذ "تتوفاه".

{ وَهُمْ } أي الرسل { لاَ يُفَرِّطُونَ } بالتواني والتأخير.

وقرأ الأعرج { يفرطون } بالتخفيف من الإفراط وهو مجاوزة الحد وتكون بالزيادة والنقصان أي لا يجاوزون ما حد لهم بزيادة أو نقصان. والجملة حال من { رُسُلُنَا } وقيل: مستأنفة سيقت لبيان اعتنائهم بما أمروا به.