خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

قُلْ أَنَدْعُواْ مِن دُونِ ٱللَّهِ مَا لاَ يَنفَعُنَا وَلاَ يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَىٰ أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا ٱللَّهُ كَٱلَّذِي ٱسْتَهْوَتْهُ ٱلشَّيَاطِينُ فِي ٱلأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى ٱلْهُدَى ٱئْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى ٱللَّهِ هُوَ ٱلْهُدَىٰ وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ ٱلْعَالَمِينَ
٧١
-الأنعام

روح المعاني

{ قُلْ أَنَدْعُواْ مِن دُونِ ٱللَّهِ مَا لاَ يَنفَعُنَا وَلاَ يَضُرُّنَا } أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن السدي أن المشركين قالوا للمؤمنين: اتبعوا سبيلنا واتركوا دين محمد صلى الله عليه وسلم فقال الله تعالى: { قُلْ } الخ. وقيل: نزلت في أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه حين دعاه ابنه عبد الرحمن إلى عبادة الأصنام. وفي توجيه الأمر إليه صلى الله عليه وسلم ما لا يخفى من تعظيم شأن المؤمنين أو أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه أي أنعبد متجاوزين عبادة الله تعالى الجامع لجميع صفات الألوهية التي من جملتها القدرة على النفع والضر ما لا يقدر على نفعنا أن عبدناه ولا على ضرنا إذا تركناه، وأدنى مراتب المعبودية القدرة على ذلك.

وفاعل { نَدْعُواْ } وكذا ما عطف عليه من قوله سبحانه: { وَنُرَدُّ عَلَىٰ أَعْقَـٰبِنَا } عام لسيد المخاطبين صلى الله عليه وسلم ولغيره وليس مخصوصاً بالصديق رضي الله تعالى عنه بناء على أنه سبب النزول. وفي الآية تغليب إذ لا يتصور الرد على العقب المراد به الرجوع إلى الشرك منه صلى الله عليه وسلم. والمعنى أيليق بنا معشر المسلمين ذلك. والأعقاب جمع عقب وهو مؤخر الرجل يقال: رجع على عقبه إذا انثنى راجعاً. ويكنى به ـ كما قيل ـ عن الذهاب من غير رؤية موضع القدم وهو ذهاب بلا علم بخلاف الذهاب مع الإقبال؛ وقيل: الرد على الأعقاب بمعنى الرجوع إلى الضلال والجهل، شركاً أو غيره. والجمهور على الأول «والتعبير عن الرجوع إلى الشرك بالرد على الأعقاب ـ كما قال شيخ الإسلام ـ لزيادة تقبيحه بتصويره بصورة ما هو علم في القبح مع ما فيه من الإشارة إلى كون الشرك حالة قد تركت ونبذت وراء الظهر. وإيثار { نُرَدُّ } على نرتد لتوجيه الإنكار إلى الارتداد برد الغير تصريحاً بمخالفة المضلين وقطعاً لاطماعهم الفارغة وإيذاناً بأن الارتداد من غير راد ليس في حيز الاحتمال ليحتاج إلى نفيه وإنكاره».

{ بَعْدَ إِذْ هَدَانَا ٱللَّهُ } أي إلى التوحيد والإسلام أو إلى سائر ما يترتب عليه الفوز في الآخرة على ما قيل. والظرف متعلق بنرد مسوق لتأكيد النكير لا لتحقيق معنى الرد وتصويره فقط وإلا لكفى أن يقال: بعد إذ اهتدينا كأنه قيل: أنرد إلى ذلك بإضلال المضل بعد إذ هدانا الله الذي لا هادي سواه. وليست الآية من باب التنازع فيما يظهر ولا أن جملة { نُرَدُّ } في موضع الحال من ضمير { ندعو } أي ونحن نرد وجوزه أبو البقاء.

وقوله سبحانه: { كَٱلَّذِى ٱسْتَهْوَتْهُ ٱلشَّيَـٰطِينُ } نعت لمصدر محذوف أي أنرد رداً مثل رد الذي استهوته الخ. وقدر الطبرسي «أندعو دعاء مثل دعاء الذي» الخ وليس بشيء كما لا يخفى، وقيل: إنه في موضع الحال من فاعل { نُرَدُّ } أي أنرد على أعقابنا مشبهين بذلك. واعترضه صاحب «الفرائد» بأن حاصل الحالية أنرد في حال مشابهتنا كقولك: جاء زيد راكباً أي في حال ركوبه والرد ليس في حال المشابهة كما أن المجيء في حال الركوب.

وأجاب عنه الطيبي بأن الحال مؤكدة كقوله سبحانه: { { ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ } [التوبة: 25] فلا يلزم ذلك، ولا يخفى أنه في / حيز المنع. والاستهواء استفعال من هوى في الأرض يهوي إذا ذهب كما هو المعروف في اللغة كأنها طلبت هويه وحرصت عليه أي كالذي ذهبت به مردة الجن في المهامه والقفار. والكلام من المركب العقلي أو من التمثيل حيث شبه فيه من خلص من الشرك ثم نكص على عقبيه بحال من ذهبت به الشياطين في المهمه وأضلته بعد ما كان على الجادة المستقيمة. وليس هذا مبنياً على زعمات العرب كما زعم من استهوته الشياطين. وادعى بعضهم أن استهوى من هوى بمعنى سقط يقال: هوى يهوي هوياً بفتح الهاء إذا سقط من أعلى إلى أسفل. والمقصود «تشبيه حال هذا الضال بحال من سقط من الموضع العالي إلى الوهدة السافلة العميقة لأنه في غاية الاضطراب والضعف والدهشة. ونظير ذلك قوله تعالى: { { ومَن يُشْرِكْ بِٱللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ ٱلسَّمَاء } [الحج: 31] وفيه بعد وإن قال الإمام : إنه أولى من المعنى الأول» مع أنه يتوقف على ورود الاستفعال من هوى بهذا المعنى، وجوز أبو البقاء في «الذي» أن يكون مفرداً أي كالرجل أو كالفريق الذي وأن يكون جنساً. والمراد الذين. قرأ حمزة { استهواه } بألف ممالة مع التذكير.

{ فِي ٱلأَرْضِ } أي جنسها. والجار متعلق باستهوته أو بمحذوف وقع حالاً من مفعوله أي كائناً في الأرض. وكذا قوله سبحانه: { حَيْرَانَ } حال منه أيضاً على أنها بدل من الأولى أو حال ثانية عند من يجيزها أو من «الذي» أو من المستكن في الظرف. وجوز أبو البقاء أن يكون الجار حالاً من { حَيْرَانَ } وهو ممنوع من الصرف ومؤنثه حيرى أي تائهاً ضالاً عن الجادة لا يدري ما يصنع.

{ لَهُ } أي للمستهوي { أَصْحَـٰبُ } أرى رفقة { يَدْعُونَهُ إِلَى ٱلْهُدَى } أي الطريق المستقيم أطلق عليه مبالغة على حد ـ زيد عدل ـ والجار الأول متعلق بمحذوف وقع خبراً مقدماً و { أَصْحَـٰبُ } مبتدأ، والجملة إما في محل نصب على أنها صفة لحيران أو حال من الضمير فيه أو من الضمير في الظرف أو بدل من الحال التي قبلها. وإما لا محل لها على أنها مستأنفة، وجملة { يَدْعُونَهُ } صفة لأصحاب. وقوله سبحانه: { ٱئْتِنَا } يقدر فيه قول على أنه بدل من { يَدْعُونَهُ } أو حال من فاعله. وقيل: محكي بالدعاء لأنه بمعنى القول. وهذا مبني على الخلاف بين البصريين والكوفيين في أمثال ذلك. والمشهور التقدير أي يقول ائتنا. وفيه إشارة إلى أنهم مهتدون ثابتون على الطريق المستقيم وأن من يدعونه ليس ممن يعرف الطريق ليدعى إلى إتيانه وإنما يدرك سمت الداعي ومورد النعيق. وقرأ ابن مسعود كما رواه ابن جرير وابن الأنباري عن أبي إسحٰق «بيناً» على أنه حال من الهدى أي واضحاً.

{ قُلْ } لهؤلاء الكفار { إِنَّ هُدَى ٱللَّهِ } الذي هدانا إليه وهو الإسلام { هُوَ ٱلْهُدَىٰ } أي وحده كما يدل عليه تعريف الطرفين أو ضمير الفصل وما عداه ضلال محض وغي صرف. وتكرير الأمر للاعتناء بشأن المأمور به أو لأن ما سبق للزجر عن الشرك وهذا حث على الإسلام وهو توطئة لما بعده فإن اختصاص الهدى بهداه تعالى مما يوجب امتثال الأوامر بعده { وَأُمرْنَا } عطف على { إِنَّ هُدَى ٱللَّهِ هُوَ ٱلْهُدَىٰ } داخل معه تحت القول. واللام في قوله سبحانه: { لِنُسْلِمَ } للتعليل ومفعول { أمرنا } الثاني محذوف أي أمرنا بالإخلاص لكي ننقاد ونستسلم { لِرَبّ ٱلْعَـٰلَمِينَ }، وقيل: هي بمعنى الباء أي أمرنا بالإسلام. وتعقبه أبو حيان بأنه غريب لا تعرفه النحاة، وقيل: زائدة أي أمرنا أن نسلم على حذف الباء، وقال الخليل وسيبويه ومن / تابعهما: الفعل في هذا وفي نحو { { يُرِيدُ ٱللَّهُ لِيُبَيّنَ لَكُمْ } [النساء: 26] مؤول بالمصدر وهو مبتدأ واللام وما بعدها خبره أي أمرنا للإسلام، وهو نظير ـ تسمع بالمعيدى خير من أن تراه ـ ولا يخفى بعده. وذهب الكسائي والفراء إلى أن اللام حرف مصدري بمعنى أن بعد أردت وأمرت خاصة فكأنه قيل: وأُمرنا أن نسلم. والتعرض لوصف ربوبيته تعالى للعالمين لتعليل الأمر وتأكيد وجوب الامتثال به.